بعد حكم الإدارية العليا
الأقباط بين رفض الحكم والعصيان المدنى

قضت محكمة القضاء الادارى يوم الثلاثاء الموافق 14مارس 2006 بإلزام الكنيسة القبطية بمنح المطلق ترخيصا للزواج مرة أخرى، ويوم 29 مايو 2010 أيدت المحكمة الإدارية العليا حكمها السابق ورفضت طعن الكنيسة على الحكم الاول.
لقد فتح هذا الحكم قضايا عديدة ومتشابكة، وانقسمت الاراء حوله بين مؤيد ومعارض، واختلطت الأوراق وتاهت الصورة الحقيقية، وفى هذه المقالة نطرح عددا من هذه المحاور المتعلقة بهذا الحكم:
.
اولا:الزواج المدنى والزواج الدينى
يجادل البعض على أن خضوع الكنيسة لحكم المحكمة هو فى النهاية يصب فى دعم الدولة المدنية واحترام القانون، وهذا الكلام غير صحيح بالمرة. دعم الدولة المدنية لا يأتى من خلال أجبار مؤسسة دينية على مخالفة عقيدتها وأنما بأصدار قانون مدنى ينطبق على جميع المواطنين بصرف النظر عن الدين أو اللون أو الجنس.
والسؤال هل يوافق الأقباط على قانون مدنى للزواج؟.
فى تقديرى الأجابة بنعم كبيرة وواضحة، إذا جاء قانون مدنى محترم ينبع من دولة مدنية وتبقى الشعائر الدينية للزواج اختيارا فرديا محضا، ولا يترتب عليها أى أثار للزواج من الناحية القانونية كما يحدث فى كل الدول الغربية. ولكن ما هى متطلبات هذا الزواج المدنى.
1-أن تترتب جميع أثار الزواج على هذا الزواج دون غيره.
2-أن ينبع القانون من دولة مدنية تفصل تماما الدينى عن السياسى، ومن ثم وجوب الغاء المادة الثانية من الدستور وأى مواد أخرى تتعلق بالدين وكذا تنقية جميع القوانيين من الأشارات الدينية.
3-حق المسيحى فى أن يتزوج من مسلمة أو من أى دين آخر ونفس الحقوق للمسلم بالزواج من أى دين آخر سواء سماوى أو وضعى.
4-الغاء تعدد الزوجات، فهذا يخل بوضع المساواة بين الرجل والمرأة.
5-التساوى فى المواريث وفى كافة المراكز القانونية بين الرجل والمرأة، وأيضا التساوى فى أثار الزواج بين الرجل والمرأة.
6- السماح بالتبنى كما هو معمول به فى اغلب دول العالم.
7-أن يكون حق التطليق للمحكمة فقط وليس بإرادة منفردة لطرف دون الآخر.
8-حق الأبناء فى اختيار الدين الذى يرونه بإرادتهم الحرة فى حالة الزواج المختلط وفى حال تغيير العقيدة.
9-الغاء خانة الديانة من بطاقات الهوية ومن كافة المحررات الرسمية وغير الرسمية وتجريم السؤال عن دين الفرد.
10- الحق الكامل للشخص فى التحول من دين إلى دين بدون أى اجراءات قانونية أو إدارية أو من خلال محررات رسمية، فهذا الحق يتعلق بالعلاقة بين الإنسان وربه ولا يحتاج إلى توثيق وخلافه.
بأختصار الغاء كافة مظاهر الدولة الدينية من الدستور والقوانين والنظام العام والمجال العام.

السؤال الأهم هل ستوافق الدولة على مثل هذا القانون للزواج المدنى؟
الأجابة قطعا بالنفى. إذن الكرة فى ملعب الدولة المصرية وليس فى ملعب الأقباط.
لقد حولت الدولة المصرية رجل الدين إلى موثق زواج وفقا للقانون رقم 462 لسنة 1955، وجعلت جميع أثار الزواج تترتب على الزواج الدينى دون غيره، وطبقت الشريعة الإسلامية على الجميع بما فى ذلك الأقباط التى تتيح لهم هذه الشريعة الإسلامية الاحتكام إلى دينهم فيما يتعلق بموضوع الزواج والطلاق. واقتصر الزواج المدنى على الأجانب،وحتى هذا أيضا يخضع للشريعة،فإذا جاء مسلم اندونيسى للشهر العقارى المصرى لتوثيق زواجه من فلبينية مسيحية يتم له ذلك على الفور، ولكن إذا حضر مسيحى فلبينى لتوثيق زواجه من مسلمة اندونيسية يرفض الشهر العقارى تسجيل هذا الزواج رغم أن كليهما أجانب ولا سلطة للدولة المصرية عليهما.
إذن كل المشاكل تأتى من دينية الدولة فى مصر وليس من المؤسسة الكنسية التى اضطرت أمام هذا الحكم أن تحتمى بالواقع المؤسف وهو الحكم بالشريعة، ودافع البابا عن حقوقه محتميا بالدولة الإسلامية وشريعتها الإسلامية، وظهر وكأنه يوافق على الدولة الدينية من آجل مكاسب آنية.
المشكلة تكمن فى أنه لا توجد دولة دينية فى العالم كله حاليا إلا فى الدول الإسلامية، وعندما يتخلص المسلمون من كابوس الدولة الدينية ستحل كل المشاكل المتعلقة بالتقدم والحداثة والحريات وحقوق الإنسان والمواطنة ووضع الأقليات.
لقد حسم الغرب العلاقة بين الدين والدولة بشكل واضح، فليس من حق الدولة التدخل فى عقائد وشئون المؤسسات الدينية، والكنيسة الكاثوليكية التى يقترب أعضائها من المليار ونصف مليار أكثر تشددا فى القيود على الزواج من الكنيسة القبطية، وفى أكثر الدول علمانية مثل فرنسا لا تستطيع الدولة اجبار الكنيسة على تزوييج المطلقين وفقا للشعائر الكاثوليكية، ومن ناحية أخرى لا تستطيع أي محكمة أجبار كنيسة على إجراء زواج ديني للمثليين جنسيا أو لمطلق، فهذا حق مطلق للكنائس، أما حق الزواج فهو متاح مدنيا للشخص المطلق وفى بعض المدن مثل سان فرانسيسكو للمثليين، ومرشح الرئاسة جون كيري كان مطلقا وتزوج زوجته الحالية المليارديرة تريزا هاينز صاحبة مصانع هاينز زواجا مدنيا لأنه كاثوليكي ولا يحق له الطلاق الديني أصلا ومن ثم الزواج مرة أخرى.


ثانيا: العلاقة بين الكنيسة والدولة
لأول مرة منذ غزو العرب لمصر عام 642 يحكم القضاء المصرى بإلزام الكنيسة القبطية بمنح المطلق ترخيصا للزواج مرة أخرى، فالكنيسة القبطية تتمتع بأستقلال ذاتى Outonomy طوال تاريخها فيما يتعلق بعقائدها الإيمانية وطقوسها واختيارها لرئاستها، وحتى خلال الحكم الأسلامى الطويل ظل لها السلطة المطلقة فى إدارة شئون الأحوال الشخصية للأقباط. وطوال هذا التاريخ الإسلامى كان هناك شبه أتفاق على استقلال الكنيسة القبطية دينيا وتبعيتها السياسية للدولة المصرية، وقد أدى هذا إلى عزلة الكنيسة عالميا وحصر نشاطها الوطنى فى خدمة الدولة المصرية، وكانت الكنيسة هى المفتاح لضبط توجهات الأقباط فى الاتجاه الذى تريده الدولة.. وظل هذا معمولا به حتى فترة الليبرالية المصرية حيث تحرر الأقباط كثيرا فى سلوكهم السياسى عن الكنيسة. وعاد تأثير الكنيسة على مواقف الأقباط مرة أخرى تحت تأثير ما سمى quot; بالصحوة الإسلاميةquot;، والدولة المصرية التى تبنت الأسلمة والمزايدة الدينية فى عهد السادات وخليفته مبارك هى المسئول الأول عن تقوقع الأقباط داخل الكنائس وليس البابا شنودة كما يزعم البعض.
إذن حكم المحكمة هو الذى اخل بمبدأ عدم تدخل الدولة المصرية فى شئون عقيدة الأقباط والمستمر منذ الغزو العربى لمصر، واعتراض البابا على الحكم الأخير هو حق أساسى له وليس تدخلا فى شئون الدولة أو كما يدعى البعض جهلا خلق دولة داخل الدولة.
والبابا شنودة ليس موظفا عاما وأنما شخصية عامة، والقرار الجمهورى بتعيينه فى المنصب هو قرار كاشف وليس منشئا للوظيفة، حيث يمارس البابا دوره ووظيفته بناء على أختيار شعب الطائفة له وفقا لإجراءات دينية محددة ولا يحصل على مرتب من الدولة ولا تحصل المؤسسة الكنسية على أى دعم من الدولة.
والقاضى فى حكمه الأخير ترك وظيفته القضائية وتحول إلى مصلح دينى يرشد الأقباط إلى ما هو الصواب والخطأ فى عقيدهم ويفسر لهم نصوصهم الدينية على هواه ومزاجه.
بوضوح شديد إذا كانت هناك مشاكل داخل الكنيسة فيما يتعلق بأمور كثيرة وليس الأحوال الشخصية فقط، فهى مشاكل داخل جماعة من المؤمنين عليهم التحاور بشأنها وحلها داخل طائفتهم لكى يستقروا على القواعد الحاكمة لعضوية الكنيسة ولمبادئها الإيمانية وليس للدولة شأن بهذا.
باختصار أن الكنيسة القبطية طوال تاريخها حافظت على الإيمان ولم تحافظ على الشعب لأنها تبنت رؤية شاذة ترى أن النشاط السياسى ينتقص من روحانية الفرد، وهى رؤية شاذة عن تاريخ المسيحية كلها، ولهذا ضحت بالأم والجنين من آجل نجاح العملية، فتحول الأقباط من 100% من الشعب إلى حوالى 15% حاليا.. والعبرة من ذلك أن الإيمان لا يكفى للحفاظ على الشعوب وأنما العمل السياسى والنضال السياسى والدفاع عن النفس هو الذى يحمى الشعوب من الضياع والتآكل.... وحتى ضمانات عدم تدخل الدولة فى شئون عقيدتهم جاء الإخلال بها من طرف الدولة تحت ظروف الضعف الشديد الذى يعانى منه الأقباط حاليا.

واخيرا: الخيارات أمام الأقباط
رفض الأقباط لحكم يرون بأنه يخالف عقيدتهم ويتدخل فى شئون دينهم ويخالف القواعد المستقرة بين الدولة والكنيسة منذ مئات السنين هو أمر واجب. ولكن امام الأقباط خيار آخر وهو العصيان المدنى من آجل بناء معادلة جديدة بين الأقباط والدولة طالما أن الدولة هى التى آخلت بالمعادلة القديمة، وطالما أن مؤسسات الدولة كلها تأخذ موقفا معاديا لحقوقهم ومساهما فى تهميشهم ومشاركا فى إضطهادهم.
والعصيان المدنى هو آلية مشروعة دوليا من آجل إعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس وطنية وليست دينية.
الحل هو تفكيك كامل لكافة مؤسسات هذه الدولة الثيئوقراطية المستبدة الفاسدة الخربة وإعادة بنائها على أسس حداثية وطنية، وإذا ساهم الأقباط فى ذلك يكونون قد اسدوا أكبر خدمة لوطنهم بدلا من استجداء حقوقهم من تحت عباءة الدولة الدينية.
أما الأصوات التى تتهجم على البابا شنودة لأنه رفض الحكم وتحدى القضاء على حد قولهم، فنذكرهم بأن هناك آلاف الأحكام النهائية ضد رئيس الجمهورية ووزير الداخلية وكافة وزارات الحكومة وهيئاتها ولم تنفذ، ونذكرهم بأن البابا لم ينهب أموال مصر ولم يعذب مواطنيها ولا يعمل سمسار لتجارة الأسلحة ولا يفرض على رجال الأعمال مشاركتهم فى مشروعاتهم وارباحهم،بل رفض تنفيذ حكم ضد عقيدته الدينية، وعلى هؤلاء أن يتوجهوا بهجومهم إلى المكان الصحيح حيث الفساد والرشوة والمحسوبية وسحل المواطنيين البسطاء فى أقسام الشرطة ومقار أجهزة مباحث أمن الدولة.


[email protected]