لا يستطيع العرب والشرقيون مقاربة موضوع الجنس الثالث كما يتاح للاوروبين والغربيين عموما. فالجنس الثالث عندنا خط أحمر يمكن التحدث عنه من مسافة بعيدة ( قد تمتد لعدة قرون، فالحديث عن ابي نؤاس، وعن الخليفة العباسي الأمين، وعن الشاعر بشار بن برد، و عن أشهر المخنثين في التأريخ لا حرج فيه ما دام يفصلنا عنهم قرون من الزمن)، لكن الحرج كل الحرج في الحديث عن الجنس الثالث الذي يدب اليوم على شوارع المدن العربية (وقد خرقت إيلاف هذا التابو حين نشرت ملفا موسعا عن المثليين العرب في بلدانهم وفي اوروبا).

ويرتبط الفهم العربي والاسلامي لمفهوم الجنس الثالث، بالفهم القديم للعلاقة الجنسية الموروث من الديانات والحضارات القديمة، فالامم والاديان القديمة كانت ترى في فعل الجنس طرفين حصرا، الفاعل ( وهو الذي يقوم بالإختراق) والمفعول به ( وهو الذي يُخترق)، ويعفي هذا التقسيم النظر الى من يقوم بالفعل، فهو ذكرٌ في كل الأحول لأن الذكر هو من يملك أداة الأختراق، ومن يقع عليه الاختراق في الفهم القديم يمكن أن يكون انثى أو ذكر، ولم تهتم الثقافات القديمة بتحديد تسمية للجنس الثالث.

الأديان رسمت حدود الجنس الثالث
وقد ظهر التقسيم بين الجنس الضدي (الذي يجمع الذكر بالأنثى) وبين الجنس المثلي ( الذي يجمع الذكور لبعضهم) بظهور الديانة اليهودية حيث ورد في الاصحاح 18 من اللاويين في العهد القديم quot; وَلا تُضَاجِعْ ذَكَرا مُضَاجَعَةَ امْرَاةٍ. انَّهُ رِجْسٌ quot;،، ثم تبعثر الحكم فيه بظهور المسيحية حيث جاء في الاصحاح 6 من كورنثوس quot;أَمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الظَّالِمِينَ لاَ يَرِثُونَ مَلَكُوتَ اللهِ؟ لاَ تَضِلُّوا! لاَ زُنَاةٌ وَلاَ عَبَدَةُ أَوْثَانٍ وَلاَ فَاسِقُونَ وَلاَ مَأْبُونُونَ وَلاَ مُضَاجِعُو ذُكُورٍ quot;، وغاب المفهوم بظهور الاسلام، الا أن فكرة عقاب من يقع عليهم فعل اللواط ( حصرا) تطورت بمرور الزمان ( إذ لم يسجل التأريخ حوادث تعزير للمثليين في عهد الرسول الاكرم )، وصارت تنسب الى السنة النبوية غير المتفق على نصوصها، وصار الفقهاء يقولون إن من يثبت وقوع فعل اللواط عليه يجب أن يقتل بالقائه من شاهق، وبعضهم أفتى بوجوب حرق جثته.

الغريب أن القرآن الكريم لا يحتوي نصا واحدا يوجب عقاب المثليين بل أن الآية الكريمة في سورة الإنسان تصفهم كالتالي quot; ويطوف عليهم ولدان مخلّدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا quot; وأختلف المفسرون على مدى التأريخ في تفسير الولدان، فقالوا الخدم، وتساءل البعض وهل في الجنة ولاة وخدم؟
ولم تهتم ديانات السماء الثلاث بالجنس المثلي بين الاناث، لأن المفهوم الديني كما أسلفنا قائم على فكرة الاختراق ( وكيف للانثى أن تخترق أنثى وهي لا تملك أداة ذلك؟)، وهذا هو السبب الذي يفسر شيوع السحاق في قصور الخلفاء وقصور ملوك اوروبا وملوك بني اسرائيل على مدى التأريخ.

وبما أن المفهوم هنا يدور حول الاختراق، فإن المخترقين ( المفعول بهم) من الذكور هم الذين يصح أن نطلق عليهم لقب الجنس الثالث...وهم حديث العالم اليوم.
وحفلت قصور خلفاء المسلمين ( العرب وغير العرب ) بعشرات الالوف من الغلمان ( الجنس الثالث) وكانوا يتدخلون في قرارات الخلفاء والولاة والوزراء، لكنهم لم يكونوا يشكلون تهديدا لنساء وجواري الخلفاء لأنهم لم يكونوا ينافسوهن في الانجاب ( ما يعني احتمال أن يغيروا خط ولاية الخليفة ومن يتبعه)، لذا فإن مدونو التأريخ لم يثبتوا تدخلاتهم في حياة الملوك والامراء كما فعلوا مع الجواري.

هيئة أمم للجنس الثالث في كولونيا
وضعت كل هذه التفاصيل نصب عيني وحملت جهاز تسجيل الصوت الصغير في حقيبتي قاصدا ناد شهير للمثليين في كولونيا ( التي تضم أكبرتجمع للجنس الثالث في المانيا). في المدخل لحظت وجود صور اعلام عدد من الدول بينها علم تركيا وعلم ايران الشاهنشاهي وعلم العراق من عهد عبد الكريم قاسم وعلم لبنان وعلم سوريا وعلم المغرب وعلم تونس وأعلام اوروبية وآسيوية وأفريقية.

من منضدة الاستقبال غير الانيقة، تطلع الي رجل في الثلاثين من عمره وفي ملامحه أكثر من سؤال، بادرته بالقول، كيف أتمكن من لقاء بعض المثليين العرب والمسلمين؟ إبتسم الرجل قائلا: يا سيدي لا يوجد عندنا quot; مومسات ذكور - ميل بروستيتيوتسquot; ! وهي التسمية التي تطلق على الصبيان الذي يمارسون الجنس مقابل أجور. قلت له محاولا ان امحو ابتسامته الصفراء : أنني صحفي وأود ان أجري لقاءات مع المثليين العرب والمسلمين. تغيرت الابتسامة المتدلية من جانب الفم الى ابتسامة ترحيب عريضة، وسارع الى تسهيل اللقاء بمن اريد.


بعيدون عن التجهم تملأ البسمة وجوههم، ويدب قوس قزح في الوان ملابسهم، تحلقوا حولي وفي وجوههم اكثر من سؤال. ولكي أبدد تساؤلاتهم بدأت هجومي بالقول، هل من سؤال قبل أن نبدأ الحوار؟ قال احدهم بلهجة لبنانية: أود أن أسألك أنا، ما موقفك من المثليين؟ هل تعتبرهم أشرارا فاسدين؟
أجبت بعفوية: لا، فانا لا أرى فيهم ضررا للمجتمع؟
قال آخر بلهجة عراقية: لو افترضنا أن ابنك جاء وقال لك أنه مثلي، ماذا ستفعل؟
أجبت بمنتهى الجدية: أنا لا اتدخل في خيارات أبنائي عموما، وهو إن شاء أن يكون مثليا فلن يخبرني على الارجح لأنه سيعتبر هذا من خصوصياته. وبادرته بالقول: منذ متى أنت في المانيا؟ فاجأني بانه لم يمض في المانيا سوى 4 أعوام، فسألته بسرعة محاولا أن اتجاوز غصة حرج تعلقت بحنجرتي: هل كنت من الجنس الثالث في العراق؟ قال: نعم موضحا أنه كان يشعر منذ الصغر بميول للذكور، ولكنه استفاد من وجوده في المانيا بصفة لاجيء وصار يمكنه ان يلتقي بحرية بمن يشبهونه. قلت له وأنا اتجنب النظرفي وجهه: هل انت سالب، أم موجب؟
ضحك وهو ينظر في وجهي وقال: هذه من الخرافات الشائعة عن المثليين، ليس هناك مثلي سالب ومثلي موجب، انهم يتبادلون الادوار، لأن رغبات الانسان تكون احيانا ذكرية وفي احيان اخرى تكون انثوية.
حاولت أن افتح جهاز تسجيل الصوت لأسجل بعضا من الاحاديث الا أن أغلب الموجودين ( خصوصا العرب منهم) رفضوا ذلك، مفضلين الاكتفاء بلقاء مكتوب دون صور ودون أصوات.

حريتهم وحريتنا
قلت للبناني: في لبنان يعيش الجنس الثالث حرية نسبية، فلديهم اندية يلتقون بها، وهم لا يتحرجون عن الكشف عن انفسهم في تلك الاندية، فهل وجت شيئا جديدا من حرية المثليين في المانيا؟
قال م. ص : الأندية التي تتحدث عنها في لبنان هي اماكن يعمل فيها مومسات ذكور، ويلتقي هؤلاء الصبية بزبائنهم في هذه الاندية، وهم لا يكشفون عن انفسهم بالشكل الذي نراه هنا، بل يغرون زبائنهم كما تفعل فتيات الملاهي، وهذا ليس شكل من الحرية بل هو امتهان للانسان، هؤلاء يبيعون انفسهم مقابل بضعة دولارات.
دخل الحديث شاب من تونس فقال: الحرية التي تتوفر لنا هنا تصل الى حد الاعتراف بالحق المدني، أنا متزوج من رجل هولندي، وعقد زواجنا رسمي موثّق في المحكمة. أين تجد مثل هذه الحرية في بلادنا؟
اغتنمت فرصة انفتاحه في الحديث وقلت له: ماذا تستفيد من عقد زواج من رجل، اذا كنت تستطيع ان تعيش معه وتفعلان ما تشاءان أمام أعين الناس دون اعتراض؟ اليس الزواج نوعا من القيد في هذه الحالة؟
ضحك قائلا: انه نوع من القيد الى حد ما، فزوجي لا يمانع في ان اضاجع من اشاء من النساء، لكنه لا يسمح لي قط أن انام مع أي رجل؟
سألته بسرعة: هل انت سالب مع زوجك؟ ضحك وهو ينظر الي بغنج وقال: نعم انا سالب معه لأنه يكبرني بخمسة عشر عاما، أنا في الخامسة والعشرين وهو في الأربعين...انه زوجي، وأنا امراته في هذه الحالة؟ ولكني ذكر مع الاناث، وعندي اكثر من صديقة.
عدت الى محدثي العراقي أسأله: ماذا تقول في هذا أنه سالب على مدى الخط؟
ضحك وقال: متى ما قرر أن يفترق عن زوجه سيكون حرا في انتخاب شريكه، وهكذا سيكون سالبا أحيانا وموجبا في احيان اخرى!
بادر التونسي بالحديث مرة اخرى قائلا: نعم، اتفق معه فيما قال، لكني في الوقت الحالي مستمتع بدور الزوجة.
قلت له :منذ متى انت متزوج؟
قال: عشنا كأصدقاء سنتين، ونحن متزوجان منذ سنتين.
التفتُ الى رجل تركي في اوساط الثلاثين من عمره يجلس الى يميني، أسأله بالالمانية: ما وضع المثليين في تركيا؟
الجنس الثالث في الريف أكثر ( لكنه غير معلن )
قال: العلاقات المثلية شائعة في الريف التركي أكثر من المدن، وقد تزايد حجم الظاهرة في السنوات العشر الاخيرة لأن المجتمع الريفي التركي أصبح اكثر محافظة مما كان وصار اختلاط الجنسين أصعب، فتوسعت ظاهرة الجنس الثالث؟
قلت له: معنى كلامك أن سهولة الاختلاط والحرية الجنسية تقلل من ظهور الجنس الثالث؟
اجاب متلعثما: ليس بالضبط، ولكني غادرت تركيا منذ 10 اعوام، وقد زرتها آخر مرة قبل عامين فوجدت المثليين في كل مكان من الريف، وأعتقد ان السبب هو الكبت، فالشبان لا يجدون اناثا يستجبن لهم، فيبحثوا عن ذكور يتشبهون بالاناث وهذا طبيعي...الموضوع مثل العرض والطلب، حين توجد اناث يذهب اغلب الذكور اليهن، وحين لايوجد اناث يصبح بعض الذكور اناثا ويذهب الذكور لهم، هذا ما يحدث في عالم الحيوان ايضا، فخيول السباق لا يحق لها الاختلاط لأن العلاقة الجنسية تؤدي الى أن يفقد الحصان كثيرا من قوته و لايعود يركض بسرعة، ما يحدث في اسطبلات خيول السباق أن احد الأحصنة يتحول بمرور الوقت الى فرس ويبدأ يدعو اليه الخيل بأن يرفع ذيله الى أعلى كاشفا عن مؤخرته، وحالما يدرك مدربوهم ما يحدث يسارعون الى قتل الحصان الذي تحول الى فرس بحقنه بمادة سامة، تماما كما يحدث في بعض بلداننا مع الجنس الثالث!
قال مهران.ت. وهو ايراني يتحدث الالمانية: انهم يعدمون المثليين المساكين في ميادين المدن الايرانية، لا لشيء الا لأنهم دعاة محبة وسلام، وفي العراق يلصقون مؤخراتهم بالغراء لكي يقتلوهم، هناك دائما ذريعة لقتل المثليين، واعتقد ان المصري المسكين الذي قتله رجال الامن في الاسكندرية كان مثليا وفبركوا له تهمة وقتلوه..انا استنتج ولم أقرأ شيئا بهذا الخصوص بالطبع.
قلت له: منذ متى أنت مثلي يامهران؟
أجاب: اخترت الجنس الثالث منذ كنت في الرابعة عشرة من عمري،واليوم صار عمري 32 عاما، انا لا اميل قط الى النساء، طلباتهن كثيرة وهن مزاجيات في الغالب ويصعب ارضائهن، هن لا يصلحن حتى لاداء وظيفتهن الطبيعيةquot; الزواجquot;، وسيأتي يوم يقرر أغلب الرجال فيه أن يعيشوا مع رجال آخرين بدلا من العيش مع نساء.
قلت له وانا لا اخفي ابتسامتي، ولكن ليس كل الرجال مثليين!
قال: هذا كلام بعيد عن الحقيقة، في كل إنسان ذكر وانثى، والامر يعتمد على أيّ منهما يسود الانسان، فاذا ساد الذكر يصبح هذا الانسان ذكرا حتى إذا كان امراة، وإذا سادت الانثى يصبح هذا الانسان أنثى حتى إذا كان رجلا!! هكذا هو الامر، فيك الان ذكر وانثى، ولكنك منذ صغرك رجّحت الذكر، فاصبحت ذكرا وصار لك ابناء، لكن quot;غيدو فيستر فيلهquot; وزير خارجية المانيا على سبيل المثال لم يكن مثلك، فقد تساوى عنده الذكر والانثى فاختار أن يعيش مع زوج ( أو زوجة ذكر!) لا ندري...على كل حال هو نموذج لازدواج الجنس في هذا العصر، ولم يؤثر هذا قط على مستقبله السياسي، تخيل مثلا لو كان وزير الخارجية في سوريا مثليا؟ كيف سيكون وضعه؟
قلت بسرعة محاولا أن أمسك بشاطيء من وضوح الرؤية: هل تعتبرون المثلية ظاهرة طبيعية، ام انكم تجدون لذة في هذا الفعل فتحاولون ان تصوروه على انه أمر طبيعي؟ تعالت الاصوات واندلع خلاف واضح.
قلت للعراقي الذي حدثني في البداية: لو وجدت عند اخيك الصغير جدا ميولا مثلية، هل تحاول أن تغير مسار هذه الميول باتجاه الضدية الجنسية، أم ستشجع هذا التوجه عنده وتدفعه الى أن يكون مثليا؟
ألّجمه السؤال فلتعثم قبل أن يجيب: لا أدري حقا، لم أجرب مثل هذا الامر، ولا أعرف إن كانت اخي الصغير يمتلك ميولا مثلية، عليّ أن اواجه التجربة لأقرر ماذا سأفعل، لكنه حقيقة تحد صعب جدا!
غامت الرؤية وتعقّد المشهد فوقفت أودعهم، قال مهران الايراني : شكرا للقاء، ارجو أن لا تحذف منه شيئا، وأود أن اقول لك أن الجنس الثالث في المانيا سوف يحيي في الحادي والثلاثين من تموز - يوليو وحتى السابع من اغسطس-آب المقبل مهرجان quot;فخر المثليينquot; في كولونيا تحت شعارquot; كن جزءا منه- بي بارت اوف إتquot;، أنا ادعوك للحضور وتغطية الفعاليات وسابعث لك بريدا الكترونيا يتضمن هوية تتيح لك المشاركة.
شكرتهم وقررت مع نفسي أن أغطي هذا الموضوع نهاية تموز المقبل.

بون- صيف 2010