عاش اتاتورك فترة من حياته كضابط عسكري في مناطق من القارة الاوروبية كالبلقان واليونان والمانيا وتأثر بالحياة الإجتماعية لتلك المجتمعات. كان يحلم دائماً أن يصبح الاتراك مثل اليونانيين على الأقل في الملبس وبقية العادات الإجتماعية المتطورة على تركيا حينها quot;يلبسون الملابس النظيفة والأنيقة ويشربون الخمر ويرقصون الفالس ويستمعون الى السيمفونيات ويقيمون في مساكن جميلة بين الورود والأزهارquot; أي تقليد الغرب في كل مظاهره، وترك كل ما يمت بصلةٍ الى العادات والتقاليد التركية والإسلامية التي صار ينظر اليها بعين الدونية والإحتقار حتى وفاته.

بعد تأسيسه للجمهورية عام 1923 وتربعه على عرش السلطة كحاكم بدأ اتاتورك بتطبيق ما كان يحلم به سابقاً. فرض اتاتورك على شعبه اللباس الاوروبي أي البنطال وربطات العنق كذلك فرض على كل فرد لبس القبعة وأصبح قانوناً مع فرض الغرامات والعقوبات على المخالفين من أبناء الشعب المسكين الذين وجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها في الملبس الذي فُرِضَ عليهم، وكأنهم مهرجوا السيرك في الشوارع والساحات. الملابس المفروضة كانت تحتاج الى التنظيف والكوي والإعتناء الخاص كما هو معروف. ولكن الاتراك الذين كانوا يعيشون في الريف وعلى الجبال، بل حتى ساكني المدن لم تكن لديهم أية تجربة سابقة مع هذا النوع من الملبس عدا أفراد النخبة، فكان منظرهم يدعو الى الشفقة والسخرية في آن واحد.

الشعب المسكين يلبس تلك الملابس الاوروبية ولا يعرف شيئاً عن المكواة. يلبس القبعة ولا يعرف كيف يٌعتنى بها؟. الأكثرية الساحقة من الشعب كانوا يبدون في مظهر غريب وتفوح منهم رائحة العرق و القذارة، علماً أن الغالبية لم يكن لديهم المال اللازم لشراء طقمين ليلبس أحدهما حتى يتم تنظيف الآخر. هذه التقليعات الكماليزمية كانت تطلق عليها ولا تزال إسم quot;الثورات الكماليةquot; والمثال المذكور أعلاه يسمى بـquot;ثورة الزي أو القيافة quot;. كل تلك quot;الثوراتquot; كانت تدرس في كل المدارس بما فيها الجامعات وفي كل الكليات ومنها كلية الطب، وقد عاصر كاتب هذه السطور ذلك في سبعينات القرن الماضي في كلية الطب جامعة استانبول. إحدى التراجيديات المتعلقة بالملبس عايشتها أيضاً في بدايات الثمانينات حيث كنت أعمل في قسم أمراض الصدر التابع لجامعة انقرة.

المؤسسة العسكرية تعتبر الكماليزم أقدس مقدساتها. عند إستيلاء العسكر على الحكم بعد إنقلاب ايلول 1980 كان من ضمن أولى قرارات الجونتا هو إعادة الروح الى ثورة quot;الزيquot; وصدر القانون المنظم للتطبيق. القانون كان يفرض على كل العاملين في الدولة تعليق ربطة العنق quot;الكرافيتةquot; ومنع منعا باتاً اللحى والشوارب. كان على الجميع قص الشوارب واللحى ورميهما الى سلة القاذورات. لقد فضل البعض ترك الوظيفة على قص اللحية أو الشارب لاسيما الكبار في السن.

عباس كان يعمل كبواب في قسم الامراض الصدرية. كان محبوباً لدى كل العاملين، خدوم لا تفارقه البسمة. كبقية العاملين في الدولة كان عباس يعلق ربطة العنق التي لم يعرفها سابقاً، اللهم في يوم عرسه؟. على مدى أشهر طويلة لم يغير عباس الكرافيتة الوحيدة لديه. القذارة والرائحة الكريهة كانت تنبعث من ياقة القميص ومن ربطة العنق quot;الثوريةquot; والغالية على الجونتا العسكرية.

المسكين عباس لم تكن لديه الجرأة على فك ربطة العنق في البيت حيث لم يكن يستطيع إعادة ربطها، لذلك فضل التضحية بالتعايش مع القذارة والروائح على التجرؤ بالإخلال بمبدأ كمالي يعبده الإنقلابيون الذين كانوا يحكمون بالقبضة الحديدية بزعامة جنرال الانقلاب العسكري كنعان افرين.

إذا كان هذا هو حال عباس وهو يعمل في مشفىً جامعي وفي قلب العاصمة وبعد إنقضاء ستين عاماً على ثورة quot;الزيquot; في العشرينات، فكيف كانت حالة أجداده في البدايات؟؟؟. ليس صعباً تصور الحالة المهلهلة والمشينة لبقية أفراد الشعب المسكين في العشرينات.

النخبة وفي المقدمة اتاتورك بالذات كانوا مهووسين بإرتداء آخر الموديلات الاوروبية، وإذا أردنا إجراء مقارنة بين منظر النخبة وعامة الشعب حينئذٍ لوجدنا نفس الفرق الموجود بين المرحوم الفيس برسلي وطيب الذكرعباس.

التطور ولاسيما في الشأن الإنساني لا يمكن أن يحدث بالقوة أو بإصدار القوانين المفبركة. هذه quot;الثوراتquot; الكمالية حفرت آثاراً عميقة في نفسية الفرد التركي، منها فقدان الثقة بالنفس والشعور بالدونية وعبادة المظاهر لاسيما عقدة الإنبهار بكل شيء قادم من الغرب quot;الحضاريquot; بمحاسنه ومساؤه لا فرق في ذلك.

إحدى تلك المظاهر والتي أصبحت مقياساً على تطور الفرد في مجتمعه ومصدر إفتخاره كان تحديد الإنجاب. أولى الخطوات في هذا المجال بدأها اتاتورك بالذات حيث أنه لم يخلف أولاداً. كل شيءٍ كان يصدرعن اتاتورك كان مقدساً لدى النخبة التي صارت على نفس الدرب. وأصبح تحديد الإنجاب بمرور الزمن رمزاً قومياً وحضارياً لدى عامة الشعب أيضاً. تحديد الإنجاب هو أمر إيجابي، بل ضروري دون شك ولكنه تحول الى كارثة لم تكن في الحسبان على يد العنصريين من منظري الكماليزم. هذا سيكون موضوع الحديث القادم وسنرى كيف تم quot;إستيلاء الكرد على تركياquot; وهو لب موضوعنا هذا.

تركيا لاتزال تدفع فواتير مؤسس الدولة التركية كمال اتاتورك والذي بنى الدولة الحديثة على مبادئ الكماليزم. مبدأ الكماليزم لم يكن يعدو كونه أحلاماً وردية لضابط شاب هو مصطفى كمال والذي لقب فيما بعد بـ quot;اتاتوركquot; بعد تأسيسه للدولة التركية.

طبيب كردي سوري السويد
[email protected]