قد لايصدق القارئ الكريم إن قلت بأن اختيار عنوان مناسب للمقال أخذ مني جهدا كبيرا. وسبب ترددي كان في إيجاد صفات دقيقة ومناسبة لما سيؤل إليه مصير العرب والمسلمين ومستقبلهم في قابل السنين. فقد تراوح إختاري للصفات المناسبة ما بين (التخلف) و(الفناء). وكنت مطمئنا بأن أيه صفة أخترت فهناك من بين (النخب!) العربية المعاصرة من سينبري ليصحح خياراتي قائلا: ستطلق إيران أحد ملاليها الى الفضاء الخارجي وهو يمتطي عباءته السوداء. ثم ينبري آخر ليقول: وسوف ينطلق أحد ألأئمة من الخليج في أثره على عباءته الصفراء. إذاً؛ فالتنبؤ بمصير امة كأمتنا العربية او ألإسلامية بدقة ساعة الكترونية او حتى رملية مسألة تتفاوت بین شخص وأخر؛ خصوصا إذا كان الشخص من النخب المسيسة التي نشأت وترعرت في بيئة الجاهلية الحديثة. لكن إستقراء المستقبل بناء على معطيات واقعية واضحة أمر ممكن. وهو موضوع هذا المقال.
تطرح النخب العربية وألإسلامية الواعية، ومنذ زمن بعيد، التساؤل الخطير الآتي: (ما أسباب تخلف العرب والمسلمين عن ركب الأمم المتقدمة !؟).
والحقيقة؛ فأن هذا التساؤل المزمن قد تحول الى هاجس مقلق للمثقفين المتنورين حتى بات الشغل الشاغل لهم على مدار الزمن. ومما جعله يأخذ هذا المنحى الملح الخطير أن كافة عوامل التقدم المادية والمعنوية الظاهرة التي نشاهدها وهي تفعل فعلها ألإيجابي في ألأقطار المتقدمة؛ متوفرة في مجتمعاتنا وأقطارنا؛ وعلى نحو واضح لايحتاج الى برهان.
وقد حاولت تلك النخب تلمس ألأسباب الفعلية لذلك التخلف فذهبوا مذاهب شتى. فتشعبت آراؤهم وتحليلاتهم في كل إتجاه؛ وأتخذت لها مسارات لينة أحيانا او متطرفة أحيانا أخرى وفقا للظروف التي كانوا يعيشون فيها. فجاءت المحصلة في الأخير مبعثرة فلا يمكن الركون اليها. وهذه الظاهرة بالذات كانت وما تزال حتى اليوم تشكل أحد أهم أسباب التخلف. فلا المثقف الواعي بقادرعلى قول مايريد خوفا من التنكيل والعقاب، ولا القيادات والنخب الحاكمة ترغب بألإستماع الى النصائح خوفا من فقدانها لمناصبها وامتيازاتها التأريخية إن هي استجابت لها ونفذتها. وقد ظلت هذه المعادلة الشريرة تحكم العلاقة بين الفئتين قرونا طويلة وحتى أيامنا هذه. فلم تتمكن تلك النخب من تغييرها لصالحهم اولصالح المجتمع الذي ظل يتطلع الى حياة أفضل دون أمل.
ولم يكن ما ذكرناه هو السبب الرئيس في ثبات تلك المعادلة الشاذة وديمومتها؛ لكنه في واقع الحال يشكل مُخرجا ونتيجة لعوامل ذاتية وعميقة الغور باتت تتحكم في عقل المواطن العربي او المسلم وتستقر في أعماق ذاكرته ووجدانه؛ منها العقدي (الديني) والفكري والثقافي والنفساني وألإجتماعي؛ مجتمعة ومتداخلة.
وقد تمكن ألأعداء؛ ومنذ ألأيام ألأولى لظهور بوادر الخلافات العميقة التي تفجرت بين المسلمين أنفسهم من استغلالها الى أبعد الحدود؛ وخصوصا في أعقاب مقتل الخليفة (عثمان بن عفان) بيد الغوغاء؛ وإغتيال الخليفة (عمر بن الخطاب) على يد احد عملاء الفرس إنتقاما وثأرا لكونه القائد العربي المسلم الذي حطم واحدة من أعتى ألإمبرطوريات العسكرية في التأريخ القديم؛ وهي الأمبرطورية الفارسية التي إحتلت العراق وأستغلت ثرواته وخيراته وموقعه الإستراتيجي لأكثر من أحد عشر قرنا؛ قبل الفتح. ومن هنا جاء حقد القوميين الفرس عليه. ولم يكتفوا بذلك بل أمعنوا في حقدهم بإحياء ذكرى قاتله أبي لؤلؤة؛ وليس لأي سبب آخر. فليس بين الفرس وبين الخليفة (عمر) شئ غير ذلك الثأر.
وكان إنتصار المسلمين في معركة فتح العراق أشبه بالمعجزة؛ ذلك ان جيش المسلمين لم يكن بمستوى جيش الفرس، غير أن سلاحه الماضي كان سلاح العقيدة وألإيمان بوحدانية الله. لذلك نجد حكام فارس الذين استسلموا للعرب وهم صاغرون قد إضمروا العداء لنسف أسس العقيدة ألإسلامية من الباطن بإدخال الطقوس والأفكار الزرادشتية عليها كما نلمس ذلك اليوم.
ولعل من أثر قوة الدين الجديد أن إلتحق معظم سكان فارس بالإسلام يومذاك؛ فأصبحوا بذلك سندا للدولة العربية الإسلامية. فنبغ بينهم فقهاء ونحويون وفلاسفة وعلماء واطباء وأدباء كبار. فتشبعوا بالثقافة العربية من خلال روافد ألإسلام الصافية؛ حتى أن جاءت الحركة الصفوية في القرن العاشر الهجري بقيادة (إسماعيل الصفوي) ليكمل الصورة التي بدأها أجداده في إنشاء دولة فارسية قومية مغالية ألبسها رداء الإسلام؛ لكنها في جوهرها وطقوسها وثقافتها وشعارتها لا تمت بصلة الى ألإسلام ألأصل. فقد إستغل المذهب (الشيعي) وجعل منه أحد المكونات الثانوية للقومية الفارسية؛ ولغتها ألأم هي الفارسية؛ فضلا عن التراث الشعبي المجوسي الذي مايزال كثير من طقوسه وأعياده وتقويمه معمول بها. وقد صنع من هذه الخلطة الجديدة نظاما سياسيا توسعيا استمر حتى يومنا هذا. وكان غرضه البعيد هو ضرب ألإسلام أولا ومن ثم ضم (شيعة) العراق بقوة السلاح؛ وجميعهم عرب ومن قبائل عراقية أصيلة؛ وبعضها ينتسب لآل البيت؛ الى ألإمبرطورية الفارسية الجديدة ليعيد أمجاد فارس القديمة.
ثم استمر مسلسل ألإنتقام والثأر بإغتيال الخليفة الرابع ألإمام (علي بن أبي طالب)؛ تلك الجريمة الرهيبة النكراء التي شكلت منعطفا خطيرا في مستقبل الخلافة ومستقبل ألإسلام. فاستغلت نتائجها جهتان؛ إن لم تكونا مشاركتين فعلا في تنفيذها: ألأمويون والقوميون الفرس الذين برعوا في التسلل الى العقل العربي ألإسلامي الناشئ واللعب على الغرائز الحيوية البدائية للناس.
ولم تختلف أساليب ألأمويين؛ كحركة سياسية؛ عن أساليب الفرس كثيرا. فالطرفان استعملا اساليب الخداع والتضليل وإفساد الذمم وألإغتيالات في سبيل تحقيق مآربهم السياسية في الإستيلاء على السلطة. وكان هذا هو ديدن آل سفيان منذ بداية البعثة النبوية، وهو كذلك ديدن الفرس في ذلك الوقت واليوم. وعلى القارئ الكريم ان يستحضر ما قرأه في كتب التأريخ عن الدور التخريبي الذي قام به الفرس البرامكة للتدخل في شؤون الخلافة العباسية وإذكاء نيران التمرد هنا وهناك مما أدى الى تقويضها في النهاية. كما ينبغي له ان يرجع الى ماكتب عن الصراعات والحروب المفتعلة التي اشعلها الأمويون وأتباعهم ضد آل البيت وفي مقدمتها حربا صفين والجمل اللتان دقتا إسافين ألإنقسام بين المسلمين. ثم جاءت ثورة (الحسين) ليتم القضاء عليها بإستعمال مختلف الوسائل الخسيسة من خداع وتضليل وتهديد للوصول الى السلطة. وما تزال آثار تلك السياسة الحمقاء تفعل فعلها السلبي في حياة ألأمتبن العربية والإسلامية حتى اليوم. وخصوصا وأنهم ما أشعلوها إلا للقضاء على فكر ألإمام (علي) ألإنساني الإصلاحي الذي نهل من نبعي كتاب الله والسنة؛ ولم يشعلوها لمحاربة أعداء الإسلام.
ومن المؤسف القول بأن ما جرى يومها وما حدث بعدها من لعن (ألإمام علي) وذريته من فوق المنابر وملاحقة أنصاره؛ وما نشاهده اليوم من تفرق المسلمين وتصارعهم؛ وأستغلال الفرس لتلك ألأحداث؛ بل وأعتبارها من مآثرهم التأريخية الكبرى؛ ما هو إلا ثمرة سامة من ثمار تلك السياسة الخرقاء. وإلا... هل يصدق عاقل بأن القوميين الفرس هم أكثر حرصا على أفكار ومبادئ ألإمام (علي) من العرب المسلمين أنفسهم !؟.
ومن المؤسف القول بانه لولا تلك السياسة الحمقاء التي نهجها أنصار النظام السياسي الأموي من النخب الدينية والسياسية العربية لما تمكن الفرس من السيطرة على الساحة الدينية والسياسية العربية ألإسلامية طوال هذه السنين وهم يرفعون راية الإسلام وراية آل البيت والتغني بمآثرهم وبملاحمهم؛ حتى إنطبق عليهم المثل القائل: ( ملكيون أكثر من الملك).
ولا أريد هنا ألخوض في شعاب التأريخ الملتوية، ذلك أن هذا ألأمر هو من إختصاص المؤرخين. لكنني سوف أختار عددا من المحطات للوقوف عندها لتشخيص العوامل الرئيسة التي صاغت الشخصية القيادية والنخبوية العربية وتحكمت في طبائعها وفي سلوكها المهتز. تلك الشخصية النمطية التي تبلورت على النحو البائس الذي نراه أليوم وهي تتخبط في متاهات الفكر والسياسة بل وفي جميع المجالات. ومن نافلة القول بأن ماينطبق على القادة والنخب ينطبق أيضا على عامة الناس الذين لم يكن لهم دور يذكر في إدارة شؤون البلاد.
والعرب؛ وكما هو معروف؛ من ألأقوام الجزرية الضاربة في أعماق التأريخ. وكان نظامهم ألإجتماعي / السياسي يقوم على فكرة القبيلة بإعتبارها نواة المجتمع. وقد تميز نظامهم بخصائص معروفة تناولت شؤون الحكم وتداول السلطة وفق أعراف خاصة تقوم على التشاور بين أهل الحل والعقد من وجوه القبيلة. لكن الوجه الأكثر بروزا كان في فكرة حصر الرياسة والسلطان ضمن نطاق ألأسرة ألأقوى او ما يسمى في عصرنا الراهن بفكرة (التوريث) وحكم (الفرد) اللذين نسفا من ألأساس المبدأ القائل: ( وأمرهم شورى بينهم) ومبدأ: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) واللذين جاء بهما ألإسلام من بين ما جاء به من قيم أخلاقية وإنسانية رفيعة. كما اتصف الفرد العربي القبلي ببعض العادات السلبية منها ألإنكفاء على الذات والولاء للقبيلة والولاية المطلقة لرأسها؛ والتعالي على الآخر وأزدرائه أحيانا إن كان دونه في السلم القبلي او العرقي او القومي او الإجتماعي. وعرف العرب كذالك شرب الخمر وقتل البنات وأستحلال مال الغير والربا وسبي ألأعداء وامتلاك الجواري والعبيد وألإيمان بالخرافات وإباحة العلاقات الجنسية...ألخ. وهو النظام الذي أطلق عليه بالجاهلية الأولى.
وجاء الإسلام ليغير من طبيعة ذلك النظام المتخلف؛ وليقتلع تلك العادات السلبية من جذورها؛ وليبشر الناس بدين جديد يقوم على العدل والمساواة والسلام بين جميع البشر. وقد أوضح كل ذلك في الكتاب وفي السنة.
فقد جاءت لغة القرآن آية في البيان وفي الإعجاز اللغوي؛ وفي النسق العلمي والمنطقي لآياته وكلماته وحروفه على نحو يبعث على ألإعجاب وألإنبهار. كما عالج القرآن قضايا علمية كثيرة لم يكن بعضها معروفا من قبل؛ فقدم لها الحلول والتفسيرات المقبولة مما أثار دهشة العلماء المعاصرين حتى ان بعضهم اعتنق الإسلام لهذه الأسباب. هذا فضلا عن كل ما يتعلق بشؤون الكون وخلقه وما وراءه من خفايا وأسرار؛ وبشؤون الحياة وألأخلاق والمعاملات وعلاقة الإنسان بربه وعلاقته بأبناء جنسه.
لكن ألأهم من بين تلك القيم والخصال الحميدة التي رسخها ألإسلام كان إعتبار ألإنسان قيمة ربانية عليا فلا يجوز كبت حرياته اوايذاؤه او تعذيبه. كما عزز حب العمل وتقدير العلم والعلماء والدفاع عن مقدسات الدين والعقيدة وألأرض والعرض؛ والصبر على المكاره؛ وإكرام الضيف؛ والحفاظ على حقوق ألأسرى؛ وغيرها من المقدسات. بل أن الإسلام أكد على الرفق بالحيوان بشكل لا لبس فيه. والإسلام؛ كذلك؛ هو اول من وضع اسس النظام (الديمقراطي) الفطري؛ وقوامه الحفاظ على حرية الإنسان وحقه في التعبير وفي حياة حرة كريمة. قال عمر: (متى إستعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم أحرارا؟) وقال ايضا: (لاخير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فىَّ إن لم أسمعها). وقد طبقها طوال حكمه. وكذلك فصل ألإسلام ما بين السلطة الحاكمة وبين سلطة القضاء الذي عرف بالعدل والإستقامة والإستقلال. وقصة مثول ألإمام (علي) مع اليهودي امام القاضي شريح الكندي معروفة. كما وضع ألإسلام نظام التكافل والضمان الإجتماعي؛ والحفاظ على حقوق المرأة.
لكن ألأمر ألخطير الذي واجه النبي (ص) والمسلمين الأوائل كان في إختيار وسائل التنفيذ وأساليب التطبيق. ذلك ان مواجهة القبائل العربية التي كانت تدين بالوثنية لقرون عديدة وكانت لها تقاليد بالية ومتجذرة في المجتمع؛ تحتاج الى عمل خارق أو إلى ما يشبه المعجزة. وهنا تجلت حكمة النبي (محمد) (ص) وعبقريته وبعد نظره. وهو الوصف الذي أطلقته عليه نخبة متخصصة من الأوربيين فعدوه أعظم رجل في التأريخ على الإطلاق؛ ليس كنبي فحسب بل وكسياسي ورجل دولة من الطرازالرفيع.
وهنا؛ ولكي نسلط الضوء الكاشف على صلب الموضوع؛ ينبغي أن ندقق مليا في حركة المجتمع المكي والمديني منذ اليوم الأول لإعلان الدعوة ألنبوية والتبشير بالإسلام وحتى وفاة الرسول ألأعظم. ذلك ان تلك المرحلة ألإنتقالية تعد من أخطر المراحل في تأريخ الإسلام. فقد كانت بمثابة المختبر الذي إعتلجت في بوتقته ألأفكار الجديدة وألأفكار القديمة؛ وفي وسط من الدسائس العلنية والخفية التي كان وما يزال يحيكها اليهود والفرس الذين شعروا بالخطر ألأكيد يتهدد مستقبلهم ومستقبل عقيدتهم من قبل ألدين الجديد.
ويلاحظ المرء ان شؤون الدولة العربية الإسلامية قد سارت على نحو طبيعي وسلس نسبيا على عهد الرسول ألأعظم (ص) و شطر من عهد ابي بكر الذي ضرب بيد من حديد جموع المتمردين أيام حرب الردة؛ وعهد (عمر) الفاروق الذي تميز بالعدل والحزم والشفافية. غير أن الدسائس كانت ما تزال تحاك في الخفاء بين زعماء القبائل للسيطرة على الحكم؛ وفي مقدمتم آل سفيان الذين كانوا ينظرون الى ألإسلام كبوابة للوصول الى (الملك) الصرف لا كدين تحتضنه دولة ناشئة تؤمن بالتطور والتقدم. وكان ألأعداء الخارجيون ما انفكوا يزرعون بذور الفتنة بين هذه الفئة وتلك. ولعل المؤرخين يتذكرون الفتنة التي اشعل فتيلها اليهودي (عبد الله بن سبأ) وهو يرفع راية الإصلاح مستغلا ومزيفا أفكار الإمام (علي). وهو عين النهج الذي استنسخه القوميون الفرس وما يزالون يعملون عليه حتى يومنا هذا؛ بعد ان مكنهم الفريق المقابل المتخاذل من ذلك بتخليه عن قضايا ألأمة العربية المصيرية وتسليمها الى ألإيرانيين الذين لا يخفون نواياهم العملية في بسط نفوذهم على العالم العربي. ومن المؤسف؛ بل والعجب القول بأن ما نشاهده اليوم في أوطاننا العربية والإسلامية من صراعات وحروب ودسائس ما هي إلا صور مستنسخة لما حصل في الماضي؛ وكأن القرون الإربعة عشر قد تم إختصارها الى بضع سنوات!.
وفي تلك البيئة المعتلجة وفي جو التصارع بين قيم الجاهلية وقيم الإسلام تكونت نواة العقل العربي النخبوي الحاكم التي إنتقلت من جيل الى جيل ومن بلد الى بلد عبر العادات والتقاليد الموروثة؛ وعبر الشعر وألقصص والملاحم ودروس التأريخ. ذلك العقل الذي نشاهد اليوم صفحات من سلوكياته الذيلية المهتزة وثقافته المتحجرة على المسرح الفكري والسياسي العربي وألإسلامي. فهو مايزال يختزن في عقليه الواعي والباطن قيم الحكم القبلي الفردي ألإستبدادي والولاية المطلقة للرئيس والخضوع له؛ وإلأستئثار بالسلطة وتعظيم الذات والغاء ألآخر والنظر اليه نظرة دونية. وفي المقابل وعلى النقيض من ذلك يلاحظ أيضا على الكثير من القادة والنخب العربية هذه ألأيام إهتزازالشخصية والإحساس بالثانوية وبالتبعية وبقلة الحيلة إتجاه الكبار والعظماء من رؤساء الدول الكبرى. حتى تحولت هذه الظاهرة السلوكية الخطيرة الى علامة فارقة بائسة ومؤسفة في حياة حكامنا السياسية اليومية الذين اصبحوا يواجهون كل لحظة من حياتهم موقفا في غاية الإحراج والإحباط دون ان يتمكنوا من مواجهة الناس بهامة مرفوعة. وبذلك اضعنا حقوقنا وشرفنا وأوطاننا. ومن مفارقات زماننا التعيس أيضا ان القائد او الحاكم العربي الذي يشذ عن النمط المألوف؛ شكلا او واقعا؛ ويظهر بعضا من قوة الشخصية اوقوة ألإرادة يعجز هو الآخرعن إنتزاع حقوق وطنه او فرض إرادته على القوى الكبرى التي كثيرا ما زجت به في معارك مفتعلة لإرباك نظامه او التخلص منه او تصفيته.
والحقيقة المرة التي فاتت تلك القيادات والنخب؛ تتلخص في كونها لم تدرك بعد مسببات واعراض الداء الذي أصابها في عقولها وجعلها ترى بأن أفكارها وثقافتها وسياستها وثقاليدها المتحجرة التي ورثتها عن عصور الجاهلية هي الصحيحة وهي المناسبة لكل عصر!. وهو ما نسمعه منها ليل نهار. كما فاتتها حقيقة أن عالمنا اليوم صار أشبه بمركب إنقاذ مكتظ بالركاب تحكمه توازنات في غاية الدقة والخطورة؛ منها توازن المصالح وتوازن ألديانات وتوازن الحرب والسلام وتوازن ألإحترام وألإزدراء وتوازن الأمان والرعب وتوازن الحياة والموت. كما أن أصحاب المركب لم ولن يسمحوا لركاب المركب بإحداث ثقب فيه او حتى هزه. وعلى القائد او الحاكم؛ عربيا كان او مسلما او غيرهما؛ أن يستوعب كافة التوازنات. بل وينبغي عليه أن يكون أحد صناعها المهرة إن أراد لوطنه ان يعيش بعزة فعلية في هذا العالم المائج. فقد تذهب زلة لسان بمصير وطن.
والآن دعونا نعود الى البوتقة التي تتفاعل وتضطرم فيها ألأفكار والمصالح لنقول بأن القيادات والنخب العربية كانت وما تزال تنقسم على فئتين رئيستين؛ فئة كبيرة حمت وأحتمت بالسلطان؛ عادلا كان او جائرا. وفئة صغيرة وقفت؛ وبإصرار وثبات؛ الى جانب ألأحكام والقيم الرفيعة التي جاء بها ألإسلام. فكان حالها كحال جميع النخب المتنورة في التأريخ من حيث معاناتها والمصير السئ الذي آلت اليه. ولعلنا نتذكر قصة الصحابي الجليل (ابو ذر الغفاري) الذي وقف ضد فساد الحكام والنخب؛ فكان مصيره النفي. وقصته مع (معاوية) معروفة. فقد نهره (معاوية) مرة قائلا: (إنما المال مالنا والفئ فيئنا فمن شئنا أعطيناه ومن شئنا حرمناه). وقد رد عليه (أبو ذر) بكلام قاس مذكرا إياه بتعاليم ألإسلام التي لا تقر بذلك.
و العبرة من هذه القصة تتلخص في أن الدين ما كان يوما من ألأيام رادعا لجميع النفوس ألأمارة بالسوء. ولدينا على ذلك أمثلة معاصرة لا حصرها لكثرتها. ففي بلدنا؛ مثلا؛ قادة ونخب ينتمون الى أحزاب دينية / سياسية متشددة. وبعضهم (سادة) يفاخرون بإنتسابهم الى آل البيت. لكن ذلك الشرف الرفيع لم يمنعهم من سرقة المال العام؛ وعلى نطاق واسع؛ والإتجار بالمحرمات وقتل الخصوم السياسيين والتعاون مع المحتل والإيغال في إرتكاب الزنا وتزييف الوثائق والشهادات؛ دون أن يردعهم دين او ينالهم عقاب. فأين هو؛ إذاً؛ أثر العقيدة ألإسلامية في سلوكهم؟. وما الفرق بينهم وبين ألآخرين؛ وخصوصا الملحدين الذين لا يؤمنون برب او بدين؟.
ما أريد استخلاصه هو أن العقل النخبوي العربي ( وما يماثله)؛ والذي نحن بصدد مناقشته (بعيدا عن التعميم) لا تحركه مسحة دينية عابرة مالم تتحول الى قيم روحية وأخلاقية غائرة في عقله ووجدانه. ولعلنا جميعا نتذكر تلك الدماء العراقية الزكية البريئة التي اريقت على أديم العراق طوال السنين الماضية أثناء مجازر خططت لها ونفذتها قيادات ونخب سياسية عراقية تنتمي الى مختلف ألأحزاب السياسية؛ من أقصى اليمين الى أقصى اليسار؛ ومن اقصى ألإيمان الى اقصى الإلحاد وحتى من المستقلين. فأين هو أثر الفكر الديني او الآيديولوجي او السياسي في سلوك هؤلاء المجرمين القتلة؟. أوليست الأحزاب العربية قد أسسها وأدارها قادة ونخب سبق توصيفها؛ وكان بعضها مجهول ألأصل و غامض النوايا؟. وهي في معظمها؛ واجهات لكسب المال اوالمنافع اوالنفوذ اوخدمة ألأعداء مهما أختلفت بياناتها وشعاراتها السياسية البراقة التي يمكن شراؤها من فوق ألأرصفة على حد قول الجاحظ؟. والواقع فأن الذي صنع وحدد سلوك وأخلاق أمثال هؤلاء القادة اوالنخب التي قامت بتلك الأعمال هو التكوين الديني والفكري والثقافي الذي تشكل عبر ألتأريخ كما رأينا. فليس بإمكان هؤلاء تغيير معتقداتهم وسلوكهم المعوج بين ليلة وضحاها طالما ظلوا في بيئتهم الفكرية الطبيعية المنغلقة التي نشأوا وعاشوا بين أقبيتها قرونا طويلة.
سألت مرة أحد ألإيرانيين الموالين لحكومته حين كنا نتحدث في الفساد: ما الذي يمنعكم من إقامة دولة (أمير المؤمنين علي بن أبي طالب) المثالية كما وردت صورتها في نهج البلاغة لكي تتميزوا عن إيران الشاه؟. فسكت. وسألت ايضا عراقيا متعلما ومن الموالين لحزب ديني حاكم في العراق: (ما هي الفروق بين حكمكم وبين حكم صدام حسين؟). فأرتبك؛ لأنه أدرك مغزى التساؤل؛ ثم اردف قائلا: اصبحنا نمارس طقوسنا (على كيفنا!).
ولابد من التأكيد أيضا على أن الفئة ألأكثر خطورة وضررا داخل النخب السلطوية والتي جندت نفسها لحماية عروش الحكام والسلاطين وأنظمتهم المستبدة هي النخب الدينية او من يسمون برجال الدين او الدعاة او (وعاظ السلاطين) كما يسميهم المثقفون. ونحن لو تحدثنا عن أدوارهم في إيصال الوطن العربي والإسلامي الى الحضيض لما وسعت كتب وأسفار. ومن أخطر المنصات التي مايزال هؤلاء الوعاظ ينطلقون منها لكم أفواه من يخالفهم الرأي من الناس؛ كونهم يتحدثون ويحكمون بإسم الله او نيابة عنه. وقد لعب هؤلاء أدوارا سلبية خطيرة عبر مسيرة الإسلام الطويلة. فلم يختلف دورهم كثيرا عن الدور التخريبي الذي قامت به الكنيسة ضد العلم والعلماء وكيف حرقت رجال العلم وكتبهم في قصص مأساوية لن ينساها العالم.
(....)
ولم يتوقف دور (وعاظ السلاطين) السلبي البائس عند تلك الحدود بل نراهم قد لعبوا دورا شديد الخطورة حين رفعوا سيف الكفر والزندقة والإلحاد بوجه كل من أراد التحدث في الفلسفة والعلوم الطبيعية والحياتية والتشريح والمخترعات والفنون التشكيلية والموسيقى؛ وفي مئات من الموضوعات الحضارية التي تناولها علماء العالم بمطلق الحرية والإنفتاح. وحجتهم انهم يتبعون نهج (السلف) الصالح. وقد فاتهم ان قائد ذلك (السلف) هو النبي محمد (ص)؛ رائد التقدم والتطور والحداثة والنجاحات. فلو كان بيننا اليوم لأنتفض على مفاسد (الجاهلية الثانية) التي جعلت من المسلمين إضحوكة للعالم.
والحقيقة انه لولا تسلط تلك الطغمة الجاهلة لأنطلقت عربة الفلسفة والعلوم وألاداب العربية على أيدي إبن سينا والفارابي وأبن رشد والتوحيدي والجاحظ وأبن حيان والمعتزلة وإخوان الصفا وعشرات غيرهم نحو مجالات أرحب في العلم والمعرفة. ولساروا على خطى كوبرنيكوس وغاليليو ودالتون وبويل ونيوتن وغيرهم؛ بدلا من العمل تحت أسماء مستعارة وحبس عقولهم داخل دهاليزغير نافذة ويجترون نظريات يونانية بالية اوباطلة في علوم الكيمياء والفيزياء والفلك؛ ولأصبح للأمة العربية ألإسلامية شأن عظيم بين ألأمم المتحضرة.
ومما يبعث على القرف وألإستهجان حقا ان هناك من لا يزال يؤمن من رجال الدين بأن الأرض ليست كروية ... قالوا هذا الكلام وأحد أبنائهم كان يطوف حول الكرة ألأرضية في محطة فضاء أميركية !؟. بل وأنهم قد حرموا تصوير البشر؛ لكن صور ملوكهم وأمرائهم تملأ شاشات التلفاز!. كما امروا بإزالة آثارالنبي ألأعظم من فوق ألأرض توطئة لمحوها من الذاكرة. حصل هذا أمام أعين علمائهم المختصين في ألآثار والتأريخ والأنثروبولوجيا وممن تعلم في جامعات مرموقة؛ دون ان يرتفع لهم حاجب. فهل تم كل ذلك عن سهو او جهل!؟.
اما إن أردنا سرد فتاواهم الغريبة التي تثير الإشمئزاز لأحتجنا الى مجلدات. وتستوي في ذلك الطوائف والمذاهب ألإسلامية جميعا. والسؤال ألمطروح هو: ما الهدف يا ترى من ذلك كله؟. إذ ليس من المعقول ان يقع في الخطأ كل هذا العدد من (علماء) الأمة الروحانيين. او قد يكون ذلك بسبب سوء التقدير والتدبير. اولعله الوقوع في (مصائد المغفلين)؛ كما يقول المثل.

والخلاصة.
فبعد ان تجسدت أمامنا الشخصية العربية / ألإسلامية النخبوية التقليدية التي حملت بين ثنايا أدمغتها معظم صفات الجاهلية ألأولى؛ نرى ان من حق المواطن ان يتساءل: مالعمل..؟. وقبل الخوض في ألإجابات دعونا نتوجه بالسؤال نفسه الى القادة والنخب الدينية والسياسية التي كانت هي الموضوع الرئيس لهذه الكلمة لنطالبهم ان يتكرموا بالإجابة بأنفسهم؛ وليخبروا شعوبهم بأنه ليس بالإمكان أحسن مما كان.

وما الحل؟
نقول أن ألأزمة التي تمر بها ألأمة العربية والإسلامية أزمة حياة ومصير ومستقبل. وهي أزمة (ان نكون او لا نكون) ولا ثالث بينهما. فهي لذلك تتطلب حلولا غير استثنائية؛ لها من القوة ما تتجاوز القوة الكامنة لأزمة الأمة وتداعياتها الخطيرة. وهذا قانون فيزيائي معروف. ولست أدعي؛ وأنا مجرد مواطن عادي؛ بأنني أمتلك حلا عجزعنه ملايين الناس وطوال أربعة عشر قرنا.
لكنني سوف اقترح ما تتحدث فيه النخب الواعية أثناء خلواتها مع أنفسها او أثناء أحلامها او كوابيسها. وبطبيعة الحال؛ سوف اسقط من الحلول مناشدة ضمائر قادتنا وحكامنا ونخبنا؛ وخصوصا رجال الدين من وعاظ السلاطين الذين ما انفكوا يروعون المؤمنين بعذابات القبر ليل نهار؛ لكن أحدا منهم لم يجرؤ على التحدث عن عذابات العراقيين والفلسطينيين وغيرهم. أو يتحدث عن القدس؛ أولى القبلتين وثالث الحرمين التي ابتلعتها ألأفعى السامة أمام أعينهم. فقد مرت على أولئك القادة والنخب عقود من السنين وهم يشاهدون مواطنيهم يذبحون وتنتهك أعراضهم وتداس مقدساتهم وتغتصب أوطانهم وتصادر حرياتهم دون ان تدمع لهم مقلة او يرف لهم جفن. بل على العكس؛ تراهم يقبلون على موائدهم وعلى نسائهم بشهية عارمة؛ مع ذلك. او يقدمون الهدايا الثمينة النادرة الى الأعداء او المحتلين؛ ووجوههم يعلوها البشر وألإنشراح والرضى.
لكنني سوف أناشد تلك الكوكبة الشريفة من العسكريين والمدنيين النافذين الذين تعلق ألأمة عليهم آمالها؛ ليشكلوا (مجلسا للإنقاذ الوطني) فيجتمعوا الى قادتهم وحكامهم وان يفتحوا معهم ملف مصير الأمة ألآيل الى الزوال او الفناء حتما. وباسم اقدس المقدسات؛ وبكل المحبة والأمن والسلام. وبعد ان يضمنوا لهم مناصبهم الرمزية وأموالهم وحصانتهم التامة؛ يعرضوا عليهم اعتماد تجربة (ماليزيا المسلمة) كأساس لنظام الحكم في دولهم. على ان يستكمل النموذج الديمقراطي من دول متقدمة مشهود لها بنظافة تأريخها من الإستعمار والحروب وبتعايش شعوبها وأقلياتها. على ان تستوعب التجربة الجديدة تراث ألأمة الناصع البياض وعقائدها. وان تكون جزأ من المنظومة الدولية؛ ولها حقوق متساوية وبضمانة منظمة ألأمم المتحدة.
ان نقل تلك الصورة الى واقع ملموس لن يتطلب سلاحا فتاكا اوأستعمال القوة المسلحة التي جربوها فجرت على الأمة الكوارث وإنما يتطلب وقفة قائد او حاكم حقيقي يمتلك إرادة فعلية للعمل ويسندها ضمير حي؛ طالما ان لديه ألأرض والرجال والمال. فإن رفض هؤلاء القادة والحكام ذلك الرجاء فلهم ان يخيروا ما بين (إمارة محمية) يحكمونها مع أتباعهم وعلى طريقتهم الخاصة؛ او أن يختاروا العيش لدى حلفائهم وأصدقائهم.
أما الكادر الذي سيقوم بالتخطيط والتحضير والتنفيذ والمتابعة لبناء الدولة المؤملة؛ فيتم إصطفاء نواته بإلإجماع من بين شخصيات مرموقة على المستويات المحلية والعربية ولإسلامية والعالمية. ويقوم هؤلاء بإنتخاب عدد مماثل لهم.... وهكذ ادواليك. ثم ينتخبون من بينهم محكمة عليا من بين اشهر القضاة؛ وبرلمانا تأسيسيا يستمر لخمس سنوات. على ان يكون (مجلس الإنقاذ الوطني) تحت إمرته وإمرة المحكمة العليا. ويقوم المجلس بتأليف وزارة من ابرز علماء ألأمة. ويعتمد في الدولة الجديدة مبدأ إستقلال السلطات الثلاث ومبدأ (دكتاتورية الديمقراطية) المعمول به في الديمقراطيات النموذجية. وأثناء السنوات الخمس او العشر ألأولى يعتمد دستور(وطني) موجز ومرحلي يؤكد على المبادئ العليا في وحدة الشعب والوطن وصيانة سيادته وإستقلاله. كما تشكل أحزاب معتدلة على أساس فكري/ سياسي / ديمقراطي غير ديني ولا تعرف الغلو او التطرف؛ ولا يزيد عددها عن أربعة أحزاب. وتعمل الحكومة في إطار تقني بحت ووفق برنامج معين.
أما إذا أصر هؤلاء القادة والحكام والنخب على رفض (مشروع الإنقاذ) هذا؛ فعلى (مجلس الإنقاذ) إتخاذ ما يلزم؛ بإعتبار المسألة فرض عين على كل مؤمن؛ لإنقاذ ألأمة من الهلاك؛ وفرض قوانين السماء وسلطة الدستور؛ ودون إراقة قطرة دم زكية واحدة.

ملاحظة: ورد مشروع (الحل) ألإفتراضي كحلم او كرؤيا أثناء سرحان الكاتب في عالم الخيال والتأمل؛ ودخوله في حالة هي بين النوم واليقظة.

الكاتب أكاديمي من العراق
[email protected]