تواصل صحف عربية النقاش حول مغزى نتائج الاستفتاء التركي، وهل خسرت العلمانية أم لم تخسر. وسبق لي إبداء رأيي في الموضوع منذ أيام.
أحد المقالات يفرق بين ما يعتبرهما: quot;علمانية شاملة وعلمانية جزئية، فيشيد بالعلمانية الأمريكية التي تتساهل مع حديث أوباما عن الإنجيل، وينتقد العلمانية الغربية الأوروبية لأنها quot;اعتبرت الدين والتدين quot;ثمرة محرمةquot; فلم تتحمل الحجاب ولا النقاب ولا المآذن، وأصبحت موضع انتقاد شديد حتى من المنظمات الحقوقية الغربية.quot;
الملفت أيضا في المقال الإشادة بسركوزي لكونه يريد quot;إعادة بناء علاقة إيجابية بين العلمانية والدين في اعتراف ضمني بأن العلمانية الأوروبية ولدت في بلاده مسكوبة بمعاداة التدين عموما.quot; [ quot;الحياةquot; عدد 28 سبتمبر 2010 ].
في السنوات الماضية، نشرت عدة مقالات عن العلمانية، وعن علمانية فرنسا بالذات، مبينا بوضوح أنها ليست ضد الدين والتدين، بل قامت على أساس فصل كل من ميداني السياسة والدين. ومن هنا، قانون حظر حمل الرموز الدينية في مدارس الدولة منذ 1905، وقد أعيد تأكيده عندما كان سركوزي نفسه وزيرا للداخلية. صحيح، أنه بشر فترة قصيرة بوجوب إدراج الأصول الدينية المسيحية واليهودية في الدستور، ولكنه تراجع عن ذلك. وحين يتحدث بعض الكتاب العرب عن عداء العلمانية الأوروبية للدين والتدين، يتناسون وجود مئات آلاف الكنائس والمساجد وأماكن العبادة اليهودية وغير اليهودية في غربي أوروبا، وفي فرنسا وحدها أكثر من 2000 مسجد، ومن يريد من المسلمين المتدينين أداء الفرائض، فإنهم يمارسونها بكل حرية. وهذا أيضا شأن المسيحيين المتدينين وغيرهم. وحين يشيد الكاتب بسركوزي، فإنه ينسى أن الرئيس الفرنسي هو الذي تصدر الحملة لحظر النقاب. أما المآذن، فالحالة تخص سويسرا، والقرار لم يكن من الدولة، بل كان هناك استفتاء شعبي ديمقراطي طالب بحظره. وقد علق العديد من كتابنا على الموضوع وأوضح فريق منهم أن المأذنة لم تكن أصلا زمن الرسول وأنها أصبحت فيما بعد جزءا من عمارة المساجد. فسويسرا لا تحظر بناء المساجد أو صلاة المسلمين وأداء فروضهم.
أما التجربة الأميركية، فرغم بعض الاختلاف، فإن بينها وبين التجربة الأوروبية نقاط اشتراك جوهرية كبرى.
لا يجوز في رأيي اختزال مكان الدين الإسلامي في الغرب إلى حجاب في مدارس الدولة ونقاب ومأذنة، ولا يجوز إنكار الحريات الدينية الواسعة في الغرب، أميركيا وأوروبيا، وواقع أن المتدينين المسلمين يجدون في الغرب من الحريات، دينية ومدنية، ما لا يجدون قليلا منها في دول إسلامية عديدة. وإذا ظهرت في العقد الأخير حساسية ما بين شرائح من السكان تجاه الإسلام والمسلمين، فالمسئولية الأولى -[ وليست الوحيدة] - تقع على المتطرفين المسلمين وأعمال الإرهاب quot;الجهاديquot;. وعندما يكثر الحديث اليوم عن quot;الإسلاموفوبياquot; في الولايات المتحدة بمناسبة مسجد نيويورك، فمن يروجون للتهمة ينسون أن الاعتراض الشعبي ليس حول بناء المسجد، بل حول تحديد المكان بالضبط. والمؤسف أن القائمين بالمشروع يواصلون الإصرار على نفس المكان وكأن القضية معركة مصيرية بين الإسلام وأعدائه. وهم بذلك يسيئون، ويغذون مشاعر الحساسية.
وبالارتباط بالموضوع، هناك دعوة إلى الأمم المتحدة quot;لتجريم الإساءة للأديان.quot; فما المقصود بالإساءة هنا؟؟ وهل نحسبها إساءة عندما يقف خطباء مساجد ليعتبروا اليهود أحفاد قردة ويجب استئصالهم مع أطفالهم؟! أو أن غير المسلمين هم أصحاب ذمة ومواطنون من الدرجة الثانية quot; في دولة المسلمينquot;؟! وهل من الإساءات حرق الكنائس ومهاجمتها، وقتل القسس، وتنظيم المظاهرات ضد رجال الكنيسة كما في مصر؟! أو الدعوة من فضائيات لقتل الأميركيين أو غيرهم؛ وغير هذه من ممارسات لم نجد لها صدى استنكار يذكر بين دعاة تجريم الأمم المتحدة quot;للإساءة للأديانquot;؟! أم إن نشر مفكر غربي غير متدين كتابا أو مقالا يحلل دينا من الأديان من منظوره غير الإيماني يجب حظره؟ بينما الحرية الدينية في العلمانية الغربية ـ أميركية وأوروبيةـ تعني أيضا حرية الملحدين واللاأدريين في نشر أفكارهم وحرية مخالفيهم في الرد والسجال. إن دعوات من هذا النوع سوف تفسر في الغرب بالاعتداء على حرية الرأي والتعبير. فالردود على كل إساءة حقيقية، [ وأقول حقيقية وليس على مجرد الظنون وسوء الفهم والتفسير]، لدين ما يجب أن تكون بالنقاش الهادي والتفنيد الموضوعي على أساس الحقائق والبينات وليس بمظاهرات العنف وحرق الأعلام وقتل غير المسلمين ودعوات التجريم!
على من راحوا ينشرون المقالات عن quot;الإسلاموفوبياquot; أوquot;الإساءات للأديانquot; أن ينظروا أولا لما يجري في العالم الإسلامي نفسه: من تطرف، ومن قهر للمرأة وللحرية الدينية، ومن كتاتيب تنشر التزمت والغلو الديني، ومن عدوان متكرر على غير المسلمين- من العراق فمصر وإلى ماليزيا وغيرها-، ومن فضائيات تظهر قطع الأعناق، وتذيع بيانات بن لادن والظواهري.
إن الحصيف هو من نظر في عيوبه قبل تشريح الآخرين!