استرجاع نصوص quot;تعصبيةquot; لا تزال تقرأنا: مدن، محلات، جماعات

شرفة الجحيم

لعل أحدا لن تفوته الملاحظة: ما يجري للمسيحيين العراقيين هذه الأيام شبيه بما جرى لليهود قبلهم. أولئك اقتلعوا كشجرة سدر عظيمة من البستان وهؤلاء يراد لهم الشيء نفسه. أولئك كانوا ضحايا مؤامرة كبرى لم تتكشف جميع خيوطها بعد، وهؤلاء أيضا ضحايا quot;مؤامرة quot; لا تزال في طور quot;الشائعةquot;. أقصد الحديث الدائر عن إفراغ الشرق الأوسط من الأقليات الدينية غير المسلمة ونحن في العراق متحف حقيقي لها.
يقول جرجيس فتح الله في واحدة من أروع التماعاته:quot; وجدت في نفسي في كثير من الأحيان وأنا جالس في شرفة مكتبي المطلة على أهم شوارع المدينة ـ الموصل ـ أتفحص سحنات الذاهب والآيب فضلا عن تكوينها البدني على ضوء ما كنت أعيه من مطالعة جدية في علم الأجناس البشرية quot;الأنثربولوجيquot;، ممتزجا بما اختزنته ذاكرتي من تاريخ المدينة وهو كثير. فكنت أرى بين المارة ذوي العيون الزرق والبشرة البيضاء والشعر الأشقر إلى جانب العيون الدعج أو المنحرفة اللوزية التي تذكرك بعنصر المغول في أقصى شرق آسيا. والى جانب الشعر الذهبي هناك الأسود الفاحم والشعر الأحمر، هناك الشعر المسترسل والشعر الأجعد والبشرة الحنطية والزيتونية إلى جانب السمراء والحمراء المطرزة بالكلف إلى ما يقارب سواد الأفريقي.
ويمر بك خلال دقيقة أو أقلها صاحب الأنف الطويل المستقيم أو الأفطس أو الأقنى وذو الوجنات البارزة والجبهة العريضة يتبعه ضامر الوجنتين ضيق الجبهة بشفاه غليضة نافرة أو رقيقة صغيرة. كل عنصر وكل قومية تتمثل في هذا الخليط العجيب الذي هو بحق جنة لعالم في الأجناس البشريةquot;(1).
هذا النص الذي كاد يبكيني حين قرأته للمرة الأولى انتهى بي لاحقا إلى تخيل جنة عالم الأجناس وقد تحولت إلى جحيم لتلك الأجناس. بل لقد خيل لي جرجيس فتح الله نفسه وقد أطل من شرفة أخرى على تلك الأجناس وهي تهرب من المتحف بحثا عن الأمان.
ها هم اليهود يرتعبون من قتل وفرهود متوقعين، يتبعهم المسيحيون وهم يحملون صلبانهم متلفتين. أنظر رجاء إلى السنة وإلى الشيعة، إنهم يهربون أيضا للخلاص من بعضهم الآخر. ثم لاحظ اندحار الصابئة وتيههم بحثا عن مياه الخليقة الأولى. الآشوريون يهربون أيضا والأيزيديون معهم.
وفي لحظة مهولة، تنتهي شرفة عالم الأجناس من كونها إطلالة على جنة ذات ملامح عراقية إلى شيء يشبه مواجهة مع نيران جحيم تميل إلى صفرة صحراوية، حيث الجنس الأخير المنتصر يأكل نفسه رويدا رويدا.
أنظروا إليه كيف يدور كما كان منذ الأزل، ومحوره الرهيب عجلة اسمها quot;التعصبquot;.
إنها لا تزال تدور، تدور بنا وعلينا، غاذة السير نحو النهاية.


بلاد الرافدين : زمن واحد بتفاصيل متنوعة

لا أدري كيف تسنى لجورج رو، وهو آثاري اهتم بالعراق وكتب أحد أهم الكتب عن تاريخه القديم، لا أدري كيف تسنى له أن يضع يده، ذات مرة، على علة ما يعانيه الرافدينيون من صراع داخلي منذ آلاف السنين. اسمعوا إليه ما يقولquot; هناك القليل من البلدان في العالم استطاع الماضي أن يبقى حيا بشكل غريب مثلما هو الحال بالنسبة للعراق حيث تجد كتابات المؤرخين عنه غاية في التناسب معهاquot;. ثم يمضي قدما لتبرير رأيه فيقول: quot; فوق التلال بقي الرعاة منذ العصور البابلية يرعون الغنم والماعز وفي الصحارى تتنقل باستمرار قبائل البدو من بئر لآخر مثلما كان يفعل الأقدمون.وفي السهول يسكن المزارعون بيوتا من الطين تشبه تماما تلك التي كان المزارعون البابليون يسكنونها، كما تتشابه أدواتهم أيضا. وفي المستنقعات يعيش صيادو الأسماك في أكواخ من البردي ويجذفون قواربهم ذات المقدمة العالية المماثلة لتلك التي كانت تستخدم من قبل أجدادهم السومريينquot;. (2)
هل فاتت quot;روquot; الإشارة إلى فظائع طغاة العراق القديم الذين ربما أحرقوا تلك القوراب وصياديها في ساعات الغضب؟
لا يهم، فالمحصلة هي خروجنا بفكرة امتداد الزمن في بلاد اخترعت العجلة، وجورج رو لم يكن، في الواقع، الوحيد الذي لاحظ امتداد الزمن في أرض الرافدين وتواصله في كل شيء بما في ذلك نزعة الصراع بين المكونات والجماعات البشرية.
نقرأ لإبراهيم حلمي في بدايات القرن العشرين رأيا مشابها إذ يقول في مجلة quot; لغة العربquot;: quot;سرح طائر نظرك في أرجاء العراق وأنعم النظر في أحوال قطانه وعاداتهم وتفقد شؤونهم وحركاتهم وسكناتهم وراقب احتفالاتهم ومجتمعاتهم وتدبر مسامراتهم ومحادثاتهم وانقدها نقد الصيرفي الماهر للدرهم والدينار، تجدها لأول وهلة لا تختلف كثيرا عما كان عليه آباؤهم في سالف القرون، بل لتجدن أطوارهم وعاداتهم التي هم عليها الآن لتنطبق تمام الانطباق على وصف الباحثين والأثريين والسياح لهذه البلاد قبل مئات السنين، وانك لا ترى فرقا كبيرا بينهم وبين أسلافهم سواء في العادات أو الآداب أو الأخلاق quot; (3)
ولكن ما علاقة فكرة امتداد الزمن بما يجري للأقليات هذه الأيام؟ هل نحن في حالة استعادة دائمة لطريقة تعاط quot;أصيلةquot; مع هؤلاء الذين نتبجح كل يوم بقولنا أننا نتعايش معهم؟
سؤالان ربما خطرا في أذهان الكثيرين ومنهم وليم ويلكوكس، المهندس الذي أشرف على بناء سدة الهندية، وكان عاشر الفلاحين والرعاة في مناطق الفرات الأوسط إبان عمله في العراق بداية القرن العشرين.
لقد رأى الرجل رأي العين كيف تدور عجلة الزمن في هذه الأرض ودليله هذه المرة مستقى من ملاحظته الكراهية والتحفظ اللذين يشوبان علاقة الرعاة بالمزارعين. وهو يعتقد، بهذا الخصوص، أن حكاية صراع الراعي قابيل والمزارع هابيل التي ترد في التوراة بوصفها أول صراع بشري دموي في التاريخ ما هي إلا نتاج عراقي لا تزال صرخاته مستمرة في أرض السواد.
يرى ويلكوكس، ومعه علي الوردي الذي ينقل هذا الرأي، أن علة هذا الصراع تعود إلى أن الرعاة غالبا ما يأتون بقطعانهم قرب السدود التي يقيمها الفلاحون لحماية أراضيهم من خطر فيضان النهر. ومع مجيئهم قد يتسببون في إحداث ثغرات بتلك السدود. وهذا الأمر يهدد حياة المزارعين ومحصولاتهم أشد تهديد. الأمر الذي يؤدي إلى نشوب صراع مستمر بين الاثنين.
هذه الخصومة الثقافية والاجتماعية لا تزال مستمرة، برأي ويلكوكس، ولا يجد الرجل أفضل من ذكرياته كدليل على استمرارها. ففي شهر آيار من عام 1909 وكان فيضان الفرات بالغا أقصى حدوده، كان الرجل يتجول على الضفة اليسرى من النهر متجها نحو الشمال بين الرمادي وهيت.
وهنا يرى أكثر من خمسين قطيعا من الغنم تسير في الوادي خارجة من المنطقة الصحراوية. وكان ظهور هذه القطعان سببا في إلقاء الرعب والفزع في نفوس الفلاحين.
عند رجوع ويلكوكس في اليوم التالي سالكا طريق النهر بسفينة، سمع رصاصتين تنطلقان، في المكان ذاته، واحدة بعد الأخرى. ثم شاهد من بعيد عددا كبيرا من الفرسان والمشاة يهرعون إلى محل الحادث: لقد تبين لاحقا أن معركة جديدة جرت بين الزراع والرعاة. (4)

من الراعي والفلاح إلى البابصري والنجفي

عداوة الفلاح مع الراعي ليست ظاهرة عابرة أبدا في تاريخ المجتمع العراقي. إنها تكاد أن تكون منظومة مستقرة وشغالة منذ آلاف السنين حيث الجماعات تتقوقع على أنفسها وتعيش في عوالم خاصة بها. وهذا يعني استحالة بروز حس جماعي يعبر بأبناء الجماعات من ضيق quot;محلاتهاquot; ومدنها وعشائرها وطوائفها وأعراقها لتشكيل هوية كبرى.
ميزة هذه المنظومة أنها أصلية وتعمل كما لو كانت نظام فكر(سيستم)، ونظام الفكر هذا له قدرة على استيعاب ما يطرأ من متغيرات ومن ثم دمجها في بودقة هائلة اسمها quot;التعصبquot;.
قدر تعلق الأمر مثلا، بصراع الراعي والفلاح، فأن المرء يستطيع التكهن بعلاقة ما تربط هذا الصراع ذا الطابع المهني والجغرافي بصراع السنة والشيعة.
ولكي لا تفوتني الفكرة سأتذكر معكم بعض أفكار علي الوردي التي حاول من خلالها تتبع خارطة الطائفتين في العراق. إذ على الرغم أن علاقة مثل هذه لم تخطر في ذهنه الوقاد بشكل صريح إلا أنه، مع هذا، يربط بين التشيع والمنطقة الرسوبية، من جهة، والتسنن والصحراء، من جهة أخرى.
يقول quot; يمكن القول بشكل عام أن القبائل التي تسكن منطقة الجزيرة هي أشد تمسكا بالقيم البدوية من القبائل الجنوبية إذ هي أقرب منها عهدا بحياة الصحراء. نستدل على ذلك من لهجتها التي هي قريبة من اللهجة الصحراوية وهي فوق ذلك تعتنق المذهب السني الذي هو المذهب السائد في صحراء العرب. أما القبائل الجنوبية فهي شيعية في الغالبquot; (5). ص144
ثم يفصل في ذلك لاحقا فيقول quot;أن التوزيع الطائفي في مناطقه المختلفة ـ العراق ـ يعتمد على مدى اتصال كل منطقة منها بالبداوة ففي منطقة الجزيرة وخصوصا في الجزء الشمالي منها نرى القبائل والمدن كلها على مذهب أهل السنة وهي تكاد تشابه في عقائدها وطقوسها بدو الصحراء..quot; وإذ يهبط المرء قليلا نحو الجنوب سيجد الناس تحافظ على التسنن مع ظهور التصوف. لكن ما أن نصل إلى وسط العراق quot;حتى نلاحظ أن التسنن بدأ يختفي في بعض القبائل والمدن ليحل التشيع محله..وحين ننتقل من وسط العراق الى جنوبه حيث المنطقة الرسوبية الكبرى نرى التشيع قد ضرب نطاقه في كل مكانquot;(6)ص 236
الواقع أن معرفة كيفية تحول الصراعات من طبقة إلى طبقة ومن مظهر ثقافي إلى آخر قد تكون شبه مستحيلة لكن من الواضح تماما أن مفهوم التعصب هو الذي يدير كل شيء رغم أنوفنا.
أي أن الراعي ديموزي والفلاح أنكي ـ امدو اللذان تنافسا ـ مثلا ـ على قلب إنانا وجسدها في محاورة شهيرة ترد على لسان ديموزي :
quot; انكي امدو رجل السواقي والسدود والمحاريث
ماذا عنده أكثر مني
فأن هو قدم الدقيق الأسود
فأني أقدم نعجة سوداء
وإن هو قدم الدقيق الأبيض
فإني أقدم نعجة بيضاء
وإن هو أسقاني صفوة جعته
فاني أسقيه لبني الدسمquot; (7)
هذان الخصمان، في الواقع، يمكنهما التجوال في تاريخنا عبر أسماء أخرى وألبسة مختلفة ولهجات لا تتوقف عن التناسل في بلاد الرافدين.
احد تمظهرات ذلك الزوج، الراعي ـ الفلاح، ربما يستعير تسمية عزيز باقر شام أو عزيز بابصري أو غيرهما. وquot;العزيزانquot; ليسا سوى مثال طريف رأينا أشباها له أيام حربنا الطائفية الأخيرة.
أما الأول،عزيز باقر، فبطل quot;تعصبيquot; نجفي مشهور يرد عند الأستاذ محمد سعيد محبوبة الذي يزعم أنه شاهده بعينيه في معركة نشبت بين عصبيتيquot;الزقرتquot;وquot;الشمرتquot;اللتين حكمتا النجف في بدايات القرن العشرين. هذه المعركة quot;الذهبيةquot; كانت جرت عام 1323 هجرية. وكان بطل المعركة عزيز باقر شام الذي ينتمي إلى quot;الشمرتquot;.
لقد شاهد quot;محبوبةquot; كيف قتل عزيزquot;رجالا مشهورين بالشجاعة والنجدةquot; ثم quot;سقط قتيلا هو وولداه فانتصر الزقرت وخمدت الفتنةquot;. ويضيف محبوبة جاعلا للأمر نكهة يحتاجها السرد انه رأى الأثاث والفرش الثمينة التي انتهبها الزقرت من خصومهم quot; (8)ص 180
أما عزيز بابصري فيتكرر ذكره في العديد من الكتب بوصفه quot;بطلاquot; سنيا شعبيا مقداما لمع اسمه بوصفه قائد محلة quot;باب البصرةquot; البغدادية في القرن الرابع الهجري. وكانت تلك المحلة تخوض حربا quot;مقدسةquot; ضد محلات الكرخ الشيعية.
اقرءوا ـ مثلا ـ في أحداث سنة 379 كما يرد في quot;البداية والنهايةquot; وquot;المنتظمquot;وquot;تاريخ الإسلامquot;وquot;الكامل في التاريخquot; وغيرها من الكتب: اشتد البلاء وعظم الخطب ببغداد وزاد أمر العيارين في جانبي بغداد، ووقعت بينهم حروب وعظمت الفتنة واتصل القتال بين الكرخ وباب البصرة، وصار في كل حزب أمير، وفي كل محلة متقدم، وقتلت طائفة ونهبت الأموال وتواترت الفتن وأحرق بعضهم دور بعض ووقع حريق في نهر الدجاج احترق فيه شيء كثير للناس وتوسط أبو أحمد الموسوي الأمرquot;.
وفي صفحة أخرى يذكر المؤرخ نفسه أنه quot;لما تجهزت العامة للغزاة وقعت بينهم فتنة شديدة بين الروافض وأهل السنة وأحرق أهل السنة دور الروافض في الكرخ وقالوا لهم ـ الشر كله منكم وثار العيارون في بغداد يأخذون أمال الناسquot;(9)
وبما أننا أتينا إلى مثل هذه الحوادث التي كانت بغداد تزخر بها أيام عاشوراء من كل عام فلنا أن نقف عند إضاءة لا غنى عنها تتعلق بالمدينة وتوزيعها الطائفي. فالبلدانيون يذكرون أنquot;باب البصرةquot; محلة ببغداد تكون بين شرق الكرخ وقبلتها وأهلها كلهم سنة، وquot;نهر الدجاجquot; محلة ببغداد قرب الكرخ من الجانب الغربي وأهلها كلهم شيعة.
ليس هذا حسب، فياقوت الحموي يقول في quot;معجم البلدانquot; أن quot;الكرخ وأهلها شيعة إمامية وبين شرقها والقبلة محلة quot;باب البصرةquot; وأهلها سنية حنابلة، وفي جنوبها المحلة المعروفة باسم quot;القلائينquot; وأهلها سنية حنابلة وعن يسار قبلتها محلة تعرف بباب المحول وأهلها سنية وتقع الكرخ غربي بغداد وأهل الكرخ كلهم شيعة إمامية لا يوجد بينهم سني البتة quot;(10)معجم البلدان 4/448
المهم أن اسم عزيز البابصري (نسبة إلى باب البصرة) يرد في ثنايا أخبار الفتن أحيانا كما يرد اسم أحمد الدنف وغيره من العيارين. لكن ارتباط عزيز بأيام الفتن السنية ـ الشيعية يوحي بأنه quot;بطلquot; طائفي كأبطال الأيام التي رأينا أهوالها بين أعوام 2004 ـ 2008.
إليكم ما ينقله الشيخ فارس الحسون في كتابه quot;المجازر والتعصبات الطائفية في عهد الشيخ المفيدquot;.
يقول نقلا عن كتب تاريخية عديدة : من حوادث سنة 383،في صفر قوي أمر العيارين واتصل القتال بين الكرخ وباب البصرة واحترق كثير من المحال وظهر العيار المعروف بعزيز بابصري واستفحل أمره والتحق به كثير من الدعار والمؤذين وطرح النهار في المحال ثم صالح أهل الكرخquot;(11).
الحق أن بروز أبطال كعزيز بابصري وعزيز باقر شام وغيرهما من quot;شقاواتquot; تلك المرحلة مرتبط أشد الارتباط بضعف قبضة الدولة وانحسار مركزيتها. وهو شيء لا يحتاج إلى كثير ذكاء لتبينه أو تعليله : ما إن تتراخى يد الدولة وينحسر احتكارها للعنف حتى يبرز العنف المجتمعي اللامركزي، الفوضوي وغير الحائز على أي رأسمال رمزي يتيح له الحصول على الشرعية.
لقد عرفت بغداد مثل هذه اللحظات مرات ومرات أشهرها التي برزت في آخر أيام حكم الأتراك للعراق حيث برزت في المدن قوى quot;شعبيةquot; نافست سطوة الحكومة الضعيفة وتمثلت في شريحة من أمراء المحلات (الشقاوات) من أمثال ابن عبدكة وخليل أبو الهوب وعبد المجيد كنه وجواد الاجلك وعبد الامير العجمي وغيرهم.
الحال أن هذه الظاهرة ظلت جزءا من ملامح المدينة في العراق حتى تأسيس الدولة الحديثة واحتكارها المطلق للعنف.
مع هذا، ورغم دخول الظاهرة في صلب موضوعة العنف التي تسود أشكال العلاقات بين الجماعات المتنوعة في العراق، آلا إننا معنيون، هنا، لا بتتبع صور العنف الاجتماعي المنفلت أحيانا، بل بعلاقة هذا العنف بمفهوم quot;التعصبquot; الذي تحدثنا عنه.

تنابزو فتشاتموا فتضاربوا

وأنت تنظر بعيني ويلكوكس وعلي الوردي إلى معركة الرعاة والفلاحين، معركة النهر والصحراء في العراق، ومن ثم معارك quot;الزقرتquot; وquot;الشمرتquot; وquot;باب البصرةquot; وquot;نهر الدجاجquot;، لابد أنك ستصادف هذا المشهد الطريف الذي تنقله quot;لغة العربquot; لقرائها. ففي نهاية كل عدد من تلك المجلة كان دأب الأب أنستاس الكرملي على تحرير ما يشبه الأخبار الصحفية التي نقرأها هذه الأيام تحت عنوان quot; وقائع الشهر في العراق وما جاورهquot;.
وإليكم ما ورد في نهاية العدد 2 شباط 1913 : quot;وقعت في الكاظمية نهار عاشوراء وقيعة مؤلمة أحزنت قلب كل عاقل. وصورة هذه الحادثة أن ألوفا من المسلمين يتجمعون في الكاظمية يوم عاشوراء تذكارا لواقعة الطف، ومن جملة من كان من المتألمين هناك في ذلك النهار، جماعات من جانب الكرخ، وفي هذه الديار عادة سيئة وهي أنه إذا اكتظ الناس في الساحة تساءلوا فيما بينهم: أيهم من المحلة أو البلدة الفلانية وأيهم من المحلة أو البلدة الفلانية الأخرى. فإذا ألقى أحدهم هذا السؤال ينشأ للحال نفور بين سكان محلة ومحلة أو مدينة ومدينة ثم لا يعتم أن يتجسم هذا النفور فيتحول إلى سب وشتم، إلى قدح وذم، إلى ضرب ولكم، إلى جرح وقتل، وهذا ما وقع في الكاظمية من هم من الذين من محلة الكرخ، تنابزوا فتشاتموا فتلاكموا فتجارحوا فتقاتلوا وانجلت الوقيعة عن قتل واحد من أهل الكاظمية وجرح ثلاثة منهم وعن جرح ثلاثة من أهل الكرخ فقبض على المتهم بالقتل وجماعته وأودعوا السجن quot;(12).


الهوامش

1 ـ quot; نظرات في القومية العربية مدا وجزرا حتى العام 1970 ـ أضواء على القضية الآشوريةquot; جرجيس فتح الله، دار ناراس للطباعة والنشر ـ السلسلة الثقافية الجزء الرابع ص
2 ـ quot;العراق القديمquot; ـ جورج رو ـ ترجمة وتعليق حسين علوان حسين، مراجعة د. فاضل عبد الواحد علي ـ دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد الطبعة الثانية 1986 ص 20
3 ـ مجلة quot;لغة العربquot; لصاحبها انستاس الكرملي، طبعة مديرية الثقافة العامة ـ سلسلة كتب التراث، اشرف على إعادة الطبع زكي الجابر، ابراهيم السامرائي، عبد الجبار داود البصري، المجلد الثاني ص 169
4 ـ quot;دراسة في طبيعة الشخصية العراقية quot; ـ علي الوردي، مطبعة الأديب البغدادية سنة 1965 ص 29
5 ـ المصدر نفسه ص144
6 ـ المصدر نفسه ص 236
7 ـ quot;سومر اسطورة وملحمة quot;، فاضل عبد الواحد، علي دار الشؤون الثقافية عام 200 ص 113
8 ـ quot; دراسة في طبيعة الشخصية العراقية quot;، علي الوردي ص 180
9 ـ quot;البداية والنهايةquot; للأمام الحافظ أبي الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي. حققه وعلق حواشيه علي شيري ـ دار إحياء التراث العربي الطبعة الأولى 1988 الجزء 11 ص 308
10ـ quot;معجم البلدانquot; للشيخ الأمام شهاب الدين ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي البغدادي ـ دار إحياء التراث العربي بيروت ـ لبنان ـ 1979 م ـ الجزء 4 ص 448
11ـ quot;المجازر والتعصبات الطائفية في عهد الشيخ المفيدquot;ـ الشيخ فارس الحسون، كتاب مطبوع لم تثبت عليه جهة النشر والسنة.
12 ـ quot;لغة العربquot; للأب أنستاس الكرملي المجلد الثاني ص361