منذ اكثر من عامين والعالم يعيش أزمة اقتصادية عالمية هي الأوسع تأثيرا في مجمل الاقتصاد العالمي منذ الحرب العالمية الثانية . وبالرغم من تحليلات المفكرين وعلماء الاقتصاد واختلاف الآراء، فان تحليلات رواد النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت لأزمة النظام الرأسمالي تشكل اضافات مهمة ومحاولة لتقديم رؤية نقدية لأزمة الرأسمالية، التي هي ليست أزمة معاصرة وظاهرة للعيان دوما فحسب، وانما هي أزمة مستمرة صاحبت النظام الرأسمالي دائما.
لقد رفضت النظرية النقدية تحليلات المنظرين الرأسماليين، مثلما رفضت تحليلات الماركسيين التقليديين التي تؤكد الأولوية الانطولوجية للمادة وأولوية القاعدة الاقتصادية للمجتمع، لوجود تبادل جدلي بين القاعدة والبناء الفوقي في كل المراحل التاريخية، حتى في الرأسمالية التي يلعب فيها العامل الاقتصادي دوراً حاسماً. كما أخذت على الماركسية التقليدية اتجاهها في صياغة المادية ورفعها الى مستوى نظرية للمعرفة التي تدعي اليقين المطلق. فالجدلية، بحسب ماكس هوركهايمر، هي الحد الحاسم، لأنها مجال قوة بين الوعي والوجود وبين الذات والموضوع.
ارتبط اسم النظرية النقدية بمؤسسها ماكس هوركهايمر (1895 ـ 1973) وزميله تيودور أدورنو (1903 ـ 1969) وكذلك يورغن هابرماس (1929)، كما ارتبط اسمها بمعهد البحث الاجتماعي بجامعة غوته بفرانكفورت، الذي اتخذ في ما بعد اسم laquo;مدرسة فرانكفورتraquo;، التي مثلت اتجاهات فلسفية واجتماعية ونفسية مختلفة.
تعتبر النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت فلسفة اجتماعية كما في عصر التنوير هدفها توحيد الفكر النقدي السلبي مرة اخرى مع فلسفة اجتماعية نقدية تحرر نفسها من أي ادعاء تسلطي او طوباوي، وان يكون موضوعها ليس الخير، بقدر ما هو البؤس والشر، لأنها تفترض اعادة انتاج الحياة الانسانية بأشكال اخرى جوهرها الحرية. وبهذا تتحول النظرية النقدية الى فلسفة تعلو على الفلسفة التقليدية والوضعية لتدرس الضعف الانساني والعنف السياسي والسيرورات الاجتماعية المفارقة وكذلك عفوية الجماهير وتلقائيتها. وإذا ارادت النظرية النقدية ان تفصح عن نفسها فإنها تدعي لنفسها القول انها تمتلك laquo;نظرية عن الحقيقةraquo;، التي تجدها في نقدها المستمر للمجتمع الصناعي الذي تجابه به دعاوى الأيديولوجية البرجوازية التي عكست سوء التنسيق وعدم التناسب وفي تزييفها ومعاداتها لمبادئ حقوق الانسان في الحرية والإخاء والمساواة التي نادت بها فلسفة التنوير.
تبدأ النظرية النقدية من وجهة نظر، ترى بأن الانسان كذات او كصانع للتاريخ وتقارن بين النتائج التي توصل اليها وبين امكانياته والأهداف التي توصل اليها وليس بالتنظيمات العقلانية نفسها. وهي بهذا تتفق مع المثالية الالمانية وبخاصة عند كانت، مثلما تلتقي مع المادية الجدلية. وإذا احتفظت بمنجزاتها النقدية، فإنها انتقدت تجاوزاتها وعدم ادراكها لما وقع من اخطاء. انها تعلن تمثيلها لكل التراث النقدي في الفلسفة وعلم الاجتماع الذي يمتد الى الفلسفة الاغريقية.

الرأسمالية .. الحلم
اعتبر اعضاء مدرسة فرانكفورت الرأسمالية كعصر يتقلب الاقتصاد فيه بسرعة اكثر مما تتغير فيه الحضارة. فالتصنيع ينعكس في العمارات والحديد والتكنولوجيا وتداول الرساميل بصورة خيالية, حيث تنمو المدن وتنمو معها جماهير الناس وتتوسع. غير ان التكنولوجيا الجديدة ليس لها وجه محدد ويجب ان تحوَر من اجل ان تظهر حديثة. والعالم البرجوازي يستخدم عمارات مزخرفة والبسة مخملية ومحطات قطارات ومسارح تظهر كلها وكانها كاتردائيات غوطية. اما الحياة اليومية فتختفي في علب . وتظهر الصناعات المستقبلية مملوءة باحلام خيالية, مثلما تظهر في تصورات منتصف القرن التاسع عشر.

العلاقة بين الاقتصاد والثقافة؟
من الطبيعي ان تاخذ الثقافة مظاهر اقتصادية. فالانتاج الثقافي هو اليوم وعلى الاعم الاغلب يعكس الثقافة السائدة والعلاقات الاجتماعية الثابتة, مثل الكتب والافلام ووسائل الاتصال الالكترونية التي تعود الى اسلوب الانتاج الرأسمالي. فالتر بنيامين حاول ان يتعرف على ما وراء ذلك, بمعنى الى اي حد يمكن للعلاقات الاقتصادية, على سبيل المثال, ان تعرض محتوى كتاب للجيب او فلم من الافلام؟ كما تعرض للعلاقة السببية بين الاقتصاد والثقافة. فالعلاقة هنا تبدو واضحة: انها لا تعرض نشأة الثقافة الاقتصادية, وانما انعكاس الاقتصاد في الثقافة. وبكلمات اخرى محاولة فهم السيرورة الاقتصادية كظاهرة قديمة وواضحة التي تظهر في جميع مظاهر الحياة. هذا ما اشار اليه فالتر بنيامين واعتبره كحلم. فعندما يأكل المرء كثيرا ويتضايق في النوم, فمن الممكن ان تظهر في الحلم صورا اخرى غير صور امتلاء المعدة. فوظيفة الحلم هو استمرارالنوم. وعلى هذه الصورة تبدوالثقافة الجماهيرية الحديثة كحلم جمعي يخدم استمرار النوم الاجتماعي .
ان تاريخ الانسان والمجتمع الانساني لم ينتهي بعد. وان التنافس والصراع الاجتماعي الذي طبع تاريخ البشرية ما زال قائما, وان الانسان هو الذي يمتلك ويقرر تاريخه ويشكله. ومع ذلك فما زال الانسان حتى اليوم يبدو وكانه يعيش في ما قبل التاريخ, لانه بقي اشبه quot; بالطبيعيquot; ولذلك على الانسان ان يكون جذريا مثل الواقع. اذ تنظر النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت, كما يقول ادورنو, الى جوهر الانسان الذي ينبغي ان ينتج مجتمعه بنفسه, اي ينتج مجتمعا قويا وواعيا بما يقوم به, ولكننا نلاحظ في الوقت الحاضر ان الشيء الوحيد الذي انتجه الانسان هو مجتمع غير حقيقي.
يقول هوركهايمر في كتابهquot; النظرية النقدية والنظرية التقليديةquot; ليس الانسان في مظهره وملابسه او في هيئته او طريقة شعوره, وانما هو في الطريقة التي يرى فيها ويسمع ويعي, التي تطورت خلال الآف السنين وعن طريق سيرورة حياة اجتماعية. فان الحقائق التي تقودنا الى ذلك كانت قد تشكلت اجتماعيا وبطريقة مزدوجة : بواسطة quot;خصوصية التاريخ بالوعي بالاشياء وخصوصية التاريخ بالوعي بالاعضاءquot;.
يرى بعض المفكرين ان مسيرة التاريخ البرجوازية تسير بطريقة عمودية وتتجه نحو التقدم دوما. ولكن النظرية النقدية ترى عكس ذلك, فالتاريخ هو سيرورة من التناقضات الذاتية وذات طفرات غير مستمرة, والتناقض لا يحل نفسه بالضرورة في مراحل متقدمة لانه متضمن في مسيرة التاريخ. كما ان النظرية النقدية تجد في تاريخ الانسانية كله تناقض وتوتر معا : فكلما تقدم الانسان في سيطرته على الطبيعة واخضعها لمشيئته، كلما زادت سيطرة الانسان على الانسان وقهره. ولذلك نرى هذا العدد الكبير من الناس الذين يعيشون في فقر وبؤس.
ان وهم الخصخصة، كما يقول الفيلسوف وعالم الاجتماع النقدي يورغن هابرماس وصل الى نهايته وان المسؤول عن التوزيع غير العادل للثروة ليس السوق، كما يدعي الليبراليون الجدد، وانما السياسة الخاطئة والاستغلال. وها هي صيحات الفئات الاجتماعية الأكثر تضرراً تنطلق عالياً، لأنها لم تجنِ أي فائدة من العولمة، والتي بات ضررها واضحاً على الدول الأضعف اقتصاداً.

أزمة الرأسمالية
لقد تميز تاريخ الانسان بالعنف والحروب وانتج قوى وبنيات لم يستطع السيطرة عليها, وبالتالي هي التي سيطرت عليه. فالرأسمالية, كنظام اقتصادي, التي ادعت انها تضمن تحقيق الحرية والرفاهية, مكنت جزءا من الناس بواسطة الاستهلاك ان يتحولوا وبسهولة الى اغنياء, ولكن بنفس الوقت, يجوع اليوم عدد كبير جدا من الناس واكثر من الماضي، بالرغم من انهم يمتلكون تقدما صحيا افضل من الماضي.
خلال القرن العشرين مات ملايين من الناس من جراء الحروب. وبالرغم من ان اوقات العمل اصبحت قصيرة خلال العقود الاخيرة, الا ان اوقات فراغهم اصبحت اقصر بكثير مما كانت عليه في الماضي. ومن هنا ترى النظرية النقدية ان هذه المشاكل والازمات لا يمكن حلها بواسطة الاصلاح او الضغط او التضييق على قواعدها الداخلية التي تسيطر على النظام الرأسمالي, وانما عن طريق تخفيف الازمة والسيطرة على توزيع الحاجات وجعل الاوضاع والظروف اكثر انسانية. والحقيقة لا يمكن حل ازمة الرأسمالية نفسها، لان أزمة الرأسمالية هي ليست أزمة معاصرة, وهي أزمة ليست ظاهرة للعيان دوما, وان اغلبية الناس تعتبر الحياة في المجتمعات الحديثة كالتقدم والرخاء كحقيقة, وهم مستعدون لقبول العوز والفاقة باعتباره قدرهم.
والسؤال الذي يتبادر الى الذهن : الى متى يستطيع المجتمع الرأسمالي ان يبرهن بالرغم من ديناميكية الأزمة الداخلية, على كونه ثابتا وقويا؟ وللاجابة على هذا التساؤل هناك وجهات نظر مختلفة, فهل بالامكان تخطي الأزمة او تنظيمها لمدة طويلة؟ هل تشير الازمة الى انهيار قادم للرأسمالية؟ وهل ان هذا الانهيار نهائي؟ واذا كان الجواب بنعم فهل يكون الانهيار سلميا ام يتم بشكل غير واضح وملحوظ؟ أم يبقى الحال على ما هو عليه الآن؟!
ليس تحليل الازمة بالنسبة للنظرية النقدية مهما فحسب, بل دراسة الظروف التي يكون فيها الناس مستعدون لتقبل مثل هذه الظروف وعلى اقل تقدير فان من مصلحتهم تحسين ظروف وشروط حياتهم. ان هذا يرتبط بالسؤال التاريخي الذي يرتبط بطبيعة الانسان وواقع الناس في الحياة اليومية الحقيقية, التي تتميز بالاختلاف والتناقض. ان هذه التوترات تطبع في الحقيقة تاريخ البشرية وتقود في ذات الوقت الى شروط الحياة المعاصرة, حيث يظهر التاريخ نفسه كتناقض : فمن جهة يتطور الانسان عموما الى انسان اجتماعي, ومن جهة اخرى فان سيرورة التطورمن المحتمل ان تقود الى أزمة اجتماعية!

الاغتراب في المجتمع الرأسمالي
في اطروحته الفلسفية - الاجتماعية كتب ماركس, بان الاغتراب يزداد قوة في النظام الراسمالي , حيث يصبح المرء مغتربا عن المجتمع الذي يعيش فيه, فالعمال , عندما ينتجون quot; اشياءquot; لا تعود ملكيتها اليهم ولا قوة عملهم ايضا, فانهم يبيعون قوة عملهم مقابل اجور زهيدة وحسب الساعة والتي لا تسد حاجتهم الاساسية، ويتم ذلك وفق عمل تبادلي ونمط انتاج تبادلي مطلق. وبهذا يصبح معنى الاغتراب فلسفيا، أي ان الانسان يصنع عالمه ليس في الرأس , وانما عن طريق الممارسة العملية عندما يقوم بها. وقد قدم ماركس وصفا لاصل المجتمع الانساني والعمل الذي هو غريب عن الانسان والملكية الخاصة, وهما بداية التحول الى المؤسسات الاجتماعية. وهذه العملية تعني ان الانسان اخذ يمتلك العالم الذي عمله حين فسر الملكية وحقوق التملك كشخص في عملية تبادل ما يمتلكه.
في المرحلة الاولى من تأسيس النظرية النقدية توجه رواد مدرسة فرانكفورت الى نقد المجتمع الصناعي الكبير ونظامه التكنوقراطي. وكان هذا النقد جزءا من النضال ضد النظام الراسمالي, حيث توجهوا الى نقد الاقتصاد السياسي وتحليل التناقضات في المجتمع الراسمالي, واعتقدوا بان تفجير هذه التناقضات سوف يقود الى بناء الاشتراكية. اما في المرحلة الثانية(بعد صعود النازية) وهي مرحلة المنفى وما بعدها، فقد وجهوا اهتماماتهم الى نقد النظم السياسية والثقافية وتحولوا عن فكرة الصراع الطبقي, التي فقدت معناها كاداة تحليلية، وذلك بسبب تزييف وعي الطبقة العاملة وتطورها الى اداة بيروقراطية. كما توصلوا الى شبه اجماع في الرأي, وهو ان الصراع الطبقي والتناقض الاجتماعي يجب ان يحلا اولا على المستوى الفكري من خلال النقد والنقد الذاتي المستمر, وليس من خلال النضال بالوسائل الكلاسيكية التي تبنتها الماركسية التقليدية، لان نقد الوسائل الكلاسيكية للماركسية لا يعد رفضا للماركسية, وانما فهم جديد لها في ضوء ظروف المجتمع الصناعي الجديد التي ادت الى اغتراب المجتمع.
اشار هوركهايمر الى ان النظام الرأسمالي يقاد اليوم من قبل ادارة شمولية لم تاتي عبثا, وانما هي وليدة quot;مدنية التصنيعquot; الحديثة والتكنولوجيا المتقدمة والسلطة القاهرة, ففي مثل هذا المجتمع تصبح السلطة والتكنولوجيا مترادفتين. ويظهر التسلط القهري في المشاركة الجبرية للملايين في عملية الانتاج والاستهلاك. والنتيجة هي تطور مجتمع يجبر المستهلكين على الاستهلاك الطوعي والمستمر ومن دون ادنى مقاومة او احتجاج, وذلك بفعل وسائل الدعاية والاعلان. وان هذا الواقع ليس سوى دورة من الخداع ورد فعل للحاجات التي تجعل وحدة النظام اكثر قوة وتماسكا, وتصبح خاصية القهر والخداع خاصية اغتراب المجتمع. ففي هذا المجتمع الاستهلاكي المغترب يتذرى الانسان ويتشيء وتضيع شخصيته الحقيقية, لان الانتاج الكبير يجعل من البشر موادا احتياطية ومواضيعا لهذه المواد.
ان المدنية الحديثة بتكنولوجيتها المتقدمة توجه العلم والتقنية والعمل والسياسة وكذلك الفلسفة نحو مصالحها، حيث، يقول هوركهايمر وأدورنو في كتابهما quot;جدل التنويرquot;، في المجتمع الصناعي الحديث يرتفع مستوى الانتاج الاقتصادي مما يدفع الى انتاج مواد استهلاكية اكثر من الحاجة, وهو بذلك ينتج تفوقا غير اعتيادي على الناس حيث تصبح السلطة وكذلك الجهاز التكنولوجي اكثر قوة وتسلطا وقهرا, ويصبح الفرد, بموجب ذلك ملغيا من قبل الجهاز الذي يخدمه. وبهذا يرتفع الشعور بالعجز امام هذا الجهاز وتقوى سهولة انقياد الافراد عن طريق المواد الاستهلاكية وذوبانه في الثقافة التي ينتجها. كما ان وسائل الاتصال والدعاية والاعلان المقنعة ووسائل اللهو والتسلية هي ليست سخرية منه فحسب, بل وعملية تغبية وغسل دماغ. وبهذا تصبح بضائع السعادة اسباب تعاسة وشقاء. وان هذا الواقع ليس سوى دورة من الخداع ورد فعل للحاجات التي تجعل من النظام اكثر قوة وتماسكا. في هذا المجتمع الاستهلاكي المغترب يذرى الانسان وتضيع شخصيته الحقيقية.
ان هذا الواقع البائس لا يمكن ان يحقق للانسان حريته وسعادته, لان تحقيق السعادة لا يتم الا بممارسة الحرية وتقرير المصير للذات الانسانية التي تحطمت بفعل البؤس والخوف والقهر في ظل النظام الرأسمالي الشمولي.