لنبدأ أوّلاً برواية هذه النكتة
البعثية غير المضحكة: لقد تحرّكت من سباتها تلك المؤسسة الصورية المسمّاة الجامعة العربية، المأزومة والمهزومة أصلاً، على خلفية الجرائم التي يرتكتبها النّظام السّوري بعد مضيّ شهور طويلة على نشوب الانتفاضة الشعبية السورية ضدّ الاستبداد البعثي. وقد تناقلت وسائل الإعلام عن أزلام هذه الطغمة البعثية الحاكمة في سورية ردّهم على ما ورد في قرار الجامعة. وبين ما جاء في الردّ سؤال يوجّهه هؤلاء للجامعة: ״ماذا تقصدون بالشبّيحة״؟
هكذا، وبنوع من التّذاكي البعثي المفضوح، يحاول هؤلاء تجاهل ما تعرضه وسائل الإعلام منذ شهور عن دور ״الشبّيحة״ في الجرائم البشعة التي تُرتكب بحقّ المواطنين السوريّين المنتفضين ضدّ طغمتهم المستبدّة. إنّها نكتة غير مضحكة حقًّا، وهي تشير إلى عمق هذا الدّرك الذي وصلت إليه طغمة البعث، وإلى عمق هذا الوحل الذي تتخبّط فيه. لا بأس، سنشرح لهؤلاء لاحقًا مصدر هذا المصطلح.

ولكن، وقبل ذلك، دعونا
نتفكّر قليلاً في هذه الحال العربية الفريدة من نوعها. في التاريخ العربي المعاصر، حكم حزب البعث العربي الاشتراكي في بلدين عربيّين، في العراق وسورية. ولكن، ورغم شعارات ״الأمّة العربية الواحدة״ و״الرسالة الخالدة״ ودعاوى ״الوحدة״ الكاذبة، فقد كان هذان النّظامان ״العربيّان״ أشدّ عداوة أحدهما للآخر منهما لأيّ بلد آخر على وجه الأرض. لقد بلغت هذه العداوة أوجها، عندما انضمّت سورية المحكومة بديكتاتورية حزب البعث القبلي، إبّان حكم الأسد الأب، إلى حلف بوش الأب لضرب العراق المحكوم بديكتاتورية حزب شقيق، هو حزب البعث القبلي الصدّامي. وهكذا ذهبت، بين ليلة وضحاها، شعارات البعث حول الأمّة ״الواحدة״ أدراج الرياح.

فماذا تعني هذه الحال؟
إنّها تعني شيئًا واحدًا وهو، إنّ الشعارات البعثية البلاغية شيء والحقيقة على الأرض شيء آخر مختلف تمامًا. وعلى كلّ حال، فكذا هي حال العربان، ليس الآن، بل ومنذ قديم الزّمان. فدائمًا كانت شعارات البلاغة العربية التليدة والبليدة لا تعني شيئًا. إنّها تُرفع في سماء العرب المتبلّدة والمتلبّدة فقط لدغدغة عواطف العامّة هنا وهناك، مخفية عقيدة التّسلّط القبليّ الذي يحكم ذهنيّة العرب منذ القدم.
من المهمّ، في هذه العجالة، التّذكير أيضًا بكيفية وصول هذه الأحزاب وأشباهها إلى الحكم. لقد جاءت كلّها مع جلاء الاستعمار وفي حقبة الحرب الباردة عبر انقلابات عسكريّة. لقد كانت هذه الانقلابات بمثابة اغتصاب للسّلطة في هذه البلدان. وهذا الاغتصاب قد أدخل هذه البلدان في حملٍ أنجبت إثره أنظمة عربيّة لقيطة. فلا هي نظام ملكي، ولا هي نظام أميري ولا هي سلطنات، بل أضحت أنظمة استبداد مشوّهة، شوّهت لسنوات طوال الحجر والشجر والبشر. بل يمكن القول إنّها أسوأ وأظلم أصلاً من كلّ ما كان قبلئذ. بل وأكثر من ذلك هي أسوأ حتّى من الاستعمار الأجنبي الذي جلا عن هذه البلاد.

إنّها أنظمة مافيوزية
بكلّ ما تحمله هذه الكلمة من معنى. كذا كانت الحال مع نظام البعث الصدّامي الّذي قتل وسحل في بلاد الرافدين لسنين طوال محاطًا برجال قبيلته من الأبناء والأعمام والأخوال والأصهار وأبناء الأخوال والأعمام، ومن ورائهم ثلّة من أصناف المنتفعين من بعض قبائل العربان. كذا هي الحال الآن مع نظام البعث الشّامي الّذي هو صورة طبق الأصل عن ذاك الشقيق العراقي سيّء الصيت. فها هو البعث الشامي يسير على ذات النهج القبلي. فقد تمّ توريث المزرعة السورية من الأب للابن بمهزلة دستورية وسط تصفيق ما يسمّى زورًا وبهتانًا ״مجلس الشعب״، وها هو يسير أيضًا على ذات النهج في القتل والسحل، محاطًا طبعًا بالأشقّاء والأعمام والأخوال ومن والاهم من إصناف قبائل العربان الشامية. ألا تكفي هذه الحقائق المعروفة طوال عقود لفهم جوهر هذا النّوع من الأنظمة المافيوزية؟ وعلى هذا المنوال، قس طبعًا الحال في سائر الأقطار العربية التي ترفع شعارات شعبوية فارغة.

ماذا يعني المصطلح ״الشبّيحة״؟
إنّ التّذاكي البعثي في التساؤل حول معنى ״الشبيحة״ هو جزء من هذه الطبيعة المافيوزية. السوريّون يعرفون حقيقة هذه العصابات التي ترتكب الجرائم بحقّ المواطنين. كذلك العالم بأسره يعرف حقيقة هذه العصابات، عبر تسريبات الأخبار والأفلام لشبكة الإنترنت. بفضل تكنولوجيا الاتّصال الجديدة، والتي هي طبعًا من اختراعات ״الكفّار״، لم يعد بالإمكان إخفاء الحقائق. مهما حاول النّظام الفاشي التستّر على جرائمه، فبفضل هذه التكنولوجيا يستطيع العالم بأسره الوقوف على ما يجري.
وهكذا، ولمّا كان السوريّون عربًا فإنّهم يعرفون لغتهم العربية ويعرفون بلهجتهم الشاميّة استخدامات الفعل ״شبح״ في العربية. وإذا شاء دعاة العروبة الكاذبة في أروقة النّظام البعثي معرفة معنى هذا المصطلح في العربية، فها أنذا أحيلهم إلى ما يورده ابن منظور في اللّسان: ״والشَّبْحُ مَدُّك الشيءَ بين أَوتاد، أَو الرجلَ بين شيئين، والمضروبُ يُشْبَحُ إِذا مُدَّ للجَلْدِ. وشَبَحَه يَشْبَحُه: مَدَّه ليجلدَه. وشَبَحَه: مَدَّه كالمصلوب... وفي حديث الدجال: خذوه فاشْبَحُوه... وشَبَح رأْسَه شَبْحًا: شَقَّه.״ (انظر: لسان العرب، شبح). فهل يعرف الآن هؤلاء المتذاكون ماذا يعني، ومن أين اشتُقّ مصطلح ״الشبّيحة״؟
وخلاصة القول: لقد آن الأوان إلى قلب آية النّظام البعثي رأسًا على عقب. ولمّا كان فكر البعث العربي مبنيًّا أصلاً على الكذب والدجل، فقد آن الأوان إلى شَبْحِهِ واستئصاله، بل إلى شبح واستئصال كلّ أنواع الفكر الفاشي والعنصري من الذهنية العربية، أكان هذا الفكر قبليًّا، أو طائفيًّا، أو قوميًّا أو دينيًّا على اختلاف تشعّبات وانتماءات هذه الكتلة البشرية. إذ، بغير ذلك لن يصل العرب إلى سواء السّبيل.

والعقل وليّ والتوفيق!
*
موقع الكاتب: ״من جهة أخرى״
http://salmaghari.blogspot.com