يذكر أن الكاتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل، قال في خاتمة حلقة تلفزيونية خاصة بثت على قناة الجزيرة القطرية، أنه سيكون للثورة التونسية رجع صدى على لبنان بالدرجة الأولى، لما للبلدين، أي تونس ولبنان، من عناصر ترابط و أواصر قرابة تاريخية، لعل أهمها المنطلق الفينيقي للدولة فيهما، و شدة انفتاحهما على الحضارة الغربية.
غير أن رجع الصدى كان فيما تبين سريعا، أنه قد ضرب في بلد آخر، وهو بلد هيكل نفسه، إذ لم يمض أسبوعان على انتصار الثورة التونسية، حتى تفجرت الثورة المصرية، ففي 25 يناير كانت مظاهرة الغضب، وفي 11 فبراير كان يوم رحيل الرئيس مبارك بعد ثلاثين عاما من الحكم، و رأي كثير من المحللين يؤكد أن المصريين كانوا في حاجة إلى المقدمة التونسية حتى يثبت لهم أن الشعب قادر على فرض إرادته، و أن أسابيع من الإصرار الشعبي كافية لهد من صنف طويلا بأنه من أقوى الأنظمة وأكثرها منعة و شراسة وقدرة على الثبات والمواجهة.
علاقة التأثير والتأثر بين تونس ومصر عريقة جدا، ربما ضربت بجذورها في ما قبل التاريخ، فقد كان للحضارة القرطاجنية صلة ما بسابقتها الفرعونية، ثم كان الفتح العربي الإسلامي لتونس من الفسطاط، وكانت أول غزوة إلى أفريقية هي التي قادها والي عثمان بن عفان على مصر quot;عبد الله بن أبي السرحquot;، و قد رد التونسيون الفتح إلى المصريين خلال الحقبة الفاطمية، حين ابتعث المعز لدين الله قائده جوهر الصقلي، فغزا المحروسة وبنى القاهرة التي إليها انتقل الخليفة الفاطمي الرابع في رفقة من آلاف جنوده المغاربة و قبائلهم.
و يعود تعريب تونس إلى غزوات بني هلال وبني سليم، الذين قدموا إلى أفريقية من صعيد مصر بتشجيع من الفاطميين لمعاقبة واليهم الصنهاجي المعز بن باديس، الذي نكث بيعتهم ووالى العباسيين في بغداد، فأخضع الهلاليون البلاد التونسية في ظرف وجيز و انتشروا في ربوعها و غلبوا العنصر العربي على ساكنتها، و عادت منذ ذلك التاريخ عربية اللسان بالكامل، متميزة عن بقية البلاد المغاربية، التي استمرت خليطا من اللغات واللهجات.
و قد صنع المفكر العقلاني الكبير ابن خلدون إشارة أخرى في بيان عمق الصلة بين مصر وأفريقية، حيث كان مولده في تونس و مماته في القاهرة، و كذا كان حال عديد الفقهاء والعلماء و المجددين، في ترحالهم بين البلدين، لعل من أشهرهم شيخ الأزهر محمد الخضر حسين الذي هاجر إلى المحروسة بعد تخرجه من الزيتونة ووصل في مهجره إلى أعلى المراتب، أما الشاعر الشعبي العظيم محمود بيرم التونسي، فقد كان جده هو من هاجر إلى الاسكندرية، و قد قضى ثلاثة سنين من منفاه في تونس في بداية الثلاثينيات، وكان لحضوره وقع كبير في أوساط النخبة التونسية.
و قد تحركت مصر نحو النهضة والحداثة بعد الغزو الفرنسي لها، غزوة نابليون، في بداية القرن التاسع عشرة، حيث استهل محمد علي باشا مسيرة تأسيس الدولة المصرية الحديثة، تماما كما كان للتهديد الفرنسي دور بالغ التأثير في إعادة بناء الدولة التونسية أواسط القرن نفسه، حيث ظهر أول دستور في العالم العربي والإسلامي، هو الدستور التونسي لسنة 1861، الذي سيحتفل هذا العام بالذكرى 150 على كتابته.
و لفترة الخديوي اسماعيل في مصر تشابه كبير مع فترة الوزير الأعظم خير الدين باشا التونسي، فقد حاول كلاهما تسريع عجلة الإصلاح وبناء الدولة العصرية المستقلة، و قد انتهت تجربتهما للأسف الشديد نهاية حزينة بخلع الأول ونفي الثاني. مثلما شهدت مصر و تونس خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشرة ثورات عسكرية، فقد تمرد كل من عرابي باشا و علي بن غذاهم على العرش والاستعمار، وطالب كلاهما بالعدالة والإنصاف لشعبيهما.
و مثلما خضعت مصر للاستعمار الانجليزي سنة 1881، فقد خضعت تونس في السنة ذاتها إلى الاستعمار الفرنسي، وشهد كلاهما طيلة زمن الاحتلال حركية منقطعة النظير للنخب والمجتمعات، وصلت قمتها ربما خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، التي تميزت بنهضة ليبرالية وتعددية بينة، أظهرت إلى الوجود أشهر و أعظم زعماء وأدباء وشعراء البلدين، و أعلت من أصوات المصلحين كمحمد عبده وقاسم أمين و سعد زغلول وغيرهم في مصر، و كالثعالبي والطاهر الحداد و بورقيبة وسواهم في تونس.
و قد جلى الاستعمار الغربي عن مصر و تونس مخلفا وراءه دولة وطنية مكونة من بقايا العهد العثماني الذي ساد قرونا على البلدين، لكن الجمهورية سرعان ما قامت رافعة شعار المواطنة والعدالة الاجتماعية، فقد انقلب الضباط الأحرار على الملك فاروق معلنين الجمهورية في 23 يوليو سنة 1952، و بعد خمس سنوات من ذلك التاريخ أنهى الوطنيون في تونس حكم آخر البايات محمد الأمين، معلنين بداية العصر الجمهوري في 25 يوليو 1957 (لاحظوا تشابه التاريخ أيضا).
و على الرغم مما قد يبدو اختلافا ظاهريا بين الناصرية والبورقيبية، فقد شهدت مصر و تونس خلال حقبة الستينيات تجربة تحديثية اشتراكية خاصة ركزت على منح الأولوية في التنمية للتعليم والصحة و البنى التحتية و التصنيع الوطني، تماما كما انتقل البلدان في السبعينيات إلى نموذج التحديث الرأسمالي، وانتهيا معا ابتداء من الثمانينيات إلى نظام سياسي متشابه جدا في ملامحه العامة و توجهاته الكبرى.
و لا يخفى على أحد أن نظام كل من الرئيس مبارك و الرئيس بن علي، و كلاهما ضابط عسكري استبدل بدلته الأصلية ببدلة مدنية، قد قام على مزيج من القبضة الأمنية و السياسات الاقتصادية والاجتماعية القائمة على الخوصصة والسياحة والاستثمارات الأجنبية، كما قام على حظوة كبيرة للسيدة الأولى، أي زوجة الرئيس، و على مخططات للتوريث، كانت في مصر لصالح الإبن غير البكر جمال، و في تونس لصالح الصهر المحظوظ (المنكود لاحقا) محمد صخر الماطري.
كما تميز نظاما الرئيسين مبارك و بن علي بفساد الطبقة الحاكمة، حيث كدست العائلتان الحاكمتان ثروات كبرى بطرق غير نزيهة، تقدر اليوم بعدة مليارات، وأحاطت نفسها بمجموعة من رجال الأعمال محدثي النعمة، ممن عملوا على الجمع بين الثروة المالية الفاسدة والنفوذ السياسي المجرم، و قد جلبت هذه النخب في نهاية الأمر نقمة شعبية منقطعة النظير على النظامين الحاكمين في البلدين، كانت السبب الرئيس في إنهائهما.
غير أنه ثمة اختلاف لا بد من رصده فيما يتصل بطبيعة نظامي مبارك وبن علي، فقد كان النظام المصري أقل تضييقا على الحريات العامة و الصحافة والإعلام من نظيره التونسي، و كان المصريون يعانون من خوف أقل من أجهزة مخابراتهم وشرطتهم، قياسا بأشقائهم التونسيين، و بالمقدور رؤية ذلك في حركية الأحزاب السياسية والمجتمع المدني، وهو ما جعل حكم الرئيس مبارك أطول سبع سنين من حكم الرئيس بن علي، كما جعل نهاية مبارك أقل إهانة من بن علي.
و إن من أكثر المشاهد إبهارا في الثورتين التونسية والمصرية تشابه فصولهما العجيب، وخصوصا الكيفية التي عالج بها النظام في البلدين تصاعد الحركات الاحتجاجية، فكلا الرئيسين خطب ثلاثة خطب في شعبه، وكلاهما بدا معزولا ومتأخرا في رد فعله، و كلاهما ذكر ببلائه الحسن في خدمة دولته و وطنه و أبدى تفهما غير مقنع لمطالب الشباب الثائر على حكمه، وكلاهما خطب خطبة الوداع مساء الخميس و غادر الحكم مساء الجمعة.
لا يجب أن ينسى في عملية رصد الائتلاف والاختلاف، رصد تشابه آداء الإعلام الرسمي ودور الجزيرة الفعال والعجيب في تعبئة الثوار و دعوتهم للمثابرة والاستمرار، فضلا عن ظهور quot;القناصةquot; في تونس وquot;البلطجيةquot; في مصر، وتكون اللجان الشعبية لحماية الممتلكات الخاصة والعامة، وقرار القوات المسلحة في البلدين الانحياز للشعب وتبني أجندات الثورة.
و إن هذه الأوجه كلها لا يجب أن تحجب الحقيقة الكبرى للثورتين التونسية والمصرية، و هي أنهما كانتا ثورة الشباب الذي يشكل أكثر من نصف المجتمع، والذي جعل من quot;الفايسبوكquot; وسيلته الجبارة غير المسبوقة في الدعوة إلى الثورة و ضمان استمراريتها ونجاحها، و من الشعارات الوطنية الديمقراطية الأساس الفكري والسياسي لها، مبعدا عنها شبح نعتها بالأصولية والإرهاب، وهي التهمة التي حاول كلا النظامين وصمها بها.
و قد نالت الثورتان التونسية والمصرية تعاطفا دوليا كبيرا، وخصوصا من القوى الغربية، غير أن نظام الرئيس مبارك نال لأيام نوعا من الإسناد الأمريكي بالنظر إلى الدور الذي لعبه النظام المصري طيلة عقود في إطار ما يسمى بعملية السلام، وبالنظر أيضا إلى كون مصر خلافا لتونس دولة مواجهة ضمن ما يعرف بالصراع العربي الإسرائيلي.
ما بعد الثورتين التونسية والمصرية، يبدو متشابها في جانب احتدام النزعة المطلبية و ظهور بوادر فوضى عامة على صعيد الاحتجاجات النقابية و المشاكل الأمنية وتدافع القوى السياسية والحقوقية لحصد أكبر قدر من ثمار الثورة، كما يبدو في جانب آخر مختلفا بالنظر إلى تسلم قيادة مدنية لمقاليد الحكم الانتقالي في تونس، بينما أحيل الأمر إلى مجلس عسكري في مصر، تماما كما يبدو المجتمع المصري أكثر إنصاتا لقياداته و رموزه الدينية و السياسية والعلمية و الإعلامية، بينما يبدو المجتمع التونسي شبه خال من هذه القيادات والرموز، تستوي عنده أصوات النخب والعامة، و يطال فيه التشكيك جميع الوجوه البارزة، و كلا البلدين موعود بالتغيير بعد ستة أشهر.