ظهرت في المحطات التلفزية العربية والدولية، وجوه ليبية من انصار الثورة الشعبية ضد نظام القذافي تواكب الحدث بالتعليق والرد على استفسارات المذيعين، والتعبير عن راي القوى الثورية الليبية فيما يطرح من قضايا بعضهم من المشتركين في قيادة الانتفاضة وممثليها في المحافل الدولية مثل الرائد عبد المنعم الهوني وعبد الرحمن شلقم وابراهيم الدباشي ومحمود الشمام وعلى الاوجلي وجمعة القماطي وعلى العيساوي وعلى الريشي، وبعضهم من رموز المعارضة في الخارج مثل ابراهيم صهد وصالح جعودة ومحمد ابوصير وعلى ابوزعكوك وعاشور الشامس وسليمان دوغة وفضيل الامين ومحمد التومي وعادل صنع الله على سبيل المثال لا الحصر فهناك اخرون يظهرون ظهورا اقل تواترا من هؤلاء، مثل شيخ السياسيين مصطفى بن حليم، وغريمه شيخ الناصريين عبد القادر غوقه، كما لابد من الاشارة الى اثنين من علماء الدين الليبيين المثابرين على الظهور وهما الشيخان الفاضلان الاستاذ سالم الشيخي والاستاذ على الصلابي ورغم انهما لم يتجاوزا مرحلة الشباب فهما اصحاب حضور فاعل في عالم الفقه والاستشارات الدينية، ويحظيان باحترام المشاهدين والمستمعين لهذه البرامج في الاذاعات المرئية والمسموعة علاوة على كونهما من الناشطين في البحث الديني الاكاديمي ويحتلان بجدارة مكانهما بين كبار العلماء في المجلس العالمي لعلماء المسلمين، ولم اشرف بالتعرف الشخصي على الدكتور على الصلابي، ولكنني التقيت ذات زيارة الى منشستر بامام مسجدها والمرشد الديني للمسلمين فيها الدكتور سالم الشيخي، واتابع للاثنين ما يكتبانه في صحافة الانترنيت وما يسهمان به في النقاشات العامة فاجد انهما يمثلان الاسلام في شكله الانساني المتسامح الجميل البعيد عن الغلو والتطرف والتشدد، الدين الذي يرسم له القرآن منهاجا يحتضن الكائن البشري اينما كان ولاية ملة انتمي، اذ يقول الله في محكم كتابه :quot;ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاquot; فالانسان بهذا المفهوم القرآني اولا، وكرامة هذا الانسان وتبجيله وتشريفه، ياتي في الاعتبار الاول قبل كونه مسلما، ومن هنا ينبع احترام المسلم لرفاقه في البشرية، وتعاطفه مع قضاياهم، واستعداده لتقديم العون والمساعدة لمن يحتاجها منهم،وليس مفهوم الحقد والكراهية وسياسة الصراع والاحتراب التي ينادي بها اهل التطرف، لان التطرف ناتج عن قصور عقلي واحيانا عن مرض نفسي كما في حالة التكفيريين المجرمين الذين يسعون لتصفية كل من لا يوافق تصورهم عن الاسلام وفهمهم المشوه له، وهؤلاء الاثنان يسيران على طريق دين الوسطية، باشراقاته وتجلياته المبهجة للبشرية التي تبشر بالخير والحب ووتحترم الاختلاف والتنوع، لان الله لم يخلق هذا العالم ليكون لونا واحدا او دينا واحدا، ولم يختط للبشرية منهجا واحدا وسبيلا واحدا للسلوك والتفكير، وانما خلقه مكانا للتنوع والتعدد وتباين الافكار والاراء والمشارب والاهواء، لان هذا التنوع هو الذي يضمن للعالم ما فيه من زخم وخصوبة وثراء، هذه هي حكمة الله في خلق هذا العالم التي لا يجب ان تغيب عن اي انسان حصيف او شيخ يتصدى لاداء الرسالة وخدمتها، فلا اداء لهذه الرسالة ولا خدمة لها باقصاء البشر الاخرين، او النفور منهم والامتناع عن فهمهم والادعاء بان هذا النوع من الفكر او هذا النوع من التدين وحده من يحتكر الحقيقة، ويحتكر الصواب، ويمضي وحده في الطريق الصحيح ومن يخالفه فقد خالف سنن الوجود وتسنم طريق الانحراف والجاهلية، كما يقول اهل الغلو والتطرف، والسادرين في طريق يعاكس الطريق الذي اراده الله للكائنات البشرية من قاطني هذا الكوكب.
نعم، اقول بثقة واقتناع، ان هذه الصورة للدين الاسلامي التي يقدمها الشيخان العزيزان الدكتور على الصلابي والدكتور سالم الشيخي تمثل الصورة التي عرفناها في ليبيا عن طريق علماء اجلاء من جيل سابق لهما جيل الشيخ عبد الرحمن البوصيري والشيخ محمود المسلاتي والشيخ الطاهر الزاوي، ولم يكن هذا الطريق بعيدا عن شيوخ عرفهم العالم العربي مثل عبد الرحمن الكواكبي الذي حارب الاستبداد والطغيان كما يفعل الشيخان الجليلان في منفاهما الذي ارتضياه بعيدا عن حكم الطاغية القذافي، والشيخ جمال الدين الافغاني، وصاحبه الذي واصل رسالة التحديث والتطوير للدين الاسلامي الشيخ محمد عبده، والشيخ مصطفى عبد الرازق وصولا الى الشيخ محمود شلتوت ومن بعده شيخ شيوخ الاستنارة في العصر الحديث الكاتب والمفكر والاستاذ والشيخ خالد محمد خالد رحمهم الله جميعا، ومع هذه المكانة الرفيعة التي احملها في نفسي لهذين الشيخين من ابناء بلدي واجيالها الحديثة المتصدية لتوعية الاذهان برسالة الدين الحنيف، فقد لمست في نفسي شيئا من التوجس وانا ارى هذين الشيخين يتصديان لمهمة صياغة الدستور المؤقت للثورة الجديدة، وقلت في نفسي اهلا بهما وهما يتوليان الحديث واصدار الافتاء في مجالهما التخصصي الذي يتصل بالفقه وعلوم الدين، ولكن مسالة العبور الى عالم السياسة وصياغة الدساتير في فترة ربما تكون سابقة لاوانها، فهو شيء بدا لي يثير الفضول عن السبب في هذا الانتقال السريع لمجال ليس مجالهما، وتساءلت بيني وبين نفسي اذا ما كان هذا العمل نوعا من التكتيك الذي تتبعه قوى اسلامية من خلفهما ارادت استغلال ما يحظى به الشيخان من قبول لدى الشعب الليبي وقطاعات شاسعة من من الشعوب العربية الاخرى، وما لديهما من احترام في الشارع السياسي المتابع للاحداث الراهنة في ليبيا، فدفع بهما ليكونا راس الحربة الاسلامية في احتواء هذه الثورة والسيطرة عليها، وربما بهذا الشعور المتوجس قرات المشروع الذي قدماه، واصارح القاريء الكريم انني ما ان وصلت الى نهايته حتى اطلقت تنهيدة ارتياح، لان ما وجدته كان والحمد لله خاليا من كل ما خامرني من شكوك، ولم اجد الا ما اعرفه عن الشيخين من صدق وامانة ونزاهة واشراق وشفافية في تناول الموضوع، وصاغا مشروعا باسم كل القوى المدافعة على الحرية، الطامحة الى بناء مجتمع الحضارة والتنوع والسماحة والبراح الانساني الذي يستوعب كل راي وكل فكر وكل مدرسة في السياسة او منهج في التعامل مع معطيات الواقع، دون تهميش او اقصاء، ودون احتكار للمشهد السياسي او ادعاء بامتلاك الحقيقة، بل دولة ديمقراطية برلمانية تحتكم الى قانون جامع هو الدستور تصدر عنه قوانين تهتدي بمبادئة ويقف الناس سواسية امامه، لا استثناء لاحد ولا حصانة له من المحاسبة عند الخطا حتى لوكان رئيس الجمهورية،والشعب مصدر السلطات، يمارسها عن طريق صناديق الاقتراع، وللمواطنين حرية انشاء الاحزاب السياسية والانتماء اليها وحرية القول والتعبير والبحث والتفكير والاجتماع وانشاء مؤسسات المجتمع المدني، وبطبيعة الحال فاهلا بالنص على اللغة العربية لغة رسمية لاهل البلاد، واهلا طبعا بالنص على ان الدين الاسلامي هو دين هذه الدولة، وهي عبارة كافية شافية، اتبعها الاستاذان ومن اعانهما في صياغة مشروع الدستور، بجملة شارحة تقول، ومباديء الشريعة الاسلامية مصدر تشريعها، ولا اعتراض من جانبي اطلاقا على هذه الجملة، ولكنني اراها تزيدا لا حاجة لنا فيه، وربما يشكل تكبيلا لارادة واضع القوانين بعد ذلك، ليس لانه يريد الخروج على الدين لا سمح الله، ولكن لان العالم يزخر بقضايا تحتاج الى قوانين لا وجود لمصدر لها في الشريعة، لان هذه القضايا لم تكن موجودة عند نزول الوحي لكي يشرع لها، فهناك قوانين للطيران، واخرى لمرور السيارات، واختراع مثل الانترنيت وعالم تقنيات الديجتال ومجتمع المعرفة، يحتاج الى حزمة قوانين لا مراجع لها حتى في القانون المدني الفرنسي المسمى قانون نابليون الذي يشكل مرجعية عالمية للقوانين الوضعية، ولذلك اقترح الاكتفاء بالنص على الدين الرسمي للدولة، الذي لا يضع حجرا على حركة الناس وممارسة حريتهم العامة والشخصية في اطار القانون، ولقد ضربت المثل في مقال سابق بدولة الاستقلال التي اسهم في تاسيسها و استلم رئاستها شيخ الطريقة السنوسية نفسه، فلم يكن متشددا ولا متزمتا، ولم يكن يحظر في دولته وجود الملاهي الليلية ولا الحانات ولا استهلاك الخمور ولا البلاجات التي تسبح فيها النساء بلباس البحر المسمى البكيني، دون اجتراء ولا افساد ولا ضرر ولا ضرار كما يقول التعبير القانوني، فهناك قانون يحاسب من تخطى حدود حريته ليضر الاخرين، فمن يستهلك الخمر يحكمه قانون المرور اذا اراد ان يهزا بحياة الناس ويقود سيارته مخمورا، ويحاسبه او يحاسب غيره، قانون الحياء العام اذا اراد خدش حياء الناس وهكذا لمن يذهب الى البحر او يدخل الملهى، الحرية مكفولة للجميع، والدين لله والوطن للجميع. واهنيء فعلا الاستاذين الفاضلين على اجتهادهما وحرصهما على المساهمة في مسيرة شعبهما وارى ان مشروعهما الدستوري المؤقت قد احتوى كل العناوين العريضة التي اعلنها المجلس الوطني المؤقت فليته يستعين ايضا بهذا المشروع، وربما غيره من مشاريع تتولى لجنة اكثر اتساعا وتحتوى ممثلين لكل الوان الطيف السياسي مع علماء في الفقه الدستوري لاحكام الصياغة القانونية، ليكون هذا المشروع القانوني المؤقت، مرشدا للحياة السياسية فور المباشرة في استلام الحكم بعد انتهاء حكم العقيد، للفترة الانتقالية التي حددها المجلس الوطني المؤقت بمدة عام واحد، فعلى بركة الله نمضي وبه نستعين وعليه نتوكل، والمجد والاكبار لدم الشهداء والنصر المؤزر لمسيرة الثورة ضد الظلم والطغيان.

[email protected]