من أعجب الأمور أن هذه الآية من سورة الإسراء استخدمها الحزب المرواني في الانقلاب العسكري ضد الخلافة الراشدة من أجل الوصول إلى السلطة؛ فقالوا عثمان قتل ظلما ونحن أولياء الدم ولنا السلطان..
ولكن القرآن ليس مروانيا وليس شيعيا ولا مذهبيا سلفيا أو خلفيا بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم...
الآية تتحدث في كل عصر أن من يقتل مظلوما ولو كان في انخل وأزرع والصنمين ودرعا والقامشلي واللاذقية وبانياس وتلبيسة والبيضة، إن كان المسيح أو الحسين فهو يحرك المشاعر على نحو يدفع الآخرين لمتابعة الاستشهاد على نفس طريقتهم.
هذه الآلية النفسية تجعلنا نفهم لماذا يضرب الشيعة أنفسهم كل عام في موعد كربلاء بالأكف والسلاسل، ولماذا يحمل المسيحيون كل عام الصليب إلى جبل الجلجثة، ولماذا يبكي اليهود كل عام على مذبحة الماسادا التي تمت في عام 72 م بعد المسيح حين دمر القائد الروماني تيتيوس القدس وتابعهم فقضى على آخر أثرهم في هذه القلعة المحصنة، ليس بسيوف الجنود الرومان بل بنحر اليهود بعضهم بعضا عوضا عن الاستسلام المهين لجبروت روما..
ما يحدث في سوريا هذه الأيام يصدق الآية أن من يقتل ظلما يجعل الله له سلطانا روحيا بنصر قضيته، وهو مايفرق هذا الأسلوب عن الحرب والضرب والاقتتال؛ فالناس يموتون مثل الذباب في خنادق المعارك أما الشهداء فلهم أجرهم ونورهم ونصرهم..
هذه الآلية النفسية مهمة للفهم وتكتيك العمل السياسي وهو مافعله الخميني في الثورة الإيرانية فكانت المناسبة الأربعينية في ذكرى الشهيد تستفتح سجلا جديدا لشهداء جدد ودورة جديدة من عنف الشاه ودم الشهداء ودورة المظاهرات والاحتجاجات من جديد، ويجب أن تفعل الثورة السورية نفس الشيء مع مزيد من الدم والشهادة..
وهذا الموضوع يفتح الباب إلى ثلاث أمور أساسية:
ـ الأول في فهم المعنى العميق لهذه الآية ومعنى الشهادة وأثرها في الروح.
ـ والأمر الثاني أهمية تكتيك اللاعنف في المقاومة السلمية كما فعل الأنبياء من قبل وطبقه غاندي بنجاح واهتدت له الجماهير العربية عفويا كترياق شافي من الديكتاتوريات المتخشبة في المنطقة العربية.
ـ والأمر الثالث وهو الأهم أن كنس الديكتاتوريات وولادة الأمة محررة من علاقات القوة هذا سبيله ومنهجه... فبهداه اقتده..
يذكر القرآن أن أول صراع نشأ بين ولدي آدم أن الأول هدَّد بالقتل كما هدد بشار الأسد في خطابه وكما طبقته أجهزته الأمنية من دولة الرعب التي برع في بنائها والده من قبل وأورثه إياها عارا وعبئا وورطة مهلكة، ولكن القرآن يقول أن ابن آدم الثاني (هابيل) قال إنه لن يقتل ولو قتله الأول؟
وهذا حسب المفاهيم التقليدية الإسلامية غير مفهومة وتتعارض مع مفاهيم الجهاد بل والغريزة الطبيعية في الدفاع عن النفس، وهو أمر كتبت فيه أنا آلاف الصفحات ومئات المقالات منذ ثلاثين سنة بدون فائدة، وكان الفضل في هذا في إنارة هذه الصفحة في عقلي هو داعية السلام جودت سعيد حين اجتمعنا في سجن الحلبوني معتقلين لصالح الفرع 273 التابع للمخابرات العامة في دمشق عام 1973م.
ولكن العجيب أن الجماهير تطبق هذا المبدأ وتخالف الفقهاء في الجهاد المزعوم، بل وترى هذا الأسلوب عين الجهاد والجهاد الأكبر فما الذي حدث بالضبط؟
والجواب أن الجماهير لا تأبه لفتوى الفقهاء جاءت من شيخ الأزهر أو مفتي الجمهورية وشيوخ الشيعة والسنة بكل ألوان العمائم والطرابيش العصملية.
الجماهير تهتدي لأساليب ناجحة ناجعة في مقاومة الاستبداد وقد اهتدت له فعلا.
أما كلامنا والتنظير له منذ ثلاثين سنة والدفاع عنه وشرحه وأنه موجود في القرآن فكان الجميع يقول وماذا تقول بآية السيف اقتلوهم حيث ثقفتموهم؟
في القرآن يقول الرب عن القاتل أنه من الخاسرين والنادمين، والسبب أيضا سيكولوجي، ولعل الحديث الشريف يقود لهذا الفهم لكثيرين من الذين ختم الله على أفهامهم من الزوايا الثمانية المغلقة مثل صندوق حديدي فيستوعب، حين يقول نبي الرحمة ص أن المسْلِمين إذا التقيا بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار؟
أذكر جيدا حين كنت أشرح هذه الفكرة لضابط مخابرات بعثي وشيخ فقيه أنهما قالا بنفس الصوت هما مسلمان وينطبق على المسلمين؟
احترت كيف أشرح الفكرة لهما أن الموضوع نفسي وأن مصير الاثنين في النار والجحيم والهلاك الدنيوي والأخروي لأنهما كما يقول الحديث ينطلقان من نفس القاعدة النفسية:
قالوا يارسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟؟
قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه؟
هذا الكلام مهم جدا لشباب الثورة السورية أن يتبعوا مذهب ابن آدم المقتول، لأن القاتل خاسر ونادم، والمقتول ناجح ورائد في شق الطريق للنزاعات الإنسانية، ولكن كيف؟ ولماذا؟
قال الرب فأصبح أي القاتل من النادمين، ذلك أن الصراع المسلح بين اثنين يجعل المنتصر بطلا والمقتول مهزوما بفارق السرعة، فمن أسرع في القتل كان بطلا ومن قُتِل كان الخاسر.
هذه المعادلة تختلف تماما فيصبح القاتل خاسرا مهزوما، والمقتول ناجحا هاديا للقاتل أن يندم فيغيِّر طريقة تعامله مع المسائل؛ فيتبع أسلوب المقتول؛ فينجح المقتول وهو في قبره، كما تنبت البذرة إذا دفنت في التراب؟
وكيف؟ حين لا يدافع عن نفسه فيتحول هنا القاتل إلى مجرم وليس بطلا تصفق له الجماهير المحتشدة.. وهو ماحدث مع شهداء زملكا والبرزة ودوما في ضواحي دمشق في 22 أبريل 2011م.
هذا هو الطريق أمامكم يا شباب ثورة سوريا ولا تقعوا في مصيدة المهرج الليبي، حين استجر الشباب إلى القتل والقتال والارتهان لمن يمدهم بالسلاح؛ فينصرون بالطريقة التي يرونها تصب في مصلحتهم أكثر من مصلحة الليبيين، وهو ما حصل أيضا في تدمير صدام في العراق ونجت منه مصر بثورة لم تحدث منذ أيام النبي العدنان ص.
هذه كانت النقطة الأولى..
أما الثانية فهي اعتماد هذا التكتيك بوعي وليس غريزة لأن الثاني يتبخر والأول يتأسس فليحاول شباب الثورة التسلح بهذا المعنى فيصبروا مهما قتل منهم في الاحتجاجات والاعتصامات والإضرابات؛ ففريق فرعون هو الخاسر وسيكون النادم.
ويجب الإصرار على هذا الأسلوب مهما حاول المرجفون ومثقفو السلطة ووعاظ السلاطين أن يزينوا للشباب أن النظام سوف يصلح الأوضاع، وأن دراكولا سوف يصبح مارلين مونرو بمساحيق التجميل الثورية؛ وأن اللص المجرم سوف ينقلب قديسا نبيا، ضد نظام الكون وطبائع النفوس؛ فالوضع هو ثورة وهي ثورة القرن؛ فإذا فوتّموها رجع إليكم النظام فيسلخ فروة رأس كل من شارك وساهم ودعم وقال ونصر وتكلم، ولو من الحلقة السابعة من القرابة، على طريقة الهنود الحمر..
أقول هذا وأنا مدرك جدا للنظام البعثي السوري فقد خبرناه وهو نظام غير قابل للإصلاح كما قال رياض الترك يوما..
إذا فليؤسس الشباب لهذه الطريقة بوعي وينيروا طريق الجماهير فقد حصلت المعجزة، وانكسر حاجز الخوف، وانشق سد البعث؛ فالمياه طامية والأيام فرص فلا تضيعوها..
والأمر الثالث الأخير أن العالم العربي برمته يتغير، وأن شمس الحرية قد أشِرقت، وأن الربيع يفوح بعطر هائل في ربى سورية الجميلة..
ولم يدرك فرعون فهو يبتسم بأسنان الليث، عابثا غير عابئ بدم حوران، لقد بطل السحر وزال الخوف والرهب والرعب من الغيلان والجن والسحرة ومردة الفروع الأمنية التسعة عشر مثل تنين المار إلياس.
لقد انتهى النظام البعثي غير مأسوف عليه،
لاحقا فردة الحذاء الثانية من البعث العراقي التوأم.
ما يحدث من قتل مهما بلغت أعداده ـ والتي نتمنى أن تبقى في العدد الأصغر ـ لا تقارن بما يحدث في أرض المهرج الليبي الذي سقطت قامته الأخلاقية أيضا..
إن النظام الليبي والسوري متشابهان إلى حد بعيد مثل السرطان الذي يحتاج للجراحة، والاستقلال الفعلي بدأ الآن، والتحدي الأكبر ليس في الاستعمار والاحتلال الخارجي، بل الاستبداد الداخلي..
الحق أقول لكم يا شباب الثورة في سوريا.. إن الفرق بين الاحتلال الأجنبي والاستبداد الداخلي أربع:
الاحتلال مثل التهاب الجلد الخارجي المحمر: واضح... مؤلم.. سريع البداية والنهاية.. سهل العلاج..
أما السرطان البعثي وأضرابه وأشباهه ونظائره في كل زوايا العالم العربي بأٍسماء شتى جمهورية وملكية فهو أيضا يمتاز بأربع صفات:
غير واضح.. غير مؤلم.. خبيث السير والترقي فلا يشعر صاحبه إلا وانتشارات سرطانات المعدة والكولون والرئة قد عمت البدن..
وأخيرا معقد العلاج وجراحي دامي نازف..
يلحقه معالجات كيماوية وهورمونية وشعاعية..
وقد لا ينفعه علاج ؟؟
فمع السرطان إعلان غير مباشر للموت..
وهكذا ماتت الأمة العربية بسرطان الاستبداد؛ فهي تبعث اليوم من مرقدها فتقول ياويلنا من بعثنا من مرقدنا؟..
تنهض بلباس الدم القاني في حوران والحسكة واللاذقية وحماة وحمص وبانياس وكفر نبل وعامودة والبيضا..
فلكل ثمنه الثوب والسلعة بالدرهم والدينار
والصداقة والخلان بالوفاء وحفظ السر وستر العورة..
والزوجة بالاحترام والثقة والحب؟..
وثمن الحرية والخلاص من العبودية هو الثورة والدم المنهمر