الفترة العصيبة التي مر بها العراق من الفين وستة الى الفين وتسعة شكلت أخطر لحظة وجودية للبلاد في التاريخ الحديث، وتحملها العراقييون بصبر نادر وألم جارح بكل معاني الكلمة، وتصدوا لها بمسؤولية عالية للخروج منها بأقل التضحيات البشرية والمادية، ولا ينكر ان الحكماء والعقلاء والمخلصين في المكونات العراقية الشيعية والسنية والكردية من المرجعيات الدينية والاجتماعية والسياسية لعبت دورا رئيسيا وأساسيا في انقاذ البلد من الحرب الطائفية التي فرضت لحرق العراق بنار الفتنة الطائفية.

واليوم، السلطة التنفيذية بشقيها رئاسة الجمهورية والحكومة مع البرلمان، تعاني من أزمة سياسية منذ اعلان نتائج الانتخابات البرلمانية للدورة الثانية، أزمة حقيقية تحمل مخاطر جدية على حاضر ومستقبل العراق، ونعلم أن السلطة طوال السنوات السابقة لم تقدر على كسب ثقة الأمة وحلقة الوصل بينهما مرت باستمرار بإنعدام الثقة فنتجت عنها أزمات ومشاكل اقتصادية واجتماعية للمواطنين اضافة الى بروز فوارق طبقية شاسعة بين أقلية متسلطة وأغلبية كادحة وغياب تام للعدالة الاجتماعية وارساء فساد رهيب وسياسة استبدادية لنهب لأموال وممتلكات الدولة من قبل المسؤولين الحزبيين والحكوميين والتجار والمقاولين الفاسدين.

وامتدادا لزحف الثورات المنطلقة في الشرق الاوسط انطلقت تظاهرات احتجاجية في بغداد وفي بعض المدن العراقية والكردستانية طالبت بالتغيير والاصلاح في الحكم، وقد تخللت هذه التظاهرات في بدايتها بعض العنف ولكنها بدت تسير بطريقة سلمية قدمت مشاهد جميلة لارساء علاقة مميزة من التآلف الأيجابي بين المتظاهرين.

وتوازيا مع استمرار الاحتجاجات تقدم المتظاهرون بمجموعة من المطالب بخصوص الخدمات والبطالة وفرص العمل والقيام باجراء اصلاح حقيقي والقضاء على الفساد في العراق، وتلقت حكومة المالكي بجدية هذه المطالب وحدد رئيس الوزراء لحكومته مائة يوم لاختبار أدائها وتلبية المطالب الآنية للمواطنين، ولكن الحالة التي نعيشها في بغداد تثبت أن المطالب الأساسية مازالت تراوح في مكانها والاجراءات المتخذة لتنفيذها بطيئة ولا تستجيب للحاجات الملحة للمحتجين.

ولغرض الجمع بين المواطنين والسلطة والعمل على وقف امتداد الأزمة وحصرها وإزالة اسبابها، والتعامل مع الواقع الراهن في العراق بالحكمة والمنطق، نرى ضرورة اطلاق بادرة لتأسيس مجلس لحكماء العراق يشكل من ممثلي المرجعيات الدينية ومن شخصيات مؤهلة مستقلة تعمل بحيادية ومسؤولية بهدف تحقيق التحاور الجاد مع الجهات الممثلة للسلطتين التشريعية والتنفيذية للخروج بنتائج ملموسة على أرض الواقع تمس الحالة المعيشية والحياتية للمواطن الكريم ولايجاد آليات عملية لتنفيذ مطالب الأمة من خدمات واصلاحات وتحولات اقتصادية وأجتماعية حقيقية لصالح الجميع وضمان الحقوق الدستورية لكل مواطن.

وبهدف تحقيق هذه المبادرة نجد ضرورة اختيار شخصيات مؤهلة لها البصيرة النافذة والرؤية الشاملة للمساعدة على حلحلة الأزمات المعيشية والحياتية والخدمية التي يعاني منها العراقييون، واخراج تلك الازمات من الطريق المسدود السائر عليها لتحقيق نتائج ملموسة على أرض الواقع في التمنية والاصلاح والقضاء على الفساد، ونأمل ان تتعامل الرئاسة والحكومة والبرلمان مع هذه البادرة بايجابية للحفاظ على التجربة العراقية المتميزة بنظام ديمقراطي دستوري وتعددي وبرلماني.

ولغرض تحقيق هذا الهدف، نرى ضرورة توفر شروط محددة في شخصيات مجلس الحكماء، منها الكفاءة والخبرة والمصداقية والاستقلالية والموضوعية والمهنية والوطنية، والالمام التام بجوانب الأزمات منها السلبية والايجابية والتعامل معها على أساس المنطق والحرص مع ضمان الوسائل الفعالة لمعالجتها، وحصر الأولويات ضمن برنامج عمل لتنظيم الاهتمامات العاجلة والآجلة، والقدرة على تشخيص المسببات وطرح الافكار العملية لايجاد الحلول لها، وانتهاج مبدأ الشفافية في تسيير الأمور واحترام مبدأ حرية التعبير والرأي الاخر، وامتلاك القدرة على التقارب بين المواطنين وسلطات الدولة، واحترام مطالب المحتجين وبذل اقصى الجهود لتحقيقها.

وأهمية هذا المجلس تأتي لاخراج العراق وحكومته من أزمته السياسية التي يعاني منها من فترة نتيجة الاختلافات بين الكتل النيابية على الامتيازات والحقائب الوزارية، وبسبب غياب المعارضة داخل البرلمان، ومن أجل طرح المشاكل برؤية متكاملة مع حلولها. والتقارير التي عرضها مجلس النواب في بداية الاحتجاجات والتظاهرات عن كل محافظة بينت ان الواقع الحياتي والمعيشي للأغلبية من العراقيين مؤلم وقاسي، وبينت ان السلطة في وادي وأبناء الأمة في آخر.

ويمكن لهذا المجلس بإسم مجلس حكماء العراق ان يتشكل من نخبة من الكتاب والادباء والفنانين والصحفيين ورجال الأعمال والأكاديميين ممن لهم رصيد مؤثر على الساحة العراقية، على أن لا يزيد عددهم عن مائة شخصية، وينتخب مجلس منهم من سبعة أو تسعة أعضاء لاجراء حوارات هادئة مع السلطة وشرائح المجتمع المختلفة والمحتجين وفق برنامج عمل جدي وفعال لمعالجة الأزمات والمشاكل بين الحكومة والمواطن، وعلى أن تكون المشاركة طوعية وبمساهمة شخصية بعيدا عن تمويل أو دعم اي طرف سياسي أو حزبي في العراق.

ويمكن ديمومة المجلس في المستقبل من خلال ترشيح أعضائه في دورات انتخابية مقبلة ليكون سلطة شعبية متابعة ومراقبة للبرلمان والحكومة معا بعيدا عن الحسابات والمصالح السياسية والحزبية التي تنخر بالجسد العراقي وتنهب موارد الدولة على حساب أبنائها.

لهذا فان الواقع الراهن يستدعي لفتة آنية من النخبة المثقفة ومعالجات سريعة بطرق غير تقليدية، واحدى الوسائل تأسيس هذا المجلس، وفي حال اتاحة المجال امامه للقيام بدوره بفعالية ستساعد الحكومة والبرلمان على اتخاذ الإجراءات الضرورية لمعالجة الأزمات وتحقيق التغيير والاصلاح ومكافحة مظاهر الفساد في البلاد، وسيشكل المجلس عاملا حاسما لإحداث نقلة نوعية في ارساء علاقة حية بين المواطن والدولة لخدمته وتحقيق مطالبه في العدالة والمساواة والكرامة، ولهذا نأمل ان تتحقق هذه البادرة لصالح كل أبناء الأمة التي برهنت دائما انها أهل للأفضل والتطور والتقدم لتأمين حاضر مشرق وضمان مستقبل زاهر لكل العراقيين.

[email protected]