من يطالع تغطية صحيفة الجارديان لخطاب الرئيس الأمريكي باراك أوباما في البرلمان البريطاني، سيشعر بالخفة الشديدة و(الاستخفاف) بالقارئ أيضا، وربما تصور للحظة أنه يقرأ صحيفة عربية قومية بحروف لاتينية.
بعد أن وصفت الجارديان العلاقات بين الولايات المتحدة وبريطانيا بأنها واحدة من أقدم وأقوي التحالفات التي عرفها العالم، حتي لو أخذت بعض الدول علي عاتقها بعض مسئوليات القيادة العالمية، بررت شكوك الأوروبيين في توجهات الرئيس أوباما بإتجاه الشرق حيث القوي الجديدة الصاعدة مثل الصين والهند، بأن تكوين أوباما ونشأته وطفولته (الآسيوية) هي مصدر هذه الشكوك!
هذا عن الاستخفاف بالقارئ، أما الخفة في التعامل مع المعلومات: فهي عدم الربط بين خطاب أوباما كدليل عمل جديد للمحور quot; الأنجلو ndash; أمريكي quot;، ومواجهة التحديات التي تفرض نفسها علي القيادة الغربية الأطلسية للعالم، خاصة مع ربيع الثورات العربية (حيث ذكر أوباما ميدان التحرير في قلب القاهرة كأيقونة للثورات الشعبية).
خطاب أوباما أمام أعضاء البرلمان البريطاني يمثل - في تصوري - نقطة تحول أساسية في توازن القوي العالمي، واعلانه: أن تحالف الولايات المتحدة وأوروبا لاغني عنه لتحقيق quot; هدف القرن quot; وهو أن يكون العالم أكثر أمنا وسلما، هو تغيير عميق (واعتذار ضمني) من أوباما نفسه للأوروبيين، عن سلوكه وتوجهاته خلال العامين الماضيين، والفضل الأول في هذا التحول والتغيير العميق يعود أساسا لنجاح الثورات العربية في جنوب المتوسط.
..... كيف؟
لم يحضر أوباما احتفالات أوروبا بالذكري العشرين لانهيار جدار برلين العام الماضي، واكتفي برسالة عبر شريط فيديو،‮ ‬ولم‮ ‬يبد اهتماما كافيا بالقمة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، رغم أنها عقدت في واشنطن،‮ ‬واعتذر عن تناول الغداء تاركا مدعويه الأوروبيين مع نائبه‮ ‬جو بايدن‮‬،‮ ‬وهو موقف لم‮ ‬يستحسنه وقتئذ ممثلو المفوضية الأوروبية ورئيسها‮ ‬جوزيه مانويل باروزو‮.‬
أضف إلي ذلك أن جولات‮ ‬أوباما‮ ‬الآسيوية المتكررة أكدت للأوروبيين بما لا‮ ‬يدع مجالا للشك،‮ ‬أن التغيرات في أولويات الإدارة الأمريكية الجديدة تركز أكثر علي الجانب الآخر من المحيط الهادئ باتجاه الصين والهند،‮ ‬وليس علي الضفة الأخري من المحيط الأطلسي‮ (‬أوروبا‮)‬،‮ ‬وجاءت تصريحات‮ ‬أوباما‮ ‬لتعزز هذا التوجه‮: ‬الصين شريك استراتيجي‮ ‬يجب أن‮ ‬يلعب دورًا أكبر في العالم‮، وهو ما أعلنه أيضا في زيارته الأخيرة للهند.‬
الحجة التي كانت تسوقها الولايات المتحدة لتبرير هذا التحول قبل ثورات الربيع العربي 2011، أنها: لم‮ ‬تتمكن من ضمان الأمن الدولي مع الشراكة التاريخية الأوروبية،‮ ‬ولا استطاعت التجمعات الدولية التي كونتها‮ (‬مجموعة‮ ‬7،‮ ‬ثم‮ ‬7‮ + ‬1‮ ‬،‮ ‬ثم مجموعة‮ ‬20‮) ‬تحقيق هذه الغاية أيضا،‮ ‬إذ لابد من توفير قدرات أكثر شمولاً‮ ‬وأبعد تأثيرًا من مجرد توفير تغطية سياسية ومالية،‮ ‬من أجل ضبط الأوضاع الدولية المتفاقمة.
وعلي الرغم من أن تحول ميزان القوي العالمي من الغرب إلي الشرق، ومن المحيط الاطلسي إلي المحيط الهادئ، كان يثير مخاوف كلا من الأمريكيين والأوروبيين علي السواء، خاصة خسارتهما للقوة الجغرافية ndash; السياسية الاقتصادية، فإن الثورات العربية في جنوب المتوسط أعادت اللحمة والسداة لهذه الشراكة التاريخية بينهما، وشكلت فرصة بالغة الأهمية لتجديد العهد والهدف.
لقد نبهت الثورات العربية الأذهان إلي أن منطقة البحر الأبيض المتوسط هي quot; مركز العالم quot;، وأن التحولات السياسية الهائلة لابد وأن تعقبها نهضة أقتصادية (جغرافية) هائلة، كما أن التحول في ميزان القوي العالمي من الغرب إلي الشرق أو العكس، لابد وأن يمر بهذا (المركز) المتوسطي، وينال نصيبه منه ويساهم فيه، نظرا للعلاقات الوثيقة بين أوروبا وآسيا وأفريقيا... ‬وهو الأمر الذي‮ ‬يدفعنا إلي التساؤل‮: ‬هل نحن علي أعتاب‮ ‬نظام دولي جديد، أكثر توازنا بفضل هذه الثورات العربية؟


[email protected]