وعد الحر دين..حكمة شرقية

قارئي الكريم، منذ ايام وانقطع صوت رن تلفون كومبيوتري الشخصي الذي اهداه لي بعض اصدقائي الطيبين. كنت قد تعودت على سماع صوته يوميا بعد يوم عمل مجهد... لكن اليوم طال الانتظار.

ذهب ورحل
لم يفق
نسى ان يودع القوم
ذهب ورحل
أحب قرائي، صديقي، رفيق دراستي ودربي
رحل اخي علي وذهب

quot;اذكروا محاسن موتاكمquot; يذكرنا الحديث الشريف ولكن ذلك واجب انساني وعهد قطعناه على انفسنا، والعهد دين على رقبة الحر. بعد زوال غمامة الحزن فكرت قارئي العزيز ان تشاركني هذه الرحلة وتتذكر معي كل اللذين شاركو في اغناء ذاكرتنا البشرية باجمل اللحظات في افراحنا واحزاننا وفي بؤسنا وقنوطنا. رحلة تبدا عند مدينة اشورية قديمة اطلق عليها اسم القنطرة الذهبية وباللغة الكوردية والتوركمانية. مدينة تقع على شواطئ نهر الزاب الذي يقسمها مكونا وسطها جزيرة غناء. تفصل بين اجزائها جسرين حديديين قديمين. يحكى بان الجسرين كانت موشومتان بليرات ذهبية عثمانية في يوم من الايام. هذه المدينة الوديعة عانت كمثيلاتها من مدن العراق كل الويلات وذاق ابنائها الامرين في العهد البعثي البائد. هجر ابنائها وجرت على ارضها الانتفاضات والمجازر. اهلها من التوركمان والكورد عاشو سويا في وئام ومحبة وتسامح.
قبل نصف قرن من الزمان كنت اعبر بمعيه اخي العزيز علي ذلك الجسر ونحن سعداء ذاهبين الى المدرسة الابتدائية للبنين طبعا وكانت اختي تدرس في مدرسة البنات على الجهة الاخرى من الجسر التالي. كنا سعداء رغم الفقر والعوز بدشاشاتنا المقلمة بخطوط حمراء وربما كانت زرقاء وبنعال ابو الاصبع في ارجلنا.
كانت محطة قطار المدينة ليست ببعيدة وتقع على رابية وقد كان الملك الشهيد فيصل الثاني رحمه الله قد افتتحها توا. كنا نحن الصبية نهرع وراء علية القوم الذين اجتمعوا حول الملك الشاب وهو عاقد يديه خلفة يتمشى على خطوط السكك الحديدية. بعد اشهر سمعنا بقتله ونهايه الحكم الملكي في العراق ومجي عهد جديد سمي بquot;الجمهوريةquot; وكعادتنا نحن الصبية خرجنا فرحين نهتف للزعيم الذي زيد quot;العانةquot; فلس أي زاد قيمة العملة العراقية الملكية النحاسية التي كانت تساوي اربع فلوس لتصبح خمس فلوس وللتغير معدنها الى معدن ابيض براق.

رحلنا بعد ايام عصيبة في ذكرى احتفالات بالسنة الاولى للثورة الى مدينة العذابات كركوك وسكناها الى عام الثورة التالية عام 1968 حيث حللنا بين اهلنا في العاصمة بغداد. كانت الحكومة قد صادرت بيوتنا قبل ذلك بسنوات في عام ما اطلق عليها بفرهود quot;رحيم آوىquot;. لم يدم عهدنا بعاصمة الرشيد طويلا فاقفلنا متوجهين سويا الى انقرة عاصمة الدولة التركية فعشنا فيها ايام الدراسة الجامعية التي لا تنسى. انقرة قرية حثية صغيرة تفوح من جوانها تاريخا انسانيا بديعا وكل حجارة فيها تحكي رواية والف قصة مدينة تظئ لياليها مدن الصفيح quot;كيجه قونديquot; مدن ساتالاتية بناها الفقراء من الفلاحين القادمين من قرى وارياف الاناظول لكسب قوت العيش. حيث كان بناء البيت يتم ليلا بعد ان يكون قد تم تجهيز كل مستلزمات البناء وموادها. اليوم هي مدن مليونية بنيت بدون تراخيص تظئ ليالي انقرة بمصابيحها.

مارسنا السياسة سويا فحكم علينا مجلس البعثي المنحل وسد ملفاتنا الدراسية وقطع عنا ما كان يرسله الوالد فعدنا للوطن نادمين فاعفينا بقانون سمي quot;العائدونquot; ثم جاءت الحرب الاولى فهربت تاركا الوطن وبقى اخي رغم انه فصل من وظيفته ثم اعفي من اداء الخدمة لانه من العائدون. وجاء الحرب التاليه فصعد الجبال بمعية شعبه ثم هاجر وبقى يدور من بلد الى اخر من القطب الشمالي الى ضفاف البسفور.

استبشر القوم بالخير بعد زوال النظام ولكن هيهات ان يفرح.... عاد الى الوطن وقدم طلبا كي يعود الى عمله كمهندس. بعد الاخذ والرد وتقديم كل الاوراق الرسمية والتايد من احد الاحزاب الحاكمة وكتاب تايد شخصي من حاكم قالو له انتظر المعاملة مستمرة....
كان يعمل مهندسا في المشروع الاروائي قرب مدينة كركوك والتي تغير اسمها عدد من المرات وتعرف بمشروع ري دبس قد دخل مراحل عددة منذ الشروع بها ابان العهد الملكي.

لا يزال ينتظر ردا على طلبه رغم جحود رفاق الامس ونسيانهم وحتى هم في سدة الحكم وعلى كرسي السلطة. الا يستحق كل هذا النضال تقاعدا عادلا يحمي عائلة الفقيد وابنائهه من صعاب الدنيا ومتطلبات الحياة. هل السياسيون مضطهدون حتى بعد رحيلهم؟ اين دولة العدل التي كنا نصبوا اليه ونفترش السجون من اجله؟ اتمنى ان تعود حكومة الاقليم الى ملفاتنا المحفوظة في دائرة البعثات في بغداد و تقرء ما كتب على اغلفتها quot;متعامل مع الجيب العميلquot; بالخط الاحمر ومن ثم العودة الى قرار مجلس قيادة الثورة المنحل بخصوص 90 طالبا كانوا يدرسون في اوربا وبعضهم اليوم يتبؤون مناصب عالية في الدولة والحكومة العراقية وحكومة الاقليم.

سيستقبل ثرى كركوك التي حرمت منها اخي جثمانك بفرح وسنبكي جميعا ونقول بكافة اللغات quot;هيواي شيرهquot; كما كنا نفعل دوما. ستردد الملائكة حول قبرك ما يقرء من ذكر حكيم ولتمتلئ قبرك نورا الى يوم يبعثون.

شكرا للسنوات التي اهديتها لي اخي الغالي وشكر لسعة صدرك ولمناقشاتك افكاري في كل كتابة خطها قلمي وشكرا لطيبتك وحنانك علينا جميعا واشكر ربي على ما وهبتني من اخ لكل كل الشكر والعرفان يا رب العالمين.
وداعا ابا عمر وداعا يا علي ولقاء قريب باذنه تعالى ولو بعد حين.....

د. توفيق آلتونجي