تنتهي رواية quot;العطرquot; للكاتب الألماني (باتريك زوسكند)، بمشهد التهام البطل، بعد أن سكب على نفسه عطره السحري المصنوع من أجساد البشر، فانهارت العقول وحدود الممكن وتفجرت دموية مكبوتة في نفوس العامة، الذين نظروا لبعضهم في سعادة غامرة، ورضا كامل بعد هذه الوجبة الدسمة.

بداهة الثورات أنها لا تطلب أو تطالب أو تأمل في التحقق، فالثورة فعل تغير شامل، يزلزل عرش واقع ما لصالح آخر يرتضيه المجتمع، أو يُفرض عليه من قبل ثوار المفترض فيهم النزاهة والاستقلالية.
وحتى نحاكم حدثاً ما ونطلق عليه بلا أي تردد أنه ثورة كاملة متكاملة، لابد من توافر عدة شروط، تبدأ بغضب شعبي عارم على وضعية تاريخية محددة، يتحول إلى انتفاضة شعبية، مما يحتم ظهور قيادة على خلفية أيدلوجية واضحة، توجه هذا الغضب الساطع، وصولاً لقمة الهرم السياسي، لتقود المجتمع إلى مصير تم الاتفاق عليه سلفاً، وقُدّمت على أساسه تضحيات وضحايا.
وفي حالتنا المصرية لم يتحقق إلا شرط الانتفاضة الشعبية، والتي جاءت منقوصة بالمناسبة، فعمقنا المصري في الصعيد والريف مازال يبحث عن قوت يومه، ويلعن أبو الأيام التي مثلث خطراً حقيقياً على لقمة عيش اعتاد على ندرتها أو عدم تواجدها أحياناً، ولكنه اعتاد!!. تلك حقيقة قد يرفضها البعض أو تصدم الأخر، ولكنها طبيعة مجتمعنا الذي مرت عليه القرون وهو في حالة ثبات واستقرار، معتبراً التغير شر، والثورة هدم، فخلا تاريخنا إلا من انقلابات النخب والعسكر.
ونتيجة لغياب عنصري القيادة والايدولوجيا، عن انتفاضة يناير، فمن الصعب أن نعتبرها ثورة كاملة، وهنا تكمن المشكلة الحقيقية، فغياب الإطار الفكري أو السياسي، نتيجة لتغيب أي مشروع ثقافي أو سياسي عن الساحة المصرية لطوال عقود، جعل تلك الانتفاضة بلا أب، يضمن لها شرعية التحقق الثوري الكامل، وبالتالي تفرقت الدماء بين القبائل المتناحرة، الساعية لفرض أبوة أيدلوجية سلطوية، ليس فقط على هذه الانتفاضة الوليدة، ولكن على المجتمع بأكمله، مما حتم جملة من التوافقات والصفقات بين القوى السياسية المتسلطة أو التي تسعى إلى السلطة، صفقات شئنا أم أبينا أصبحت واقع يُغير ويُسيّر ويتحكم في مصير وطن لم يدرك أبناءه بعد أن تضحياتهم لا تنحصر فقط في دماء ميدان التحرير، بل في عقود من الصمت والوجع المكتوم.

ـ صراع على الشرعية:
صرح أحد قادة المجلس العسكري الموقر، أن نتيجة الاستفتاء الشعبي على التعديلات الدستورية، الذي شارك فيه 19 مليون مواطن مصري، منحت الشرعية الكاملة والديمقراطية للمجلس العسكري والقوات المسلحة. وكمواطن مصري خضت كل الصراعات والنقاشات النخبوية والشعبية حول التعديلات الدستورية وقيمة الاستفتاء، ثم قررت المشاركة الفاعلة مع أسرتي الصغيرة والجيران، وغمست إصبعي فرحاً في الألوان الفسفورية، وسارعت بتصويره قبل زوال اللون الذي منحني شرف أول مساهمة في شأن سياسي عام كبقية أبناء وطني، لم أتمكن من فهم أو إدراك أني كنت أصوت على شرعية المجلس العسكري من عدمها !!. . والأهم مصير من صوتوا برفض التعديلات آملين وضع دستور جديد، كبداية جديدة نستحقها جميعاً، هل من حقهم رفض شرعية القوات المسلحة؟؟!!. . ثم ما هي ملامح تلك الشرعية وسطوتها وحقوقها وواجبتها؟. . والأهم هل تحتاج القوات المسلحة إلى تأكيد وجود أو دليل على مساهمتها المؤثرة في تلك المرحلة الانتقالية، حتى تستند إلى نتيجة الاستفتاء؟!.
وفي سياق ليس ببعيد حاولت جماعة الأخوان المسلمين أن تفرض شرعية جديدة، استناداً على نتيجة الاستفتاء كذلك، الذي منحته قداسة دينية إسلامية، حينما قررت في صفقتها مع التيار السلفي آنذاك، فيما يسمى بغزوة الصناديق، أن الاستفتاء على التعديلات الدستورية كان على الدين. فالشرعية هنا دينية. وظل السؤال يتردد هل الأربعة ملايين مواطن الذين رفضوا التعديلات الدستورية، قد ساهموا دون قصد منهم في هدم الدين والإسلام، في مجتمعنا المتدين بالفطرة!!؟؟.
إذن فنحن أمام شرعيتان، تتفقان أو تختلفان هذه قضية أخرى، . . وهما الشرعية العسكرية والشرعية الدينية الإسلامية، إذن فالانتفاضة الشعبية عليها أن تختار إما أبوة القوات المسلحة أو الأخوان المسلمين. وليت الأمر ينتهي عن حد الاختيار!!.
وفي جمعة الغضب الثانية، ظهرت شرعية جديدة، فبعد انسحاب القوات المسلحة من ميدان التحرير بتصريح رسمي، ورغم ما يحمله هذا الانسحاب من دلالات. ثم ظهور الأخوان والتيار السلفي ومختلف الجبهات الدينية في مشهد الرافض لأي تظاهرات جديدة قد تؤثر على مكاسب قديمة تم حصدها خلال الفترة السابقة. ظهرت شرعية جديدة للميدان وللثورة بشكل عام، وهي شرعية عدد من الأحزاب والقوى الوطنية وبعض النخب الثقافية والإعلامية، لنجد أنفسنا أمام فصيل جديد يعلن ملكيته للثورة، ويمارس نفس آليات النفي التي تمارسها التيارات المعارضة له.
الجميع دخل دائرة الصراع على الشرعية التي ستضمن لصاحبها عقود مصرية قادمة، وميدان التحرير ما زال يطالب ويطلب، وفي خلفية المشهد السياسي أصحاب المصالح، ومحترفي الكلام، ومدعي الثقافة، يحاولون الحفاظ على التوازنات الشخصية، واللعب على الحبال، وحوارات وطنية فاشلة تعكس حالة الفوضى وانعدام الرؤية دون مراعاة لمصالح وطن بأكمله، بالإضافة إلى حكومة تعاني من قلة حيلتها، وعدم قدرتها على حسم العديد من القضايا الأمنية والسياسية والاقتصادية، وفي النهاية شعب في معظمة ينتظر انفراج الأزمة بأي شكل حفاظاً على أمان معتاد، ولقمة عيش تكفيه بالكاد.

ـ عودة الفزاعات:
تلك الفوضى التي تبدأ من القمة وصولاً للعمق، قد قسمت المجتمع إلى شيعاً وطوائف، فعدنا وبشكل غير واعٍ أو بقصد مباشر إلى استخدام سياسة تم ممارستها علينا لعقود طويلة، وهي التخوين والتخويف، كل منها يمسك للأخر بما يرهبه ويخيفه، لينصاع له في نهاية الأمر مضطراً. فما زالت الدولة الدينية وممثليها من الأخوان وممارسات التيار السلفي المتعنتة، هي فزاعة الأقباط، وفي المقابل يلوح بعض الأقباط بحق الحماية الأجنبية، والاستقواء بالخارج الأمريكي، وفي المقابل هناك خارج أخر يدعم التيار السلفي من جهة والأخوان من جهة أخرى. مما استعدى أن تنسحب نفس السياسية على الشأن الخارجي. فالدولة المصرية المؤقتة قررت أن تستخدم فزاعة المصالحة الفلسطينية ومعبر رفح، ضد إسرائيل والولايات المتحدة التي لوحت بفكرة الاستثمارات الداخلية مقابل الديون، مما يذكرنا بأسباب الاحتلال الإنجليزي، ورعايته لمصالحة الداخلية بعد الديون المصرية في عهد الخديوي إسماعيل، وفي المقابل كان الرد الإسرائيلي التلويح بمعاهدة السلام، في إشارة دالة بأن مصر بدأت في اختراق بنود المعاهدة بعد فتحها لمعبر رفح.
بل أن الأمر ازداد تعقيداً في ملف العلاقات المصرية الإيرانية من جهة والخليجية من جهة أخرى، فالدولة المصرية تسمح بسفر وفد شعبي إلى إيران والممثل فيه عناصر من الأخوان والجماعات الصوفية والإعلاميين، رغم تصريحات رموز هذا الوفد أن سفرهم جاء ضد رغبة الدولة، في حين أنها تعلن على لسان وزير خارجيتها أن مستوى التمثيل الدبلوماسي بين البلدين لن يتم تصعيده في الآونة الحالية. في تناقض يدل إما على تخبط في الأداء العام، أو أن الحكومة المؤقتة قررت أن تستخدم فزاعة إيران ضد دول الخليج، في إشارة اقتصادية دالة، والعكس بالعكس. في حين أن سقف العلاقات المصرية الإيرانية الآن وبشكل رسمي لم يتجاوز إلا جملة من التصريحات الدبلوماسية والغزل السياسي المتبادل.
الخلاصة أننا أمام حالة من الفوضى العارمة من قمة الهرم إلى قاعدته، والجميع يناقش ملامح دولة مصرية حديثة وديمقراطية في إطار من الإقصاء والنفي والتهديد والوعيد، يتناحرون في التهام الجسد المصري بسعادة بالغة، دون أن يلتفت الجميع أننا انغمسنا حتى الأذن في تفاصيل مفهوم الدولة، كل حسب هواه ومصالحه الخاصة، في حين أن الدولة بأكملها في سبيلها إلى الانهيار. والأهم شارع مصري لا يعنيه تهافت النخب والأحزاب والجماعات والقادة أمام لقمة عيش وأمان المستقبل.


أكاديمي مصري
[email protected]