من مفكرة سفير عربي في اليابان
يبدو بأن انتفاضة العولمة خلخلت الموازين في الشرق الأوسط، ورفعت من حدت الغضب الانفعالي، لتصل لأبواب مؤسسات الحكمة والتمثيل الشعبي، ليبدأ فئة من نوابها الأفاضل بحروب العقلة والعمائم، ومطالبة فئة أخرى بصراعات قطع العلاقات الاقتصادية بين دولها، بل تجاوز البعض حدود المنطق، ليطالب دولته quot;باحتلالquot; دولة جارة، لكي تصدر ثورتها الدامية، وتخلص شعبها من نظامها العصري. بل بدأ البعض الآخر العمل على دق طبول حرب جديدة، ليست إسلامية يهودية حسب العادة، بل إسلامية-إسلامية هذه المرة. ويبدو بأننا نسينا وظيفة البرلمانات أصلا، في منع الصراعات الدموية، ونقل الخلافات من ميادين الحروب إلى قاعات الحوار في بيوت الحكمة الشعبية. فقد فقدنا الذاكرة مرة أخرى، فتناسينا ما جلبته الخلافات الأيديولوجية، والصراعات الدينية المذهبية، والحروب الدامية، من عدم استقرار للشرق ألأوسط الكبير(الدول العربية وتركيا وإسرائيل وإيران)، وما رافقته من فقر، وبطالة، وتطرف، وعنف، وإرهاب، ودمار، لمنطقة من الله عليها بكثافة قواها البشرية، وثراء حضارتها الإنسانية، وغناء مواردها الطبيعية. وغاب عن وعينا ما تعانيه المنطقة من تحديات عولمة معقدة، وخاصة مع تزايد سكانها من نصف مليار اليوم إلى سبعمائة مليون مع منتصف القرن العشرين، والذي سيحتاج 60% من سكانها للتعليم، و35% منهم لفرص عمل.
خلق الخالق، جل شأنه، الإنسان، ليكتشف أسرار الكون، ويعمره، وترافق خلقه، بعقل بشري يجمع الذكاء الذهني، مع ذكاء عاطفي اجتماعي روحي، لذلك، بقدر ما يفكر ويبدع العقل البشري، بقدر ما يتواصل ويتعاون مع أقرانه، بروحية إنسانية، وبعاطفة تجمع التوازن بين الحب، والمنافسة، والغيرة، والغضب. وحينما تفقد هذه العاطفة اتزانها، تتحول لانفعال غضب مدمر، لتبدأ حلقات صراعات دامية، وكم عانى تاريخ البشرية من حلقات متكررة من الصراعات والدمار!! ويعلمنا التاريخ كيف استطاع الغرب الأوربي، مسرح الحروب المزمنة الدامية، أن يبدأ في عام 1815 محاولة جادة لوقف الحروب النابليونية في مؤتمر فينا، ليتطور، بعد دمار حربين عالميتين وحرب باردة، لمنطقة تفاهم وتعاون، ولوحدة اقتصادية، بل ولاتحاد أوربي. كما تطورت التجربة الأمريكية في منتصف القرن الخامس عشر، بتجمع ويبقى السؤال المحير: هل سيتفهم حكماء نواب المنطقة الأفاضل أسباب انتفاضة العولمة، ليضعوا الحلول المناسبة للتعامل معها، والوقاية من إرهاصاتها المستقبلية؟ وهل سيستفيدوا من دراسة التاريخ، لوضع دبلوماسية تحقق الأمن، والسلام، والاستقرار؟ وهل سيدفعوا بعجلة إصلاحات تعالج تحديات العولمة المعقدة، لتحقق تنمية توفر رخاء وسعادة شعوبها؟ وهل حان الوقت لتجمع إقليمي، يبعث الثقة بين شعوب المنطقة، وينهي بيئة الصراعات المتكررة، ويهيئهم لسوق اقتصادية هائلة، تغذيها منتجات قاعدة صناعية مشتركة، لتخفض معدلات البطالة والفقر، وتحقق التنمية المرجوة؟ وهل ستحرص هذه الشعوب على احترام أنظمتها المتنوعة، وحكوماتها المتباينة، وسيادة أراضيها، وتحرم التدخل في الشؤون الداخلية لبعضها البعض، وتتجنب تصدير ثوراتها الدامية، وتلويث المنطقة بمغامرتها النووية، وتستبدلها بالعمل لتطوير تكنولوجيات عصرية تحقق صناعات تقلل نسب البطالة، وتوفر بضائع لخدمة شعوبها؟ وهل فعلا يمكن تحويل أعداء الأمس لرفقاء المستقبل؟ وهل من السهل إنهاء عصر دبلوماسية الصفر للحرب الباردة، في منطقة لوثت بمفاهيم التطرف، والعنف، والإرهاب، والحروب المتكررة؟ممثلين لقبائل الايروكويس المتناحرة، لتشكيل وحدة كنفدرالية، حققت السلام لأكثر من ثلاثة قرون، لتليها صراعات الهجرة الأوربية، التي انتهت بإعلان الاستقلال من الاستعمار البريطاني في عام 1776، لتوحد الولايات في كونفدرالية دولة عظمى. ويبرز هذا التاريخ أهمية الدبلوماسية في ترويض العداء الجغرافي السياسي، والذي استوعبه الرئيس أوباما، لمعالجة علاقات بلاده المتخلخلة مع حلفائها، وللتعامل مع أكثر الصراعات تشابكا في العالم، وليعبر عنها بقوله: quot;فقد جرب الأمريكيون الحرب الأهلية، والوحدة التي تلتها، ولا يمكنهم إلا أن يعتقدوا بأن الكراهية القديمة ستنتهي يوما ما، والحدود بين القبائل ستنمحي، ومع صغر العالم، ستبرز الإنسانية وجهها الحقيقي، وعلى الأمريكيين أن يلعبوا دورهم في عصر السلام الجديد.quot; فيبدو بأن الرئيس أوباما قد اقتنع بأن دبلوماسية الصفر للحرب الباردة، التي لا تعترف إلا بفوز طرف بكل شيء على الطرف الآخر لتكون نتيجة الجمع الصفر، قد فقدت عمرها الافتراضي، واستبدلت بدبلوماسية عولمة فوز الطرفين بتناغم وتعاون جميل.
وخير ما قرأت في موضوع تحول الأعداء إلى أصدقاء هو كتاب جديد للبروفيسور تشارلز كوبشان، أستاذ الشؤون الدولية بجامعة جورج تاون الأمريكية، والذي يؤكد فيه على أهمية دبلوماسية حكمة التنازل، والاعتراف بالآخر، واحترامه، وتفهم ظروفه، ليعزز بذلك التكيف، والتوافق الاستراتيجي، اللازمين لتبادل الثقة لخلق مجتمع دولي مسالم. ويحتاج ذلك لتحول حالة اللاحرب إلى واقع استقرار، يقبل كل طرف بقاء الآخر، ليتبعه علاقات تقارب، ومجتمع أمن، يهيئ لتعاون اقتصادي، وود اجتماعي، لتنتهي بتجمع إقليمي. ويعتمد ذلك على دبلوماسية، تعتبر التعامل مع الأعداء وسيلة مهمة لإنهاء العداء المزمن، المترافق بالعزلة والتطويق، وتغيره لحوار التكيف والمواءمة، وبقدر ما تكون المهارات الدبلوماسية متمكنة، بقدر ما تستطيع أن تحول أعداء الماضي لأصدقاء المستقبل. وتبدأ المصالحة والتسوية السياسية، قبل التداخل الاجتماعي والتعاون الاقتصادي، فبعد ترويض المنافسة الجغرافية السياسية، يدعم التداخل الاقتصادي السلام، فالدبلوماسية، وليست التجارة، هي عملة السلام. ويقسم البروفيسور آلية السلام لأربع مراحل، تبدأ بالمواءمة من طرف واحد، تتبعها التوافق من الجهة المقابلة، وتجمعها أمل الشراكة، لتبدأ مرحلة تبادل ضبط النفس، وتقييم كل طرف حوافز الطرف الآخر، لغرس الثقة وبدأ التعاون المبرمج، لتتحقق مرحلة التالف الاجتماعي، باختلاط الشعبين وإعجاب كل منهما بمميزات الآخر، وتكتمل المرحلة النهائية بتعمق التكامل الاجتماعي، لتتولد هوية عامة، تشرع مؤسسات مشتركة للحكم، وتهيئ الطريق لتجمع أقليمي.
وعرض البروفيسور عدة تجارب تاريخية يمكن الاستفادة منها لتحول الأعداء إلى أصدقاء، ومن أهم هذه التجارب التجربة الرائدة التي هيئت الشراكة الإستراتيجية البريطانية الأمريكية، والتي تبادلت فيها الهيمنة العالمية بسلام، وأدت لتشكيل مجتمع ديمقراطي لبرالي غربي، ساعد دولها على التعامل مع خلافاتها بطرق قانونية سلمية. فقد بدأ الخلاف البريطاني الأمريكي بعد الهجرة الأوربية للقارة الأمريكية، حيث حارب الأمريكيون في عام 1775 بريطانيا ليحققوا استقلالهم، وتوحدوا في فدرالية في عام 1789. وقد تكرر هذا العداء في حرب عام 1812، بتدخل بريطانيا في التجارة البحرية من خلال حصارها على نابليون، لتنتهي بحرق البيت الأبيض، وباستمرار الدعم البريطاني لانفصال الجنوب في الحرب الأهلية، لأضعاف القوة الإستراتيجية الأمريكية. واستمر هذا التوتر البريطاني الأمريكي حتى عام 1895، بعد أن وعت بريطانيا لزيادة التزاماتها، وعدم قدرتها منافسة الولايات المتحدة في القارتين الأمريكيتين، وخاصة بعد أن ضم الأسطول الحربي الأمريكي 25 سفينة حربية جديدة في عام 1905، وقوت روسيا في الشرق الآسيوي، وانتصرت اليابان في الحرب الصينية اليابانية في عام 1895، وطورت ألمانيا أسطولها الحربي.
لقد وفرت هذه الظروف الجديدة بيئة لتحول أعداء الماضي لرفقاء المستقبل، لتبدأ القصة بمجابهة بريطانية أمريكية في عام 1895، حول التدخل الأمريكي لخلاف رسم الحدود الفنزويلية، ورفض بريطانيا بهذا التدخل في البدء، لتضطر بقبوله أمام التحديات الإستراتيجية الجديدة، ليصرح آرثر بلفور، رئيس مجلس العموم البريطاني، في فبراير من عام 1896، بقوله: quot;في الخلاف بين الحكومة البريطانية وفنزويلا، لم يكن أبدا، ولن يكون، في نية بلادنا تجاوز المسئولية الأمريكية في هذه المنطقة... وهي أساسيات السياسة التي نقدرها معا.quot; بذلك اعترفت الحكومة البريطانية ضمنيا بمسئولية الهيمنة الأمريكية. وفي شهر يناير من عام 1896، كتب النائب البرلماني، والسفير البريطاني القادم للولايات المتحدة، جيمس برايس، رسالة إلى الرئيس ثيودور روزفلت، يقول فيها: quot;ليس هناك بيننا غير شعور الصداقة، التي لن تتعارض مع الحقوق الأمريكية، أو مع توازن القوى في العالم الجديد. فيدنا ملئيه بالمسئوليات في المناطق الأخرى.quot; ونقلت هذه الرسالة للشعب الأمريكي، بمقال في صحيفة أمريكية بعنوان، الشعور البريطاني في السؤال الفنزويلي، لتكون إشارة صداقة، تلقفتها الولايات المتحدة كإشارة سلام، لا كعلامة للضعف، وقبلت العرض بثقة متناهية. ووافقت الولايات المتحدة أيضا على طلب بريطاني، بعدم ضم بعض المقاطعات في مناقشات المحكمة الدولية، وحينما حكمت المحكمة في صالح بريطانيا، قبل الأمريكيون القرار بصدر رحب، ووافقوا أيضا على عرض خلاف آخر على المحكمة حول صيد عجل البحر. وصرح الرئيس الأمريكي، وليم ماكنلي، في مارس من عام 1897، بأن: quot;المحكمة هي الطريقة المثلى للتعامل مع الخلافات المحلية والدولية، بل هي ظاهرة رئيسية في السياسة الخارجية الأمريكية، خلال تاريخها الوطني، بتسوية الصعوبات بالطرق القضائية، بدل قوة السلاح.quot; وقد أدت هذه الحكمة الأمريكية لتهيئة الطريق لتبادل المواءمة، ومراحل متتابعة من ضبط النفس، والذي كانت سببا لقاعدة تعاون بريطاني أمريكي مستقبلي، استمرت حتى اليوم. ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان