دولة طالبان، لم تکن في الاساس، سوى جهد استخباري منظم بذلته الاستخبارات الباکستانية من أجل أهدافها و أجندته الخاصة في تلك المنطقة الحساسة و المشرئبة بالازمات و المشاکل، ولم يکن تلاقف الاستخبارات الباکستانية لحرکة طالبان، بمعزل عن تلاقف سابق للاستخبارات الامريکية المرکزية لأسامة بن لادن و العديد من التنظيمات الاسلامية الافغانية أيام التصدي للغزو العسکري السوفياتي لأفغانستان أواخر عقد السبعينيات من الالفية المنصرمة.

الجزء الأول

وقد کانت الاستخبارات الباکستانية موفقة تماما في قراءتها و تفسيرها للواقع الاجتماعي الفکري السياسي الافغاني و ادرکت بأن حرکة طالبان ذات التوجه الاسلامي المتشدد، هي أفضل بديل فکري سياسي للساحة السياسية الافغانية التي کانت اساسا مشبعة بالافکار الاسلامية الاصولية و المتشددة و مهيأة لتقبل أي نظام سياسي يدعو لتطبيق الاحکام الاسلامية، و کان هذا التوجه الباکستاني يستهدف الالتفاف على أية جهود إقليمية او دولية أخرى مبذولة من أجل قطف التفاحة الافغانية الآيلة للسقوط اساسا، ومن هنا کان النجاح الاستخباري الباکستاني الکبير في الوصول السريع و الاستثنائي لحرکة طالبان الى الحکم في کابل، والامر الجدير بالملاحظة و التمعن، ان التدخل الباکستاني في أفغانستان و إختراقه لحرکة طالبان، کان في سياقه العام إستمرارا لسلسلة الاختراقات و التدخلات الاستخبارية الاقليمية و الدولية المباشرة للتنظيمات الاسلامية و توظيفها لأغراض و اجندة خاصة او في بعض الاحيان غير المباشرة عند السماح او إعطاء الضوء الاخضر لنشوء او بروز حرکات او احزاب او شخصيات اسلامية تتوافق و تتلائم مع الخط العام لمصالح تلك الدول(نظير الحالة الايرانية عقب سقوط الشاه مثلا)، وقطعا أن مافعلته بريطانيا، و الولايات المتحدة الامريکية و الجمهورية الاسلامية الايرانية بشکل خاص، نموذج حي بهذا الخصوص، وان تفاقم هذه الحرکات و إنتشارها في العقود الاخيرة من القرن العشرين في الدول العربية و الاسلامية، کان على علاقة جلية بالاهداف و الاجندة السياسية المتباينة لهذه الدول، رغم ان إستغلال العامل الديني من أجل أهداف و أغراض خاصة، يکاد أن يضرب قدما في هذه المنطقة خصوصا أيام الصراع العثماني الصفوي و التکالب الاستعماري على منطقة الشرق الاوسط.

ولم تکن هذه الدول معنية بما تبشر به تلك الحرکات و الاحزاب و التنظيمات الاسلامية من مبادئ و أفکار بقدر ماکان يهمها الحفاظ على الخط العام للإتفاق و عدم الإضرار بالمصالح الحيوية لها في المنطقة و العالم، وقد کانت حرکة طالبان حريصة کل الحرص في السعي للحفاظ على تحالفها مع باکستان بصورة عامة و الاستخبارات الباکستانية بصورة خاصة، بل وان ديمومة الحرکة لحد الان تعود فيما تعود من أسباب رئيسية و جوهرية الى التحالف الاستراتيجي بينها و بين الاستخبارات الباکستانية من جانب، والى التحالف السري و غير المعلن بينها و بين الحرس الثوري الايراني الذي تدخل لاحقا بعد سقوط الملا عمر و مد أصابع نفوذه بإتجاه الحرکة على أمل إستغلال و توظيف ذلك لخدمة أهدافه الخاصة و جعله کعامل ضغط و مساومة على طاولة التفاوض و التباحث مع الآخرين.

ولم يکن الملا عمر، زعيم حرکة طالبان، ذلك الرجل السياسي الحذق و الفطن الذي بإمکانه مسك مختلف خيوط اللعبة بيديه بقدر ماکان مجرد رجل دين متزمت يعيش في عالمه الخاص و يفهم و يفسر العالم کله وفق نظرته البدائية الضيقة للأمور و کانت الحرکة بمجملها تسير وفق نزواته و أهوائه الخاصة و تخضع لتشدد و تزمت فريدين من نوعيهما جسدتهماالنزعات الموغلة في السادية لهذا الرجل من خلال التطبيق الحرفي للأحکام الاسلامية، ولم تکن تلك الصور و المشاهد المروعة التي ألتقطت هنا و هناك في أفغانستان أيام الحکم الاستبدادي له، إلا تجسيد حي لشکل و مضمون دولة الخلافة الاسلامية وفق الفهم الطالباني للمباني الاسلامية، غير ان النزعة المفرطة في الإيغال بممارسة العنف و القسوة من جانب حرکة طالبان أيام حکمها، کان يقابله في الجهة الاخرى إنغلاقا و تباعدا إقليميا و دوليا على مختلف الاصعدة عن أفغانستان، وکان لتداخل العاملين المذکورين مع بعضيهما البعض، سببا مباشرا لبروز و تفاقم أزمة إقتصادية إجتماعية فکرية سياسية خانقة، دفعت الدولة الدينية الافغانية الى المزيد من الانزواء و التقوقع و الإنطواء على نفسها، وهو أمر ساعد على نشوء تيارات و إتجاهات مخالفة و معارضة لحرکة طالبان خصوصا وان تزايد الحنق و الکراهية الجماهيرية للممارسات الاجرامية و الوحشية للحرکة و التي کانت تقوم بها أمام الملأ و بشکل علني، وفرت هي الاخرى أرضية ملائمة جدا للترحيب بأية حکومة او دولة أخرى لاتحمل صبغة اسلامية، بل وان السقوط السريع للدولة الطالبانية المتزمتة المتطرفة بعد الغزو الامريکي لأفغانستان، و عدم إستمرار المجابهة و المقاومة ضد القوات الغازية، کان بحد ذاته يحمل الکثير من المعاني و المعطيات و الدلالات، إذ أن الشعوب المغلوبة على أمرها و التي تعاني الامرين من حکامها المستبدين و الطغاة، لن تکون على إستعداد للدفاع عنهم و التضحية بدمائها و مصائرها في سبيلهم، ولعل هجمة المغول التتر بقيادة هولاکو على الدولة العباسية أيام حکم المستعصم بالله، جسدت بوضوح هذه الحقيقة عندما لم يتدافع سکان عاصمة الدولة العباسية و لاحتى جنودها المحتمين داخل اسوارها بالدفاع عن خليفتهم و آثروا إلتزام الصمت على المجابهة، وهو أمر تکرر في بغداد في 9 نيسان عام2003، و قابل للتکرار في ليبيا و سوريا و اليمن وأي مکان آخر يتواجد على أراضيه نظام دکتاتوري مستبد يضطهد شعبه، وان الاعتراضات الساذجة و السطحية و ذات النبرة و الروح الشوفينية نوعا و التي تزعم بأن الدولة الطالبانية او دولة ولاية الفقيه، شأنهما شأن الفاتيکان او إسرائيل المبنيتين على أساس من الدين، تتعرضان للکثير من الظلم عبر الفهم و المقارنة الانتقائية، لکن ذلك فيه نوع من الخلط و التشويه الواضح للحقائق، ذلك ان الفاتيکان هو اساسا خلاصة النهاية الفعلية للدولة الدينية في اوربا وان رجال الدين و النفوذ الکامل للدين المسيحي قد استقر في تلك البقعة المحددة وهو کما يعلم الجميع وجود صوري و أکثر من أي شئ آخر، أما اسرائيل، فعلى الرغم من أنها قد بنيت على اساس من الدين، لکنها تسعى دوما للخروج من دائرة الدين و تحاول تجميل صورتها بشتى السبل ولاريب ان تمسکها بالنظام الليبرالي و تفعيلها لذلك على أرض الواقع منحها الکثير من المصداقية أمام المجتمع الدولي، غير أن جنوحها بين فترة لرسم سياساتها وفق إعتبارات دينية فيها الکثير من التطرف، يدفعها لزاوية النزواء و الانطواء وان ساسة و مفکري اسرائيل يدرکون جيدا أن التمسك بالدولة الدينية وفق الفهم المتطرف لن يکفل لها سبل البقاء و التعايش مع جيرانها و العالم مستقبلا، وهو مادعا الى ظهور تيارات سياسية و فکرية تطالب بإلحاح بإنتهاج سياسة أکثر إعتدال و واقعية حيال الفلسطينيين.

سقطت دولة طالبان، لأنه لم يکن ممکنا لنظام سياسي مبني اساسا على مجموعة تفاسير متخلفة للنصوص الدينية المعتمدة في جوهرها على منهج الغلو و التطرف، أن تسير أمور شعب کامل في عالم يعيش اوضاع بالغة التعقيد على مختلف الاصعدة، ليس ممکنا أبدا کما وان نظاما بني على الاکراه و الاتجار بالمواد المخدرة و تصديرها الى الغرب بزعمquot;أحمقquot;أنهم کفار، لايمکن الرکون إليه ولاسيما عندما يأوي في نفس الوقت تنظيما دينيا متطرفا إرهابيا مثل القاعدة، لقد کان الشعب الافغاني قبل الغزو الامريکي مغلوب على أمره و لم تکن دولة طالبان سوى مجموعة مؤسسات عشائرية قبلية مطعمة بالتقاليد الاجتماعية الدينية وکان من اليسير جدا سقوطها کتفاحة عفنة بيد الامريکان و إنتهاء تلك الدولة المتحجرة و الى الابد.