خرجوا من سجونهم وغادروا منفاهم في مصادفة تاريخية ما كانت تخطر لهم على بال، ليطلّوا علينا من جحورهم برؤوس مفعمة بانتقام سنوات قضوها في غياهب المعتقلات، ويمارسوا بمختلف توجهاتهم الفكرية والدينية أحقاد دفينة على المجتمع بأكلمه. فيعلنوا رجعيتهم وبكل فجاجة ضد الحضارة المصرية القديمة، التي ما زالت تشعرهم بضئيل وجودهم في العالم، في دعوة متخلفة لهدم وتغطية التماثيل الفرعونية، تحت زعم الكفر والتكفير، وكأننا ما زلنا نقدم القرابين على مذبح آمون!!، مما يعكس موقفهم الأصيل من مفهوم الحضارة بشكل عام وليست المصرية فقط.... ثم يستمرون في غيهم مهددين الدولة المصرية بثورة جديدة تأتي على الأخضر واليابس إذا ما تم الإعلان عن المبادئ الحاكمة للدستور، كما أعلنت جماعة الأخوان والجماعة الإسلامية وبعض التيارات السلفية، وكأن مفهوم الدولة قد انتفى أمام هتافتهم ورفعهم أعلام الدول الأخرى...

الأعلام السوداء في سيناء:
الغريب في الأمر أنه رغم الخلافات والاختلافات الحادة بين مختلف القوى والتيارات الدينية كما يظهر من خلال أدبياتهم وتنظيراتهم الثابتة، والتي قد تصل إلى حد تكفيرهم لبعضهم البعض، إلا أنهم جميعاً قد اتفقوا على هدفين، أولهما سعيهم الدؤوب للسيطرة على الشارع المصري بداية من قمته السياسية، وصولاً للأقاليم البعيدة عن نخبنا المتصارعة، في محاولة لتأسيس الهدف الثاني وهو مشروع الدولة الدينية، والذي بدأ بأعلام سوداء في سيناء، والله أعلم إلى أين سوف بنتهي. فالجماعات والتيارات الدينية، أصبحت على قلب رجل واحد ضد مجتمع بأكلمه، ما زال يعاني انعدام الوعي والثقافة والتجريف السياسي.
مشروع الدولة الدينية بدأ بتفجير خطوط الغاز في سيناء في محاولة لإعلان السيطرة والسطوة على ثلث مساحة مصر، وصولاً لحادثة قسم العريش التي تمت مصادفة مع مليونية التيار الديني في ميدان التحرير، والتي أسفرت عن مقتل ضباط مصريين كذلك بأسلحة ليست مصرية!!.. وفي النهاية إعلان سيناء إمارة إسلامية خارج الحدود والسيطرة. فالجماعات التكفيرية المسلحة والتي تلقت دعماً داخلياً وخارجياً، قررت أن تكون هي اليد المنفذة لطموح ظل طويلاً حبيس أدمغة التيارات الدينية حتى وإن أظهروا العكس. فالبداية سوف تكون هناك في المنطقة الصحراوية التي أغفلها النظام السابق لصالح صفقات المنتجعات السياحية.
الأعلام السوداء هي النتيجة الطبيعية لتهديدات التيارات الدينية في الداخل، والهرج السياسي في القمة، وفوضى الشارع وقانون البلطجة، وغياب مفهوم الدولة وهيبتها الذي لا يقتصر فقط على الأحياء والعشوائيات ولكن وصولاً للحدود.

صفقات الدولة الدينية:
هل من الممكن أن نغفل أهداف حماس بجهتي دعمها من الداخل الأخواني، والخارج الإيراني، في إقامة دولة مستقلة في سيناء تُعد امتداداً طبيعاً للدولة الحمساوية في غزة... تلك الأهداف التي تلاقت مصادفة مع أحلام إسرائيلية في توطين فلسطيني في الأراضي المصرية للتخلص من العبئ التاريخي الذي ما زال يشكل الثقل الأصيل على كاهل الدولة الإسرائيلية. ؟!.. فلقد جاءت عملية إيلات لتمنح إسرائيل المبرر الحقيقي في العبث على حدود الدولة المصرية، وكأن الجماعات التكفيرية في الداخل المصري، قد توحدت أهدافها مع إسرائيل من جانب وحماس من آخر، لنصل في النهاية أن الدولة الدينية المستقلة في سيناء تمنح الجميع مبرر الوجود وتحقيق الأهداف، حتى وإن بدا العكس على مستوى التصريحات السياسية والإعلامية، واضعين في الاعتبار أن الاحتجاجات الشعبية التي قامت في إسرائيل قد خفتت بمجرد الأحداث على الحدود، والتضخيم من خطورة الموقف في الداخل الإسرائيلي.. !!
مشروع الدولة الدينية المدعوم بشكل كامل من الدولة الإيرانية، على مدار التاريخ منذ السبعينيات من القرن المنقضي، قد وجد له سبيلاً الآن، في حالة عدم الاستقرار الذي تمر به مصر خلال الأشهر السابقة، فالدعم الإيراني للجماعة الإسلامية في مرحلة سابقة، والأخوان الآن، وفصيلها الحركي حماس، بالإضافة للعديد من الجماعات الدينية المسلحة، يجعل من دعوى الدولة الدينية ومشروعيته الشعبية، المدخل الذهبي للنفوذ الإيراني في المنطقة عامة ومصر على وجه الخصوص، والذي ازداد بعد التبني الإعلامي الذي قدمه النظام الإيراني للتيارات الدينية بعد الانتفاضات العربية.
وبالتالي يكون من الصعب إغفال الدور الإيراني الآني في سيناء، خاصة إذا وضعنا في خلفية المشهد الأحداث السورية، وما يعانيه الثوار في سوريا من دعم عسكري وسياسي واقتصادي إيراني لنظام الأسد، فإيران تحاول أن تستغل البوابة المصرية للفت الانتباه الدولي في صراع مفترض في مصر يهدد الكيان الإسرائيلي. فمشروع سيناء الدينية نتاج جملة من صفقات ومصالح بين مختلف التيارات والأنظمة.

شعب يبحث عن بطولة:
رغم محاولات الدولة المصرية متمثلة في القوات المسلحة، أن تستعيد هيبة الدولة في سيناء، في تحركات عسكرية هي الأولى من نوعها منذ عقد اتفاقية السلام، إلا أن تلك المحاولات بدت لا تلقى دعماً شعبياً كافياً في الداخل، فلم تخرج مثلاً مسيرة أو مظاهرة حاشدة، لتقدم الدعم والتأييد لما يحدث الآن في سيناء، رغم استشهاد العديد من ضباط وجنود، على يد بعض القتلة الإرهابيين، من أصحاب دعاوي الدولة المستقلة، سواء ممن فتحت لهم المعابر أو الأنفاق أو حتى التيارات الدينية في الداخل. وكأن قتل جنودنا في هذه العمليات جاء على هوى البعض، أو لا يستحق أي تأييد من أي تيار سياسي أو ديني.
وكأن استشهاد هؤلاء يقل قيمة عمن استشهدوا على الحدود بيد إسرائيلية، فخرجت الجموع واحتشدوا أمام السفارة، واحتفوا بمن أنزل العلم، وأنا شخصياً لست ضد هذا الاحتفاء الشعبي والإعلامي، رغم مخالفة ذلك للعديد من الأعراف والقوانين الدولية. ولكن في المقابل الصمت الشعبي ضد ضحايا الجماعات التكفيرية، له دلالة غاية في الخطورة. فنحن مازلنا ضحايا فكرة العدو التقليدي، الآخر الذي نمجده قبل أن نمجد أنفسنا، نصنع منه غولاً عملاقاً، لنتحول نحن أمام أي تصرف غير محسوب إلى أبطال خرافيين، فرغم كل ما حققته الثورة المصرية من انجازات ما زلنا نبحث عن بطولة وهمية نحملها كل هزائمنا. والأهم أن هذا يعكس مدى إنعدام الوعي المجتمعي بمن يشكلون خطراً حقيقياً على كيان مصر وهيبتها، ومن في مصلحته أن يقسم الكيان المصري إلى كيانات عديدة، من أصحاب دعاوي الحرب في وقت لا نملك فيه قوت يومنا.
يا سادة إن البسطاء الذي ققرروا أن يقفوا في ميادين التحرير، بعيداً عن أي تيار أو حزب أو انتقام تاريخي، ومن قدموا أنفسهم على مذبح الثورة، ومن ماتوا غدراً على يد البلطجية، ومن بينهم ضباط في القوات المسحلة بالمناسبة، كل هؤلاء لم يسعوا يوماً إلى حرب يكون وقودها أبناءهم وأطفالهم، وإنما ثاروا وعادوا إلى بيوتهم أو قبورهم، لتحقيق حياة كريمة، وآمنة، يتمتعون فيها بحقهم في الحياة دون أن يحملهم أحدهم ما لا طاقة لهم به، أو يستغلهم أخرون لتحقيق أهداف وسيناريوهات عن دولة مقدسة لن يستفيد منها إلا دعاة الدم والإرهاب.

أكاديمي مصري
.co.ukahmedlashin@hotmail