من الواضح أنّ
صفحة العقيد البليد التي تُطوى هذه الأيّام في ليبيا، ما كانت ستنتهي بنجاح بدون دعم من القوى الغربيّة التي تغير طائراتها منذ شهور في محاولة لكسر شوكة الترسانة العسكرية التي عمل عليها هذا rdquo;الكاتب والفيلسوف والمنظّرldquo;، كما كان يحلو له توصيف نفسه. وهو الذي وصل إلى حكم ليبيا بانقلاب عسكري وظلّ حاكمًا طوال أربعة عقود ونيّف.

كذلك، من الواضح
أنّ كلّ ذلك ما كان ليتمّ لولا خروج أبناء الشعب الليبي كاسرين هم أيضًا جدار الخوف أسوة بجيرانهم التونسيين والمصريين. لقد أناخ هذا العقيد البليد كلكله على صدور الليبيّين عقودًا طويلة سائرًا على نهج سلف من rdquo;عسكر العربانldquo; الذين اغتصبوا السلطان رافعين شعارات غايتها فقط دغدغة الوجدان ليس إلاّ.

ومن الواضح أيضًا
أنّ الانتفاضات العربيّة هذه التي تشهدها أقطار بعينها في rdquo;العالم العربيldquo;، إنّما هي انتفاضات ضدّ مخلّفات هؤلاء العسكر الذين اغتصبوا السلطان في الأقطار العربية التي خرجت من الاستعمار الغربي القصير الذي خلف الدولة العثمانية التي امتدّ سلطانها على العرب قرونًا من الزّمان.

ليس صدفة، إذن،
أنّ شرارة هذه الانتفاضات العربية قد قفزت على تلك الأقطار التي يحكم فيها الملوك والأمراء في عالم العرب. إنّ هذه الظاهرة جديرة بالنّظر فيها بتؤدة وبتبصّر جذورها، وذلك بغية عبورها إلى برّ عربيّ آمن لما هو آت من زمان.

في هذا السياق، يمكن
القول إنّ هذه الأنظمة التي أُطلق عليها جمهورية، وشاء العقيد البليد التفرّد باستخدام جمع الجمع - أي الجماهيرية، لم تكن في حقيقة الأمر جمهورية، بدءًا بعسكر عبد الناصر وانتهاء بانقلابات عسكر البعث في سورية والعراق وسائر عساكر البلدان العربية. الشعارات الرنّانة الطنّانة لدى هذه الطغم العسكرية كانت شيئًا، بينما الواقع كان شيئًا آخر مختلفًا تمامًا.

لقد حوّل هذا العسكر
تلك الأقطار إلى إقطاعيّات للحزب الواحد والزّعيم الواحد الأحد إلى يوم يبعثون. وفي الحقيقة شكّلت كلّ تلك الأحزاب بشعاراتها الطنّانة مجرّد غطاء لسلطان الاستبداد القبليّ والطائفيّ، يحكم بالحديد والنار ويحزّ رقاب العباد. وفوق كلّ ذلك، فقد نهب هؤلاء الموارد الوطنيّة وأقطعوها للمقرّبين من محازبين وقبليين آخرين، بينما عاش سائر النّاس في الحضيض. لم يأت هؤلاء العسكر بأيّ جديد، اللهمّ إلاّ بالطغيان الجديد المتلبّس بشعارات rdquo;ثوريةldquo; وldquo;عروبيةldquo; وما إلى ذلك من بلادة بليغة. وهذه هي بالضبط البلاغة التي تُفضي برافعيها إلى وصف أبناء الشعب بالـldquo;مندسّينldquo; أو بالـldquo;جرذانldquo;.

ولو أجرينا مقارنة
بين هذا النوع من الأنظمة، وبين الأنظمة العربية الأخرى، الملكية، لرأينا أنّ تلك الأنظمة الملكيّة كانت أرحم بالعباد من مُدّعي rdquo;الثوريةldquo; ومُدّعي rdquo;العروبيةldquo;. وهكذا يمكننا القول إنّ أنظمة العسكر التي ربخت على صدور الناس في بلاد العرب كانت بصورة أو بأخرى شبيهة بالـldquo;حَمْلldquo; المجتمعي العربي خارج حدود التقاليد النكاحيّة العربيّة.

ولهذا، يمكننا أن نصف
حال الإطاحة بهذه الأنظمة العسكريّة القبليّة العربيّة كنوع من rdquo;القتل على خلفيّة شرف العائلةldquo;. وهذا هو تقليد عربيّ لا زال قائمًا في المجتمعات العربيّة. وبكلمات أخرى، ليس فقط أنّ هذا العسكر قد اغتصب الشّعوب العربيّة وسرق الأوطان، بل إنّه قد فعل ذلك خارج حدود تقاليد العرب، وهي تقاليد أميل إلى الملكيّة منها إلى الجمهورية، وذلك بسبب الطبيعة القبليّة لهذه المجموعات البشرية التي تنتمي إلى الحضارة المسمّاة عربية.

وعندما أقول ذلك،
فلست أعني أنّ الأنظمة الملكية العربية هي أنظمة متنوّرة، بل أقول ذلك مقارنة بهذا الاستبداد العسكري والقبليّ والجرائم التي تقترفها الأنظمة الأخرى. أمّا بخصوص الأنظمة الملكية العربيّة التي تتلاءم مع الطبيعة العربية منذ ظهور العرب على مسرح التاريخ، فلا يمكن أن تبقى هي الأخرى على ما هي عليه الآن. بل يجب أن تنزع إلى العبور للملكية الدستورية على غرار الملكيّات الأخرى القائمة في أوروبا وفي أماكن أخرى من العالم. وإذا لم تفعل ذلك، فمصيرها هي الأخرى إلى زوال طال الزّمن أو قصر.

والآن، جاء دور فلان
الذي يقوم منذ شهور بإرسال دبابات عسكره وببوارج بحريّته لقصف أبناء شعبه المنتفضين ضدّ هذا الاغتصاب السّلطوي البعثي القبليّ المستمرّ هو الآخر في سورية منذ عقود. لقد جاء الآن دور انقلاع هذا النّظام الفاشي إلى غير رجعة.

أمّا مصير الانتفاضات العربيّة،
فلا يسعنا سوى القول: لن تستقرّ أحوال هذه البلدان التي انظلقت فيها شرارات التغيير إلاّ بالتحوّل إلى أنظمة مدنيّة معاصرة. ومعنى ذلك، الوصول إلى إجماع شعبيّ بدولة المواطنة المتساوية الواحدة التي تفصل الدين عن الدولة، وإلى إقرار دستور يسمح بتعدّد الأحزاب وإفساح الحريّات العامّة لكلّ المواطنين. وفي الوقت ذاته، يجب الوصول إلى إجماع أيضًا بحظر الأحزاب الدينية والعرقية والطائفية، لأنّ كلّ هذه الخلفيات هي البذور التي تخرج منها أوبئة المجتمعات العربية التي تفتك بها منذ قرون. وفي الوقت ذاته، يجب تحديد مدّة الرئاسة لدورتين انتخابيّتين لا تتعدّان عشر سنوات، يُحال بعدها الرئيس إلى التقاعد.

لقد آن الأوان أن يشيع في الثقافة العربية مصطلح rdquo;الرئيس السابقldquo; وهو على قيد الحياة، بدل تخليد مصطلحات rdquo;الطاغيةldquo; وrdquo;الرئيس الراحلldquo; أو rdquo;الرئيس المقبورldquo;.
وما لم يتمّ ذلك، فلن يتغيّر شيء في بلاد العرب.

والعقل ولي التوفيق
*
موقع الكاتب rdquo;من جهة أخرىldquo;
http://salmaghari.blogspot.com