بعد كل هذه الخيبات ألا يحق للناس أن تسأل عن هوية الثورة والثوار؟ وعن أهداف الثورة ومشاريعها لا أهازيجها وأغانيها، قبل منحها دماءها وعواطفها وآمالها، وأرق الليالي من أجلها؟

قديماً كانت الثورات تأتي من حقول الفلاحين، ومن مصانع العمال، ومن أروقة الجامعات والمدارس، وبيوت الفقراء والمعدمين والمهمشين،ثم صارت تأتي من الثكنات العسكرية، ومن نوادي الضباط العامرة بزجاجات الويسكي التي يدبجون بياناتهم الأولى على نكهتها الفاتحة لشهية الأحلام!

في هذه الأيام صارت الثورات تنطلق من المساجد، وصفحات الكومبيوتر، في أغرب مفارقة تجمع بين الغيبي الخرافي، والمادي العلمي، الجامد على مكنونه الغامض،والمتطور وفق قوانينه الواضحة، وهذا يضعها في سياق احتمالين: إما أنها ستبقى لصيقة بالدين والغيبيات، معيدة دورة الأنظمة السابقة التي استعملت الدين في غير أغراضه الروحية فصار غطاءً للكسب السياسي، وللفساد والظلم والعنف والتخلف، وحتى الحروب المقدسة. أو أنها ستبتعد عنه ملتحقة بالكومبيوتر والكامرة وعالمهما الهائل،مقتحمة لآفاق العلم والعلمانية، مستندة على الديمقراطية والتعددية، مستعدة لصراعها مع الدين الذي سيطالبها بما هو أكثر من حقوق الضيافة في مساجده العامرة!

وإذا راجعنا ما بدا من جسم الثورة على الأرض في مصر وتونس نجده ينحاز أكثر للمسجد،منحنياً نحوه بما يشبه حالة السجود في المحراب،مستعملاً الكومبيوتر والكامرة في خدمة المشروع المضاد للكومبيوتر والكامرة، والعلم والحضارة ( فضائيات نشر الشعوذة وطقوس الظلام في عالمنا العربي والإسلامي أكثر من فضائيات العلم والثقافة والأدب بكثير جداً)

طبعاً، من الخطأ إطلاق أحكام نهائية على الثورات، أو أي شي استناداً على بدايته، ولكن لا ينبغي إهمال الاستهلال والمقدمة، خاصة في مسألة الثورات التي غذاؤها أرواح الناس ودماؤهم وليس حشائش الأرض، وما يقوله نقاد الموسيقى من أن الجملة الموسيقية الأولى للسمفونية وافتتاحيتها تحدد خاتمتها، يصح على سمفونيات النضال الإنساني بكل ما تحمل من نشازات وأصوات متنافرة: كيف للمرء لا يدرك أفق ثورة الشباب المصري وهو يرى جماعات الإسلام السياسي يتسللون إليها حين رأوا انتصارها بعد أن كانوا خلفها يرقبونها بحذر، وبعد أن ضمنوا دنو قطافها صاروا في مقدمتها (مستعيدين سيناريو الثورة الإيرانية في السبعينيات) وكما جاء الخميني من باريس، جلبوا يوسف القرضاوي من قصره الباذخ في قطر، ليتأمم حشودها الفقيرة الجائعة القادمة من جوامع القاهرة إلى ساحة التحرير! وكيف لا يفكر المرء بأفقها وهو يرى قناة الجزيرة المعروفة الهوية والهوى ومذيعيها المتخرجين من مدرسة الأخوان المسلمين، هم من يحدد على الشاشات أيدلوجيتها وفكرها وشعاراتها وتغطيتها بهذه الحماسة غير الطبيعية؟ بالطبع هذا لا يعني نكران حديثهم عن فساد نظام مبارك وتفسخه وتعسفه وغبائه وادعائه العلمانية، مع إنه يستخدم الدين بصورة بشعة لا يتورع فيها عن إثارة الطائفية بين الأقباط والمسلمين لكي يمرر نظام حكمه، وتوريث ابنه العرش!

آخر تصريح للقرضاوي من قصره الجديد في القاهرة: إن العلمانيين واللبراليين قد أخذوا دورهم، وأثبتوا فشلهم، واليوم جاء الدور للإسلاميين،متجاهلاً حجم الأقباط الهائل في مصر، ومشاركة الكثيرين منهم بهذه الثورة،وقلقهم على أهدافها ومصيرها، و منكراً أن الإسلاميين يصولون ويجولون في حلبات السياسة والحكم،في العالم الإسلامي منذ ألف وأربعمائة عام!

ورغم صعود تيار الإسلام السياسي بما تكشف عن سلفيين وأصوليين ومتصوفة ومذاهب كانت غائبة أو خلايا نائمة، لكن الثورة المصرية ما تزال في أتون صراعات وتجاذبات حادة وخطيرة، ومهمة المجلس العسكري تزداد صعوبة ومشقة، وينتظر منه أن يبقى بمثابة ذراع الميزان العادل لا يلقي نفسه في أية كفة منه! ومع ذلك صرنا نسمع من بعض الساسة والمثقفين في مصر،أن الأمر قد حسم لمن يعرفون كيف يلعبون على وتر الدين والطائفة للوصول للسلطة والثروة، وراحوا يطلقون دعوات لثورة أخرى،وثورة داخل الثورة!

من المتوقع أن أيام الانتخابات القريبة القادمة ستكون مفعمة بالتوترات والمفاجآت، وستشد إلى مصر الكبيرة أنظار العالم،ومهما تكن النتائج، فإن طريق مصر إلى الاستقرار والازدهار ما يزال طويلاً.

في تونس تصدر الإسلاميون السياسيون المشهد اليومي بعد انتصار الثورة،وعاد الغنوشي أحد زعمائهم من باريس محاولاً الحديث بلغة جديدة، ومهما طعم حديثه بما يثبت إنه جلس في بعض مقاهي السوربون،لكنه لم يستطع التحرر من مفردات قاموس الإسلام السياسي. وقد صعد الإسلاميون من صراعهم ومعاركهم مع منافسيهم من الديمقراطيين واللبراليين العلمانيين واليساريين، في ظل انفلات أمني آخذ بالتفاقم بعد إضرابات نقابات رجال الأمن.

يبدو الشعب التونسي في حمى الصراعات الجديدة وكأنه نسى ثورة الحبيب بورقيبة وطواها تماماً، بينما هي لم تكمل أهدافها بعد أن تنكر لها بورقيبة نفسه حين استأثر بالسلطة حد الخرف، ونكل بشكل وحشي برفاق دربه من المناضلين، وأطلق يد زوجته وسيلة لتسلبه مع مباهج السلطة لبه وانقلابيته القديمة، بعد أن كان شعلة وقادة من الفكر الحر الديمقراطي الداعي بشكل خاص لتحرير المرأة،والمجتمع كله من نير الخرافات والأساطير والقيود العريقة ( هو من منع تعدد الزوجات، وشجع على السفور، وخروج المرأة للعمل والحياة السياسية). حتى اليوم لا يعرف ما هو مشروع الثورة الأخيرة في تونس والتي أطلق شرارتها بقال مثقف مات قبل أن يعرف ماذا أشعلت في أرض العرب من خزين الحرمان والكبت الطويلين! وما تزال الثورة ترتجل نفسها وفق تداعيات عفوية الأقوى فيها هو التقليدي والمتخلف، والذي له حسابات قديمة مع اللبرالية الجريئة في هذه البلاد الصغيرة الضعيفة في مواردها، الغنية بأحلام شعبها الذي أنجب أبا القاسم الشابي، القائل (إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر)، ولعلها من مفاجآت الزمن المثيرة أن هذا الشعب لم يصدر شعر الثورة وحسب، بل الثورة أيضاُ، ما يجعله مطالباً قبل غيره بإنجاح ثورته، وجذب فرسها الجامح نحو الديمقراطية التي له فيها تراث كبير.

وفي ليبيا لا نريد أن نصدق ما يقال عن نفوذ كبير لجماعات القاعدة بين الثوار، والمجلس الثوري القيادي،ولا نعزو دأب الثوار على الصلاة تحت وابل القصف إلا لطاقتهم الروحية المشروعة، ولكن باب القلق على الثورة من اختطاف المتأسلمين المسيسين لها ما يزال مفتوحاً، ونهباً لرياح الغرب والشرق ونفوذهما على الأرض،وستكون كارثة أخرى للشعب الليبي إذا استبدل جنون القذافي وطغيانه بنظام غير ديمقراطي، وغير مدني، ولا يقوم على الحريات الأساسية، وحقوق الإنسان التي حرم منها طويلاً،ويتخذ من الدين نهجاً سياسياً، بدلا من تركه للناس يعتنقونه ويمارسون طقوسه وفق قناعاتهم!

طال صراع الثوار في اليمن مع عبد الله صالح، وميزان القوى ما يزال ليس في مصلحة الثوار، وما حرك الدول الغربية لنجدة الليبيين قائم على أرض اليمن أيضاً، وينبغي أن يحركها لنصرة اليمنيين، ولا تتجاهل أن عبد الله صالح لا يقل هوساً واستبداداً وتعسفاً وتخلفاً عن القذافي،لكن ازدواجية المعايير صارت سياسة مشروعة لدى هذه الدول، بنفس الوقت ما يزال على الثوار اليمنيين أن يقدموا أنفسهم ومشروعهم الثوري بصورة أوضح لشعبهم وللعالم ( رأيت أكثر من مرة على الشاشة فتيات يمنيات منقبات مسربلات بالسواد تماماً، يهتفن للثورة والحرية، ما يستدعي سؤالاً عفوياً: الفتيات اللواتي عجزن عن تحرير أنفسهن من هذه الأكفان السود، كيف يستطعن منح الحرية لغيرهن؟ ألا يحتمل إنهن لو امتلكن السلطة يفرضن حجابهن على الفتيات غير المحجبات الواقفات بجانبهن؟ بالطبع هناك أمل أن يحصل العكس، حصل في تونس ومصر شيء كثير من هذا وذاك،في القاهرة حين نشرت أحدى جماعات الشباب الثورية صورة زميلة لهم استشهدت في ساحة التحرير أحتج أهلها لأنها ظهرت في الصورة غير محجبة،وطالبوا بإعادة بنشر صورتها محجبة، ولكن الأهل فوجئوا أنهم لا يملكون صورة لها وهي محجبة، فاستعانوا بالكومبيوتر وألبسوها الحجاب بعد موتها وهي تهتف من أجل الحرية طبعا، وربما هذه الحادثة على بساطتها تكشف أحدى تناقضات الثورات العربية....).

[email protected]