فور اندلاع الشرارة الأولى للثورة الشعبية الليبية هرول العرب والعالم إلى دعمها وإسنادها. حتى الجامعة العربية التي حافظت على طبيعتها التوفيقية الباهتة المترددة في كل تاريخها، سارعت إلى نزع ثوب وقارها الممل، ودعت إلى طلب التدخل العسكري الدولي في دولة عضو في الجامعة لحماية المدنيين. ثم، وعلى الفور ودون عقبات، استجاب مجلس الأمن الدولي لطلب الجامعة، لأول مرة في التاريخ، وأصدر قراره الشهير تحت عنوان حماية المدنيين.

السبب ليس كلـُه حبا بحقوق الإنسان الليبي، ولا دفاعا عن أرواح المدنيين العزل من السلاح، بل كرها بالقذافي، وانتقاما من عنجهيته، وردا على عداواته السابقة. فهو لم يوفر بلدا ولا شعبا ولا زعيما، في الشرق والغرب، إلا ولذعه بلسانه أو بأمواله أو بمخابراته أو مفخخاته.

ونظام الولي الفقيه في إيران نسخة أخرى مكبرة من خرافة معمر القذافي، ولن يكون مصيرها مختلفا كثيرا عن مصير الأخ العقيد.

وقبل فتح الملف الإيراني لتفصيل الظروف الموضوعية المكتملة لاندلاع الثورة الإيرانية القادمة لابد من التذكير بأهمية إيران، شعبا ودولة، للمنطقة وللعالم، على حد سواء. ومما يزيد من أهميتها موقعُها الجغرافي وحدودها الواسعة وثرواتها الطائلة وعراقة شعبها الحضارية الضاربة في التاريخ البشري، من أيام زرادشت، وربما قبله.

ولا أحد، سوى المجنون والغبي والأحمق، يتمنى أن لا تكون إيران قوية وعزيزة وآمنة ومستقرة وزدهرة تعيش في داخلها وفي محيطها بأمان وسلام، تـُصدِّر خيراتها وإبداعات شعبها إلى العالم بدل المال والسلاح والجواسيس، وتوظف قوتها الهائلة لتأمين استقرار المنطقة بدل التآمر والمشاكسة وتأجيج العداوات والخلافات والثارات، وتنخرط مع الجميع في البناء والتعمير، دون عنجهية ولا أحلام امبراطورية غير واقعية يستحيل تحقيقها.

وإلى ما قبل قيام دولة الخميني الدينية الطائفية العنصرية المتطرفة بقليل، كانت علاقات الشعب الإيراني بجيرانه وبشعوب العالم الأخرى إيجابية وطبيعية ومثمرة وبناءة تقوم على أساس الاحترام المتبادل والتعاون والتفاهم والتناغم، والعمل على حماية أمن المنطقة والحفاظ على استقرارها وازدهارها.

ونحن العراقيين كنا وما نزال الأقربَ له من غيرنا، على امتداد التاريخ الطويل، والأكثر تلاقحا وتمازجا، اُسَريا وثقافيا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وأمنيا، ولم تستطع جميع غزوات الأباطرة الفرس السابقة وتخريباتهم ومظالمهم أن تشوه العلاقة الحميمة بين الشعبين.

ولكن منذ هيمنة الفكر الديني السلفي المتزمت فقدت إيران وجهها الحضاري ومدنيتها وتقدميتها وإيمانها بأهمية الاعتدال مع الداخل، والعقلانية مع الخارج.

فمن اليوم الأول لهبوطه من الطائرة التي نقلته من باريس إلى طهران عام 1979 راح الخميني يعمل بعقيدتين، الأولى داخلية وتتمثل في تسليم السلطة للأمواج البشرية المتدفقة المسحورة بقداسته، وكثير من أفرادها أميون جهلة متعصبون، لتتولى تطهير الدولة من الخصوم وإقامة النظام الجديد. أما الثانية فهي خارجية وتقوم على أساس تصدير الثورة إلى دول الجوار أولا، ثم إلى الدول الإسلامية الأخرى بعد ذلك.

وأكبر وأهم خسارة ألحقها الخميني بدولة إيران وشعبها هي حملات التطهير الانفعالية التي طالت أهم الخبراء والعلماء والاختصاصيين والإعلاميين والفنانين والرياضيين، وفتكت بأبز قادة الجيش وضباطه وجنوده، دون أي اعتبار للخبرة والمهنية والموضوعية، على أساس أن الولاء أهم من الخبرة، الأمر الذي أدخل المجتمع الإيراني في حالة من العجز التخبط والفراغ، ووسع شرائح المعارضين الناقمين.

والأكثر إضرارا بلـُحمة المجتمع الإيراني كان اعتماد الإرتجال والغوغائية في إدارة الدولة ورسم سياساتها الداخلية، بما فيها اختيار الطريقة المناسبة لمعاملة الأقليات الدينية والطائفية والعرقية المختلفة في الداخل، واتخاذ القرارات والأساليب الخاصة بالشؤون الدولية، كذلك.

وحادث احتلال السفارة الأمريكية من قبل شباب الثورة، واختطاف العاملين فيها، بقيادة أحمدي نجاد رئيس الجمهورية الحالي، نموذج واحد من الأساليب التي كانت تدار به الأمور في إيران الجديدة.

ثم راحت التجاوزات والتعديات والمظالم تتسارع وتتسع وتصبح أكثر خطورة، على أيدي جحافل الحرس الثوري وفرق المحافظين. وما زالت ُتمارس إلى اليوم. بل صارت هي الفلسفة السائدة، ليس مع خصوم ٍ من خارج النظام، بل حتى مع معارضين إسلاميين كانوا وما زالوا جزءا فاعلا ومهما وأساسيا في النظام الحاكم نفسه.

وأفضل مثال على ذلك حجم القسوة والعنف الدموي الذي واجه به قادة النظام الإيراني تظاهرات رفاقهم السابقين الذين اعترضوا على تزوير الانتخابات الأخيرة، وفي مقدمتهم المرشح الرئاسي السابق مير حسين موسوي ومهدي كروبي وعشرات غيرهم، بينهم رؤساء جمهورية سابقون وقادة دينيون وسياسيون آخرون كثيرون.

يضاف إلى هذا كله سبب آخر من أسباب نقمة الجماهير الإيرانية وغضبها المختزن. فسياسات النظام العدائية تجاه أغلب دول الجوار حرمت التجار والعمال الإيرانيين، وهم بالملايين، من حرية السفر من وإلى هذه الدول، وخاصة دول الخليج الغنية. فبعد أن كان الإيراني، تاجرا أو زائرا أو عاملا مقيما، يلقى رعاية متميزة صار مشكوكا فيه وغير مرحب به في أغلب هذه البلدان. بل صار حامل جواز السفر الإيراني ممنوعا من دخول ثلاثة أرباع العالم، أو يدخلها بطلعان الروح.

ويشكو المواطنون الإيرانيون، وخاصة منهم أؤلئك الذين يعانون من الفقر والعوز والحاجة والبطالة من بعثرة النظام مئات ملايين الدولارات سنويا على أحزاب ومنظمات ومليشيات ومرتزقة وعمليات تخريب وقتل واغتيال وخطف وحرق وتهديد وابتزاز في دول عربية أو إسلامية عديدة، بدل إنفاقها في الداخل لتخفيف معانات الناس المعيشية الخانقة.

كما أن حماقات تلك الأحزاب والمليشيات العميلة للنظام وممارساتها في دولها ُتحسب على الشعب الإيراني أكثر من النظام، وتؤجج كراهية شعوب تلك الدول للمواطنين الإيرانيين أكثر من الحكام، وتؤدي إلى تعطيل الكثير من مصالح المواطنين في الدول الأخرى.

أما السياسات العنصرية والطائفية المتشددة التي عامل ويعامل بها النظام جميع القوميات والأقليات الدينية والطائفية الأخرى فقد جعلت من تلك الأقليات قنابل موقوتة قد تنفجر في أول فرصة سانحة.

وأول الناقمين الذين تحملوا فضاضة النظام هم الآذريون الناطقون بالتركية يشكلون 30% من مجموع السكان البالغ ثمانين مليونا أو يزيد، مع احتمال انضمام التركمان إليهم والقشقائيون والأزبك.

يليهم الكرد الإيرانيون، وعددهم عشرة ملايين، ولهم مع النظام تاريخ طويل من القمع والاضطهاد.
ثم البلوش السنة، ومليون سني في طهران مارس النظام ضدهم أبشع أنواع الملاحقة ومصادرة الحرية والمال.

ثم عرب الأهواز الذين لم يكفوا يوما عن التململ وطلب الاستقلال. ومن المحتمل أن يجدوا في الانتفاضة الإيرانية القادمة فرصة من ذهب للانفصال الاستقلال، وقد يجدون من دول غنية عربية دعما غير محدود. خصوصا تلك الدول الخليجية التي تنفق مليارات الدولارات سنويا على السلاح والإعلام والمخابرات، لكي تتقي شر إيران وتحرشاتها ومشاكساتها المزعجة.

هذا على صعيد الداخل. أما على صعيد الخارج فقد دشن الخميني فكرته حول تصدير الثورة في العراق، محاولا إسقاط نظام البعث (الكافر) و(ربيب قوى الإستكبار العالمي) و(عميل الشيطان الأكبر) كما يُسميه. ويعتقد البعض بأن الكره الشخصي الذي كان يحمله الخميني لصدام حسين بسبب إقدامه على طرده من العراق، عام 1978، كان هو الدافع الحقيقي، لكنه ألبسه ثوب الجهاد ضد الكفر والكفار ليكون أكثر قبولا من الجماهير. الأمر الذي قاد الزعيمين العنيدين إلى حرب ثماني سنوات حصدت ملايين من أبناء الشعبين، بين قتيل وجريح ومفقود وأسير، مع خسائر باهضة في الثروات، إضافة إلى ما زرعته من أحقاد طائفية وقومية لا تمحى بسهولة، لا بين الإيرانيين والعراقيين وحسب، بل بين العرب والفرس كأمتين جارتين، وهذا أخطرمخلفات تلك الحرب العبثية غير المبررة.

ثم دفعت النتائج الكارثية لتلك الحرب بالقيادة الإيرانية إلى العمل على إقامة قواعد موالية لها، في الدول العربية والإسلامية، بعضُها معلن تحت واجهات دينية، وبعضها خلايا نائمة مخبأة في انتظار الساعة المناسبة. وقد تمخضت تلك السياسة عن تأسيس عدد كبير من الأحزاب والمليشيات وتدريبها وتسليحها وتمويل نشاطاتها في العراق ولبنان وفلسطين وأفغانستان وباكستان واليمن ومصر ودول الخليج العربية، لتكون عوامل إقلاق وإرباك وتخريب مجتمعات تلك الدول، وليّ ذراع حكوماتها، لحساب النظام الإيراني وأهدافه الاستراتيجية والتكتيكية المتعددة.

وكشفت الأحداث الأخيرة في العراق أن إيران تمول وتسلح جماعات إرهابية شيعية وسنية عديدة، ومنها القاعدة، لاستخدامها في زعزعة استقرار العراق وبعض دول المنطقة.

كما أنها استخدمت جماعات إرهابية أخرى لاغتيال الكفاءات والضباط والعلماء العراقيين.
ولعل أكثر سياستها إضرارا في المنطقة محاولاتها استغفالَ الشيعة العرب، وتجنيدَهم في حروبها، واتخاذهم طوابير خامسة لخدمتها، وليس أشقاءها في الطائفة الذين َيفرض عليها الواجبُ الديني والإنساني عدمَ الإضرار بهم وحشرهم بين مطرقتها وسندان حكوماتهم، ليدفعوا ثمن حروب سياسية عابثة لا ناقة لهم فيها ولا جمل.

شيء آخر. إن ما فعلته وما تفعله الأحزاب الدينية الحاكمة في العراق، وما فعله ويفعله حزب الله في لبنان، وما يفعله اليوم بشار الأسد بالمدنيين المطالبين بالحرية والكرامة من قتل وتدمير، بدعم إيراني مباشر وكبير، يضاف إلى سجل النظام الإيراني السيء، ويجعل ملايين العراقيين والسوريين واللبنانيين أشد أعداء إيران، وأكثرَهم تأييدا لإسقاطه والخلاص من مشاكساته المزعجة.

كما أن العناد الإيراني في الملف النووي عامل آخر يجعل أية ثورة قادمة في إيران حاجة أوربية أمريكية خليجية ملحة، وسيدفع بالقريب والبعيد إلى أن يضع كل ما في طاقته لدعمها ونصرتها، من أول انطلاقتها وإلى نصرها الأكيد.

لكل هذه الأسباب والظروف تتهيأ الجماهير الإيرانية لإعلان ثورتها الرائدة، خصوصا وأنها ذاقت على يد النظام أضعاف ما ذاقه التوانسة والمصريون والليبيون واليمنيون والسوريون من قهر وقمع وفساد. وهي ليست أقل من غيرها تعلقا بالحرية والعدالة والديمقراطية، ولا أقل من غيرها رغبة في إقامة نظام جديد ديمقراطي يعيد لإيران وجهها الحضاري الناصع من جديد.

لا سيما وأن للشعب الإيراني الأسبقية في المنطقة في ممارسة الديمقراطية والعلمانية، فكرا وسلوكا وعقيدة. وهو، فوق كل ذلك، شعب جريء وشجاع وأبيٌ إلى أبعد الحدود.

وعليه فإن أية انتفاضة جديدة في إيران ستكون عظيمة وجديدة وشاملة، وسوف تنتصر.
الخوف الوحيد أن تختفي إيران التي نعرفها، وتصبح مثل يوغسلافيا السابقة أو الاتحاد السوفيتي السابق، جمهوريات ٍمستقلة، متآخية ً حينا و متناحرة ً حينا آخر.

ولكن إذا ما حدث وتمزقت إيران فمسؤلية ذلك كله على عاتق نظام الولي الفقيه، لأنه لم يحسن شيئا قدر إتقانه صناعة الأعداء والخصوم.