(تحرير الإنسان في القرآن) ليس مجرد موضوع من المواضيع التي يتناولها القرآن ويفرد له مساحةً في تغطيته مثله مثل المواضيع الأخرى، بل إن هذه القضية تحديداً هي قضية القرآن الكبرى التي ينصب اهتمامه عليها، وتلمسها في كل زاوية من زواياه، وكل القضايا الأخرى التي يتناولها القرآن فإنما هي ذات ارتباط وثيق بموضوع تحرير الإنسان بطريقة أو أخرى..
لم يكن كل هذا الاهتمام القرآني بموضوع تحرير الإنسان إلا لأن رسالة الإسلام أصلاً، ورسالة الأنبياء جميعاً التي بعثوا من أجلها كانت هي تحرير الإنسان وإطلاق قواه الروحية الكامنة، ووضع الإصر والأغلال عنه..
هذا الحديث ليس متكلفاً ولا ربطاً تعسفياً لإظهار الدين بمظهر عصري يقبله الناس، بل هو ارتباط واضح بيّن يمكن تلمسه بقليل من التدبر..
حرية الإنسان أصيلة في القرآن وهي ثابت لا يقبل الجدل، فالله عز وجل قد كرم الإنسان وأعطاه القدرة على الاختيار، وهذه القدرة على الاختيار هي سر التكليف في الدنيا، والحساب في الآخرة، والمحاسبة ليست سوى الوجه الآخر للحرية، فلو لم يكن الإنسان حراً حريةً تامةً، ولو لم يكن يملك القدرة على التخلص من أي قيد جبري لما كان هناك معنىً للحساب أمام الله تعالى..
لو بدأنا بتدبر الإسلام من الأساس الذي قام عليه لاستكشاف المكانة التي تحتلها قضية تحرير الإنسان في القرآن فإننا نبدأ بأساس الدين كله وهو كلمة لا إله إلا الله..هذه الكلمة هي مركز ثقل الدين، وهي الأساس الذي لا يصلح أي عمل إلا بالإيمان الجازم بها، وهذه الكلمة من القوة بحيث لو وضعت في كفة، ووضعت السموات والأرض في كفة لرجحت بهن، فهل ثمة علاقة واضحة بين لا إله إلا الله وبين تحرير الإنسان؟.
لا إله إلا الله تعني أنه لا يوجد في هذا الوجود كله من يملك القدرة الحقيقية على الخلق والرزق والضر والنفع والموت والحياة والنشور سوى إله واحد في السماء، وكل من هو من دونه فإنما هم عباد يستمدون بقاءهم وقوتهم منه، ولا يملكون سلطاناً للتحكم في الخلق إلا بإذنه..
حين يؤمن الإنسان بأنه ليس لأحد في الأرض من سلطان عليه، لا ملك ولا صاحب جاه أو مال، ولا سادة ولا كبراء، ولا دولة عظمى فإنه يتحرر من الخوف ومن القلق ومن العبودية للآخرين، فيصبح حر الإرادة لا يخضع للابتزاز ولا للإهانة لأنه يدرك أن من يريدون استعباده هم في حقيقة الأمر عباد أمثاله لا يملكون له نفعاً أو ضراً، ولا يملكون أن يمنعوا عنه الرزق الذي كتبه الله له..
إنه ليس كلاماً نظرياً بل هي حقائق يشهد عليها التاريخ، فدائماً كان الإيمان هو المحرك الأكبر للثورات، والباعث للشعوب على استرداد كرامتها..
إن الإيمان بالله ليس ثيولوجيا سماويةً منفصلةً عن الواقع الاجتماعي، بل هي رسالة إصلاح اجتماعي وسياسي، وهي عقيدة ثورية تحرض الإنسان على كسر قيوده والتحرر من العبودية، والإنسان المؤمن حقاً لا يسعه إلا أن يكون ثائراً، فالإيمان والاستكانة نقيضان لا يجتمعان، ولا يمكن لمن يؤمن في تصوره القلبي بأن الملوك والحكام إنما هم بشر مثله لا يملكون له شيئاً أن يقبل بعد ذلك بأن يظل خاضعاً ذليلاً مهاناً لهم..
يبين القرآن العلاقة الوثيقة بين الإيمان والعزة فيقول quot;ولله العزة ولرسوله وللمؤمنينquot;، فالمؤمن هو عزيز بطبعه من حيث كونه مؤمناً لا يقبل الذل ولا المهانة..
هذه هي حقيقة الإيمان وليست تلك الطقوس والمظاهر الباردة الخالية من أي روح.. ولا ذلك المعنى الجامد الميت الذي يتناوله علماء السلاطين فيشرحونه شرحاً جافاً منفصلاً عن الواقع، ويزينون للشعوب الخضوع والاستكانة للأنظمة الاستبدادية، فهؤلاء هم أبعد ما يكونون عن حقيقة الإيمان..
إن هناك من يسيء لهذا المعنى الثوري الناصع لكلمة لا إله إلا الله حين يخصص الساعات الطوال، وهو يشرح نواقضها من قبيل زيارة القبور، والتوسل إلى الأولياء، وهي عادات آخذة في الاضمحلال في ظل تقدم الشعوب وتوجهها نحو المدنية، بينما يغفل أي إشارة للحديث عن الناقض الأكبر لحقيقة لا إله إلا الله وهو الخضوع لأصنام هذا العصر الممثلة بالحكام المستبدين..
لا يقف الأمر عند كون الإيمان بالله هو طريق لتحرير الإنسان، بل إنه الطريق الوحيد الذي لا يمكن للإنسان أن يكون حراً حقيقةً إلا إذا سلكه، لأن الإنسان بدون هذا الإيمان لن يستطيع إلا أن يكون عبداً خاضعاً لأهوائه وشهواته، ومهما زعم بأنه متحرر وعصري وأنه يرفض القيود والالتزامات التي يفرضها الدين فهو في حقيقة أمره خاضع أمام شهوة نفسه وهواها، لا يملك الإرادة لمقاومتها، فهو لا يزيد عن كونه خرج من عبودية إلى عبودية أشد وطأةً، والعبودية للنفس وهواها هي شر أنواع العبودية، وهي مصدر ذل الإنسان وهوانه، ومن ضعف أمام نفسه سيضعف أمام أي شيء آخر، ومن ألفت نفسه الانسياق وراء أهوائها وفقد المناعة عن لجمها بلجام العقل فإنه لن يتردد عن فعل أي شيء من أجل تحصيل شهوته، فإذا كان مقابل الحصول على المال هو تقبيل يد الوزير فإنه لن يتوانى عن ذلك، وإذا كان مقابل الحصول على شهوته من إحدى النساء إذلال نفسه لها وتحقيق كل ما تطلب منه فإنه لن يتردد عن ذلك أيضاً، فأي حرية تبقى حين يكون الإنسان مستعبداً ومهاناً أمام نزواته وشهواته التي لا حدود لها..
تظهر عبودية الإنسان لشهواته أوضح ما تكون حين يصل هذا الإنسان إلى حالة إدمان المعصية، فتصبح ممارسته لها إدماناً لا يستطيع الفكاك منه حتى بعد أن يفقد الشعور باللذة من هذه المعصية، فبعد فترة من التعود على المعصية يفقد الشعور بلذتها، ولكنه يستمر عليها لا لشيء إلا لأنه لا يستطيع التحرر منها، بفعل التأثير الشرطي الذي رسخ في عقله بضرورة فعل هذه المعصية، فيصير كالعبد المساق لا يملك إرادةً للمقاومة..
الإسلام يدرب الإنسان على قوة الإرادة، ودرس الصوم بالغ الدلالة في هذا الاتجاه، فالصوم هو الذي يحقق إنسانية الإنسان، ويحرر إرادته، وينقذه من مستنقع الحيوانية..الحيوان بمجرد أن يشتهي طعامه أو يشتهي مواقعة أنثاه فإنه ينساق وراء شهوته دون كابح، أما الإنسان حين يصوم فإنه يرى الطعام والشراب والزوجة أمامه ولكنه يمتنع عن الاقتراب منها وبذلك يدرب نفسه على قوة الإرادة وعلى التحرر من سلطان النفس وهواها، ومن يدخل مدرسة الصوم يسهل عليه بعد ذلك أن يتحكم في نفسه وأن يقودها لا أن ينقاد إليها quot;لعلكم تتقونquot;..
لا تظهر فكرة تحرير الإنسان في القرآن في تركيزه على موضوع الإيمان وحسب، وإن كان ذلك كافياًً، ولكن بالإضافة إلى ذلك فإن القرآن يطرح أفكاراً انقلابيةً في اتجاه تحرير الإنسان جاءت مخالفةً لمفاهيم البشر السائدة عبر العصور..
البشر اعتادوا تقديس الأوطان والإعلاء من قيمة البقاء فيها وعدم مغادرتها مهما كان الظلم الواقع على الإنسان كما قال الشاعر: بلادي وإن جارت علي عزيزة، وفي المقابل ينظرون نظرةً معيبةً لمن يترك وطنه، لكن القرآن يقلب هذه الفكرة وينسف صنمية الوطن ويجعل المقدس الأهم هو الإنسان وليس الأوطان، وأنه إذا تعارض بقاء الإنسان في وطنه مع حريته النفسية فإن عليه أن يغادر هذا الوطن إلى حيث يستطيع الحياة بكرامة وحرية، وهذا ليس خياراً يتيحه القرآن للإنسان في لحظة ضعفه وحسب، بل هو فريضة لازمة على الإنسان حين يتعذر عليه البقاء بحريته داخل وطنه، بل إن من لا يفعل ذلك ولا يهاجر من وطنه في تلك الظروف فهو آثم وظالم لنفسه، ويستحق العقاب من الله عز وجل: quot;إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًاquot;..
إن الإسلام يهدم صنمية الوطن، فكرامة الإنسان أولاً، والأرض كلها هي وطن الإنسانية جمعاء دون اعتبار للحدود السياسية المصطنعة، فإذا أهينت كرامة الإنسان في بلد ما وصودرت حريته، وصار استرداد هذه الحرية متعذراً في هذه البلد وجب عليه الهجرة إلى بقعة أخرى من الأرض يستطيع فيها العيش بكرامة..
وبذلك لا معنى لكل الشعارات الوطنية والقومية إذا لم تكن كرامة الإنسان مصونةً، ولا يوجد ما يبرر سفك دم الإنسان على مذبح الشعارات الكاذبة..
والله أعلى وأعلم..

يتبع...

[email protected]