يكبر لبنان ببطريرك في حجم البطريرك نصرالله صفير يزن كلّ كلمة يقولها بعيدا عن الابتذال والاضطرار الى التحدث يوميا في شؤون يفترض ان تكون من اختصاص صغار السياسيين وما شابه ذلك. البطريرك صفير بطريرك حقيقي اتخذ مواقف تاريخية في ظروف اقلّ ما يمكن ان توصف به انها صعبة ومعقدة حتى لا نقول مصيرية. عرف متى يتكلم وعرف متى يصمت. لم يضطر يوما الى تصحيح كلامه او اعطاء ايضاحات في اي شأن كان. رفض ان يتاجر به احد وحافظ على المقام البطريركي. حال دون ان تكون الكنيسة المارونية، عماد الكيان اللبناني، مطية لاحد. كان فوق السياسة والسياسيين. وضع اللبنة الاولى لـquot;ثورة الاستقلال الثانيquot; في العام 2005 ووقف باكرا ضد الظلم والظالمين والمتاجرين بالعرب والعروبة رافضا الخضوع لهم على الرغم من كلّ نوع من انواع الاغراءات.
كان البطريرك صفير على حقّ. لا يزال على حقّ. لا يزال يقول الكلمة الحقّ ولاشيء غير الكلمة الحقّ.لا يزال يمثل اللبناني الحر الذي يمتلك حدّا ادنى من الكرامة والفهم لما يدور في المنطقة ولدور المسيحيين في هذا الشرق. لم يدّع انه بطريرك كل اللبنانيين من مسيحيين ومسلمين. لم يحتج يوما الى ذلك. اللبنانيون الشرفاء حقّا من مسلمين ومسيحيين، اللبنانيون الذين يرفضون التبعية والسلاح الميليشيوي والمذهبي الذي يحتمي بشعارات من نوع quot;المقاومةquot; اعتبروه بطريركهم. اللبنانيون من كل الطوائف الذين رفضوا نظام الوصاية السوري باكرا اعتبروه بطريركهم. اللبنانيون الذين رفضوا دائما المتاجرة بالجنوب اللبناني واهله، وذلك منذ توقيع اتفاق القاهرة المشؤوم في العام 1969، اعتبروه بطريركهم.
لم يكن في حاجة الى تكرار مواقفه. كان يكتفي لدى مراجعته في شأن تصريح ما ادلى به بالرد المعهود:quot;قلنا ما قلناهquot;. كان يستطيع ذلك، لانّه كان يعرف معنى كلّ كلمة يقولها ووزن هذه الكلمة وابعاد كلّ موقف يتّخذه.
يمثّل البطريرك صفير الشجاعة والجرأة والاقدام. قاوم نظام الوصاية السوري والنظام الامني السوري- اللبناني واخيرا المحور الايراني- السوري الذي لا يزال يسعى الى جعل لبنان امتدادا له وتحويل بيروت الى ميناء ايراني على المتوسط . من يتابع مواقفه، بما في ذلك سكوته احيانا، يعرف انه يدرك تماما ان شراء املاك المسيحيين في الجبل والجنوب ليس تصرّفا بريئأ وان الهدف النهائي لمشروع ربط quot;المربعات الامنيةquot; ببعضها البعض تهميش المسيحيين اكثر وجعلهم اهل ذمة. المطلوب ان يكونوا مجرّد ذميين على استعداد لطلب الحماية من ديكتاتور في سوريا او حزب مذهبي مسلح تابع لايران في لبنان كي لا يكون مصيرهم كمصير مسيحيي العراق في اسوأ الاحوال او كمسيحيي سوريا في احسنها. هؤلاء قبلوا في معظمهم الرضوخ لنظام امني في مقابل المحافظة على حياتهم وارزاقهم!
البطريرك صفير بطريرك المقاومة اللبنانية. المقاومة التي وقفت في وجه نظام الوصاية. انها المقاومة التي تعرف معنى التوازنات الداخلية والاقليمية وتؤمن بثقافة الحياة. ولذلك وقف البطريرك صفير مع اتفاق الطائف وسعى في العام 1989 الى وضع حدّ لرعونة شخص مثل النائب المسيحي ميشال عون الذي تمترس في قصر بعبدا وقتذاك. سهّل ميشال عون برفضه الخروج من القصر الرئاسي عملية اغتيال الرئيس المنتحب الشهيد رينيه معوّض من جهة ودخول السوريين الى مقر رئاسة الجمهورية ووزارة الدفاع من جهة اخرى. اكثر من ذلك، سهّل تحويل الطائف من اتفاق يحظى بمظلة عربية ودولية الى اتفاق يرعاه النظام السوري على طريقته وبموجب شروطه. من قال ان ميشال عون يحسن اداء دور آخر غير دور الاداة او الاداة لدى الادوات؟
مار نصرالله صفير بطريرك المقاومة اللبنانية الصادقة التي عرفت في العام 2000 ان الانسحاب السوري من جنوب لبنان تنفيذا للقرار الرقم 425 الصادر عن مجلس الامن يعني ان ساعة خروج الجيش السوري من الاراضي اللبنانية دقّت فعلا. احتاج النظام السوري خمس سنوات كاملة واحتاج الى اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه كي يعي ان عليه الخروج عسكريا من لبنان... وانّ لا خيار آخر امامه، خصوصا بعدما نزل كل اللبنانيين الوطنيين، على راسهم اهل السنّة الى الشارع لمطالبته بالخروج!
انها المقاومة اللبنانية التي صنعت لقاء قرنة شهوان الذي جمع المسيحيين واكد انه قوة فاعلة في لبنان وان الوطن الصغير لا يزال القدوة في المنطقة وان quot;ثورة الارزquot; هي التي مهدّت للثورات العربية في السنتين 2010 و2011. لبنان لا يحتاج الى دروس من احد. المسيحيون في لبنان لا يحتاجون الى درس في الوطنية والعروبة من النظامين السوري والايراني او من اتباعهما. المسيحي اللبناني يعطي دروسا في الوطنية والعروبة الحضارية والحرية والديموقراطية والتعددية والعيش المشترك وليس العكس. المسيحي اللبناني يرفض ان يكون اداة او اداة لدى الادوات، كما حال ميشال عون ومن لفّ لفه من الحاقدين على كلّ ناجح في البلد. المسيحي اللبناني ليس مع حلف الاقليات ولا مع اي هلال من اي نوع كان باسم الطائفية والمذهبية. المسيحي اللبناني شريك في صنع تاريخ المنطقة ومستقبلها. ولذلك صنع البطريرك صفير المصالحة الدرزية- المسيحية في الجبل التي اسست لاستعادة قلب لبنان النابض بعضا من حيويته...
... في المقابل، يصغر لبنان عندما يتحول رأس الكنيسة المارونية الى مجرد حكواتي. آخر ما يحتاجه لبنان هو الى بطريرك حكواتي لا يعرف لماذا عليه الكلام على مدار الساعة ولماذا عليه تبرير السلاح المذهبي الايراني في لبنان او الدفاع عن الجرائم التي يرتكبها النظام السوري بحق شعبه المظلوم او الظهور في مظهر المحتاج الى مظلة quot;حزب اللهquot;. اي الى مظلة توفرها له ميليشيا تعتبر جزءا لا يتجزّأ من quot;الحرس الثوريquot; الايراني.
كان في استطاعة البطريرك- الحكواتي اعداد نفسه بطريقة افضل لمرحلة ما بعد استقالة البطريرك صفير. يفترض به ان يبدأ ذلك بقراءة متأنّية لنصّ القرار الرقم 1701 الصادر عن مجلس الامن. مثل هذه القراءة ضرورية في حال كان مطلوبا التأكد من انه لم يعد هناك دور لسلاح quot;حزب اللهquot; غير ارهاب اللبنانيين ونشر ثقافة الموت... وان كل ما يستطيع النظام السوري عمله من اجل اثبات حسن نياته تجاه لبنان واللبنانيين، والمسيحيين خصوصا، هو وقف تهريب السلاح الى الوطن الصغير وترسيم الحدود بين البلدين. انها مجرد بداية كي يعود هناك معنى لاي كلمة تصدر عن البطريرك وكي يكون ثمة وزن ما لكلامه!