قبل البدء بقراءة هذا الموضوع أقول للقارئ الذي ليس لديه نفسٌ طويلٌ في متابعة المقالات الجادة: ألا يواصل، فهذا موضوع بُذل فيه من الجهد النابع من معاناة الكاتب باعتباره من المنادين بوحدة العرب.. وشكراً.
* * *
للوصول إلى الحد الأدنى في تحقيق بعض المكتسبات في الوطن العربي، تعالت الأصوات مطالبة بإبرام إتفاقات إقتصادية بين الدول العربية ndash; أسوة بالسوق الأوروبية ndash; وذلك بعد أن تحطمت على صخرة الفشل أغلب الطموحات التي كانت تأمل في تحقيق إقامة شكل من أشكال الإتحاد أو الوحدة، وغدت تجربة الوحدة السورية المصرية التي تمت في عام (1958) ثم إنفصلت في عام (1961) أنموذجاً كثيراً ما يُستشهد به، لعدم تكرار تلك المحاولات الفاشلة.
وقد ترسخ هذا الإتجاه أكثر فأكثر بعد أن تكالبت النكبات الواحدة تلو الأخرى، فشهدت ساحات الوطن العربي أحداثاً مأساوية بدأت منذ كارثة (1967)، وأعقبتها تلك المجازر التي تعرضت لها فصائل المقاومة الفلسطينية في أكثر من بلد، بالحرب المدمرة في لبنان وإحتلالها من قبل إسرائيل، وحربي الخليج الأولى والثانية، والدماء التي أُريقت في مذابح الأشقاء باليمن.. الخ.. كل هذا في ناحية، والإعتداءات الإسرائيلية التي لم تنقطع في ناحية أخرى.. ونعيش الآن أحداثاً دامية في سورية.. ناهيك عما يجري من مذابح تتفاوت في شدتها هنا وهناك ما بين ليبيا، واليمن، والسودان، وغيرها من أماكن أخرى.

* * *
bull;أحداث مأساوية مكثفة كهذه وقعت في عقود قليلة ومتقاربة كان وقعها محبطاً أشد الاحباط لما فيها من قسوة على نفوس الحالمين بالوحدة العربية، فانقلب يقينهم بتحقيقها إلى كفرٍ بها.
وأرجو ألا أتهم بالإصابة بـ فوبيا نظرية المؤامرة عندما أقول: إن هناك جهات عديدة تريد أن تحمي مصالحها في عدم إقامة شكل من أشكال الإتحاد أو الوحدة بين الدول العربية، وهذه الجهات لم تكن بمعزلٍ عما أوصل الإنسان العربي إلى هذه الحالة من الكفر بالإتحاد أو الوحدة التي كان ينشدها.. فاستسلم الانسان، وصار ينادي بذلك الحد الأدنى من أشكال التعاون بين الأشقاء في إقامة مشاريع إقتصادية بعد أن أُوصل إلى قناعة: أن العالم اليوم أصبح يقوم على المصالح المتبادلة.
* * *
bull;وفي يقيني أن حتى هذه الدعوات لن يُكتب لها النجاح، وستنتهي إلى الفشل كما إنتهت الطموحات بالإتحاد أو الوحدة، لأن من ترتبط مصالحهم بعد تحقيق هذا الحد الدنى من التعاون الإقتصادي وتبادل المصالح، سيترصدون ذلك، ويعملون دون إحداثه تحت ذرائع شتى، أهمها عدم الإخلال بالتوازن المطلوب، لأن العرب يقيمون على أرضٍ ممتدة من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي ويملكون أعظم الأنهار، فالنيل يخترق السودان ومصر، ونهري دجلة والفرات في العراق.. والأراضي العربية تحتوي على الصحراء الكبرى، وصحراء الجزيرة العربية، وكما هو معروف فإنها تحتوي أيضاً على ما يتجاوز الـ (70%) من إحتياطي النفط بالعالم، وكذلك تحتوي الأراضي العربية على الفوسفات، وهي مادة ثمينة لها أهمية كبرى في الصناعات، ويمكن أن يُصّنع منها أجود المخصبات، وتعد المغرب والجزائر وتونس ومصر والأردن، من أهم البلدان المصدرة للفوسفات في العالم، وهناك رواسب الحديد الموجودة في موريتانيا والجزائر ومصر، وهذه لها أهمية في تطوير الصناعات الثقيلة، وكذلك يوجد في الوطن العربي أراضٍ خصبة صالحة للزراعة في كل من السودان والعراق، وسوريا ومصر والمغرب العربي بكل دوله.. وتعتبر دلتا نهر النيل من أخصب الأراضي الزراعية وأكثرها إنتاجاً في العالم.. كما أن الموقع الجغرافي للوطن العربي يسهل لأهله الإتصال في جميع الاتجاهات، والتعامل مع جميع الشعوب تجارياً وإقتصادياً وثقافياً، فالطيران من أوروبا وأمريكا إلى قارتي آسيا وأفريقيا، كثيراً ما يمر من منافذ المطارات العربية، ومن خلال أجوائها، كما أن قناة السويس قد هيأت أقصر طريق بحري للوصول من أمريكا وأوروبا إلى آسيا واستراليا، والعكس.
* * *
bull;تلك المعلومات المكثفة عن أهمية الوطن العربي بإعتباره منطقة إقتصادية وإستراتيجية هامة، إجتزأتها من وثيقة في المتحف البريطاني، تضمنها ملف التوازنات التي تخدم المصالح البريطانية.
وإذا كان البعض ينسب إلى هنري كيسنجر أنه صاحب فكرة إقامة الإستقرار في العالم على أساس من التوازن الدولي، فهناك من يقول: إن كيسنجر ليس سوى تلميذاً لـ ماترنيخ الذي حقق السلام مع نابليون عن طريق التوازن الدولي.
لكن قبل ماترنيخ وكيسنجر، فإن السياسة البريطانية التي كانت سبباً مباشراً في تمزيق العرب وشرذمتهم، هي أول من استنَّ مبدأ إقامة التوازن الدولي، بما يخدم مصالحها لأن نمو التكتلات وإتحادها في المناطق الحساسة وخاصةً الوطن العربي يهدد مصالح الكثير من الدول وفي مقدمتها بريطانيا، ولبريطانيا تاريخ عريق بإستخدام الأساليب الميكيافيلية لتحقيق مآربها، فـ نابليون لم يطلب معاداة إنجلترا، وهتلر لم يطلب معاداة إنجلترا.. وحين نقرأ تاريخ أي حرب نجد طرفاً من المحاربين يسمى (الحلفاء) فلا بد أن نجد أن إنجلترا قد إحتلت موقعها البارز بين أولئك الحلفاء.. فعندما كانت الإمبراطورية العثمانية توشك أن تهزم روسيا القيصرية، كانت إنكلترا تصنع تحالفاً مع سائر القوى الأوروبية ليقف مع روسيا ضد الإمبراطورية العثمانية.
وعندما أوشك محمد علي الكبير الزاحف من مصر إلى الشام أن يهدد الإمبراطورية العثمانية، جمعت إنجلترا تحالفاً آخر ضمت إليه روسيا ضد محمد علي، كل هذه المواقف المتناقضة تحدث بذريعة الإبقاء على التوازن بين محمد علي والخليفة العثماني.
كما جمعت إنجلترا كل من روسيا والنمسا وألمانيا في تحالف لمواجهة نابليون بذريعة التوازن!!
وتحالفت كذلك في وجه غليوم الثاني سنة (1914)، ثم في وجه هتلر سنة
(1939)، فجمعت روسيا وفرنسا وأمريكا وسائر دول أوروبا.. فإنجلترا لم تحارب سنة (1939) لأن هتلر هاجم بولندا، بل لأنه بعد أن تمكن من النمسا وتشيكوسلوفاكيا إلى جانب بولندا، صار السكوت عنه خطراً يهدد بتحويل المانيا إلى قوة كبرى تهدد التوازن، وبالتالي يخل بمصالحها.
وعادة القوى الكبرى في أي عصرٍ من العصور أن تكون هي المستفيدة دائماً من الوضع الدولي القائم على التوازنات التي تخدم مصالحها.
bull;نستخلص من ذلك: أن هناك حقيقتان جديدتان قديمتان من حقائق السياسة الدولية:
الأولى: مقاومة ظهور أي قوة جديدة من قلب القوى القائمة، لأنها تربك التوازن القائم وتقلل من فعالية القوى القديمة.
الثانية: لابد من التقسيم والإبقاء على عوامل الانقسام باعتبارها أهم الأسلحة التي تستخدم لتحقيق هذا الغرض في كل زمان ومكان.
bull;فإذا كانت هذه القواعد الأساسية في لعبة السياسة القائمة على ذرائع التوازنات، والتي حالت في السابق دون إقامة أي شكل من أشكال الاتحاد أوالوحدة بين العرب، فكيف تسمح الآن للداعين لإقامة تبادل مصالح إقتصادية من شأنها إذا ما وجهت توجيهاً صحيحاً أن تخلق نواة لقوة عربية قد تجعلها تتخطى تلك المعوقات التي حالت دون لحمتها تحت أي شكلٍ من الأشكال.
bull;ولذا فلابد من الإستمرار على الوضع الراهن المشحون بالأجواء المتوترة، لتبقى المنطقة ndash; بحجة إقامة التوازنات ndash; مكبلة بالمشاكل والمعوقات التي تحول دون إقامة حتى ذلك الحد الأدنى في إستغلال ثروات الوطن لبناء الانسان العربي ونهوضه من كبوته.
* * *
bull;وليست إنجلترا وحدها ما يعنيها واقع العرب الراهن.. وإنما أصبحت أمريكا هي المعنية بهذا الوضع بالدرجة الأولى، وكذلك روسيا، فقيام أي تكتل عربي سياسياً كان أو إقتصادياً، لا يلقى قبولاً أو إستحساناً لدى هاتين الدولتين، فكما ذكرنا من الوثيقة البريطانية.. فهذه الرقعة ليست في أي مكان من الأرض فوق هذا الكوكب، وهي ليست في جنوب أمريكا أو في القارة الأسترالية.. إنها في مركز القلب في العالم.. وهي تشرف على الخليج والمحيط الهندي، وتسيطر على البحر الأحمر بأكمله، وتتقاسم نصف شواطئ البحر الأبيض المتوسط، وتطل شوطئه على المحيط الأطلنطي، ناهيك أنها تحتوي على أهم سلعة إستراتيجية في العالم وهي النفط.. فالتعامل معها كمنطقة متشرذمة منهوكة بسبب الحروب، أفضل بكثير فيما لو كان التعامل معها وهي بصحة وعافية نتيجة لتمتعها بريع إقتصادياتها حتى وإن كان ذلك على شكل تبادل منافع إقتصادي إستجابة لتصورات أولئك الذين يطلقون هذه الدعوات.
bull;ومع تسليمنا بحسن نوايا من يسعون إلى إقامة ترابط إقتصادي بين الدول العربية، إلا أننا نقول لهم: ضعوا في إعتباركم أن هناك مصالح تحول دون تمتعكم بثرواتكم بسبب موقعكم الجغرافي ومستقبلكم المفتوح، وتذكروا دائماً أنكم أشقاء ويربط ما بينكم ماهو أكثر من الثروة وتبادل المنافع، فالأرض والتاريخ والدين واللغة هي نقاط التماس الثابتة والمؤكدة لكينونتكم، فالمطلوب منكم جميعاً البحث عن صيغة لتأكيد تلك الكينونة، وأن يتم الانتباه لما سيحدث في المنطقة تحت ذريعة التوازن.. وما الصراع الايراني الدولي العربي إلا مأزق جديد يضاف الى تلك المآزق التي تجرعناها بحجة التوازنات.. فلنكن على حذر!!..
* * *