لا حاجة للدخول في تفاصيل الوجود الكردي في سوريا، وجزئيات مكانه وزمانه وما حولهما من اجتماع وثقافة وأحزاب وسياسة. هؤلاء ليسوا quot;مهاجرينquot; أو quot;أجانب طارئينquot; في سوريا، كما وصفهم أستاذ علم الإجتماع السياسي، رئيس quot;المجلس الوطني الأسبقquot; د. برهان غليون، ذات سياسةٍ طارئة، وإنما هم مواطنون كرد سوريون، من سوريا إلى سوريا. فالكرد السوريون الذين يتجاوز تعدادهم ال3 ملايين نسمة، أي ما يعادل 15% من مجموع سكان سوريا البالغ تعداده 23 مليون نسمة، يشكلون القومية الثانية بعد العرب في سوريا. هؤلاء، رغم تمسكهم بquot;سوريتهمquot; بإعتبارها quot;وطنيتهمquot;، إلا أنهم يشاركون أكرادهم المشتتين في جهات الله الأخرى الحلم الكردي المشترك في تحقيق quot;الدولة الكرديةquot; في quot;كردستان الكبرىquot; بإعتبارها quot;وطناً نهائياًquot; يجمعهم. quot;كردستان سورياquot;، بحسب التوصيف الكردي، هي واحدة من أربع quot;كردستاناتquot;، تقاسمتها أربع دول عبر التاريخ، وهي تركيا وإيران والعراق وسوريا.

حاضر الكرد السوريين وماضيهم في ظلّ ديكتاتورية الأسد وشوفينيته الإستثنائية التي مورست بحقهم، على مدى أربعة عقودٍ من الإقصاء والإلغاء والمحو، معروفٌ للجميع. هذه الشوفينية الإستثنائية لم تكتفِ بمنع الكرد السوريين من ممارسة قوميتهم كأكراد، وإنما منعتهم أيضاً من ممارستهم لوطنيتهم كسوريين، وذلك عبر استصدار مراسيم استثنائية جائرة، مثل quot;الإحصاء الإستثنائيquot; عام 1962 الذي حرّم بموجبه أكثر من 300 ألف كردي من حقوق المواطنة السورية، وquot;مشروع الحزام العربيquot; الذي خطط له عام 1962 ودخل حيز التنفيذ عام 1974، حيث تمّ بموجبه استقدام عشرات الآلاف من المواطنين العرب ممّن يسمون بquot;العرب المغمورينquot; من محافظتي الرقة وحلب إلى محافظة الحسكة، ووزعوا على حوالي 40 مستوطنة نموذجية (على شاكلة المستوطنات الإسرائيلية)، حيث منحتهم الدولة أخصب الأراضي التي استولت عليها، على طول الشريط الحدودي مع تركيا بطول 350 كم وعمق أكثر من 20 كم. هذا غيض من فيض قوانين ومراسيم شوفينية كثيرة لا مجال لذكرها.

لكنّ الخوف، بل كلّ الخوف، هو أن لا تنته quot;المشكلة الكرديةquot; بإعتبارها مشكلةً سورية بإنتهاء ديكتاتورية آل الأسد الراهنة، سيما وأنّ quot;البديل المفترضquot; القادم، لا يزال ينظر إلى قضية الأكراد السوريين، بإعتبارها قضية quot;مشكوك في أمرهاquot; أو لنقل في quot;ولائهاquot; لسوريا وعروبتها.

الخوف، هو أن تبقى القضية الكردية في القادم من سوريا قضيةً مؤجّلة، بدون حلٍّ، إلى أجلّ غير مسمى. هذا ما تقوله على الأقل quot;انسحاباتquot; الأحزاب الكردية ومجالسها من مؤتمرات مجالس المعارضات السورية وائتلافاتها، هذا ناهيك عن تصريحات مسؤولي quot;الدرجة الأولىquot; لquot;المعارضة العربيةquot;، التي أقلّ ما يمكن أن يقال فيها أنها quot;فوقيةquot;، quot;استعلائيةquot;، لا ترى في الآخر إلا من يدور تابعاً في فلكها، أو أقلية ليس لها إلا الجلوس في مؤخرة الأكثرية.

المعارضة السورية بنسخها العربية المختلفة، لا سيما تلك التي من المفترض بها أن تكون quot;نظاماً بديلاًquot; قادماً للحكم في سوريا، والممثلة الآن تحديداً في quot;الإئتلاف الوطني السوريquot;، بإعتباره صورة مكبّرة عن quot;المجلس الوطني السوريquot;، هذه المعارضة لم تقدّم حتى الآن رؤية واضحة لحلّ القضية الكردية، كقضية خاصة، في إطار القضية السورية، كقضية أكبر وأشمل وأعّم. هذه المعارضة التي تشتغل متنقلةً من عاصمة إلى أخرى لصناعة النظام القادم quot;البديلquot;، بمختلف تياراتها الإسلامية والقومية والليبرالية، لا تزال تنظر إلى هذه القضية، بعيون لا تخلو من الشك والريبة، ليس في الأكراد بإعتبارهم شركاء لهم في الوطن السوري، أو في كونهم جزءاً من النسيج الوطني السوري فحسب، وإنما بكلّ قضيتهم، بإعتبارها quot;قضية شعبquot;، كما يراها أكرادها.

ربما يتفق السوريون بغالبية مكوناته القومية والإثنية والدينية، على هدف quot;إسقاط النظامquot;، لكنهم لا يزالوان مختلفين على شكل سوريا ما بعد النظام.
واحدة من أكثر النقاط خلافية بين المعارضة العربية والكردية، هو الخلاف على جوهر القضية الكردية نفسها. ففي الوقت الذي ينظر الأكراد إلى قضيتهم، بأنها quot;قضية شعب يعيش على أرضه التاريخيةquot;، له الحق في تقرير مصيره بنفسه في إطار سوريا واحدة وموحدة، ويريدون لهذه الأخيرة أن تكون quot;جمهوريةً سوريةquot;، يكون فيها للأكراد حق quot;الإدارة الذاتيةquot; في quot;إقليمهمquot;، ما يعني المطالبة بquot;فيدرالية كردية سوريةquot;، على طريقة quot;فيدرالية كردستان العراقquot;، نجد المعارضة العربية تؤجل الحديث في أية تفاصيل تتعلق بالقضية الكردية، إلى ما بعد إسقاط النظام. علماً أن كثيرين من أقطاب هذه المعارضة، بمختلف تيارارتها، أعلنت صراحةً موقفها الرافض لمنح الأكراد السوريين، شيء إسمه quot;حكم ذاتيquot; أو quot;فيدراليةquot;، لا بل ذهب البعض الأكثر من هذه المعارضة أبعد إلى القول صراحةً، بأن quot;لا وجود لشيء في سوريا إسمه كردستانquot; (مثل د. برهان غليون، وعلي صدرالدين، محمد رياض الشقفة، حسن عبدالعظيم، هيثم المالح وآخرين). البعض من هؤلاء يستكثر على الأكراد حتى أن يكونوا quot;شعباًquot; في سوريا.

آخر تصريحات رئيس quot;الإئتلاف الوطني السوريquot; أحمد معاذ الخطيب تقول صراحةً أن المطالب الكردية خصوصاً في ما يتعلق بquot;الإعتراف بالشعب الكردي كشعب يعيش على أرضه دستورياًquot; وquot;تسمية سوريا المستقبلية بالجمهورية السورية بدلاً من الجمهورية العربية السوريةquot;، quot;ستؤجل إلى حين انتخاب برلمان حرّquot;، على حدّ تعبيره، ما يعني تأجيل الأكراد شعباً وقضية إلى ما بعد انتخاب quot;سوريا حرّةquot;، التي يّخشى أن تكون سوريا لحرية الأكثرية ضد حرية الأقلية.

تأجيل الأكراد وقضيتهم إلى ما بعد quot;برلمان حرّquot;، يعني ضمناً أنّ هذا quot;البرلمان الحرّquot; القادم، الذي سيكون quot;برلماناً للأكثرية السنيةquot; (والإخوانية على الأغلب)، كما قالت تشكيلتي quot;المجلس الوطني السوريquot; سابقاً، وquot;الإئتلاف الوطني السوريquot; لاحقاً، هو الذي سيقرر ما يجب على الأقليات أن يكونوه في سوريا القادمة، من مصيرٍ وحقوق وواجبات.

تأجلّ الأكراد السوريون، وتأجلّت قضيتهم عقوداً في ظلّ ديكتاتورية الأسد كثيراً، عبر مراسيم استثنائية كثيرة، لكنّ أخشى ما أخشاه، هو أن تستغرق القضية الكردية في القادم من سوريا ديكتاتورية أخرى، وأن يؤجل فيها أكرادها، كquot;شعب مؤجلquot;، في quot;سوريا مؤجلةquot;، إلى وطنٍ غير مسمى.

[email protected]