تبدو العلاقة بين بغداد وأربيل وكأنها وصلت إلى طريق مسدود، في ظل عاملين أساسيين. الأول: تفاقم القضايا الخلافية بين الجانبين إلى درجة ان الحوار لم يعد يوحي بالمزيد من الأمل نظرا للتناقض الكبير في السياسات والمصالح والمواقف. الثاني : له علاقة بالمعركة الشخصية بين نوري المالكي ومسعود البارزاني والتي باتت أشبه بمعركة كسر الإرادات منذ ان تصدى لقاء أربيل لسحب الثقة عن المالكي في البرلمان. واللافت في كل ما يجري هو اللهجة الندية لكل طرف والتي بسببها بات من يتحدث عن حرب وشيكة بين الجانبين ، أو على الأقل احتمال ان يشن المالكي حربا ضد إقليم كردستان في ظل المؤشرات الكثيرة التي توحي بذلك، وفي المقدمة منها اجراءاته التصعيدية المتتالية وتصريحاته النارية وتهديداته المتواصلة ونزعته العسكرية من خلال عقد المزيد من صفقات الأسلحة.
في الواقع، مع تفاقم الأزمة بين الجانبين على وقع الخلافات الداخلية الكثيرة، كالفيدرالية والميزانية والبيشمركة والمناطق المتنازع عليها والنفط وطرق تصديره .. الخ، لا يخفى على المراقب دور العامل الإقليمي في توسيع شقة هذه الخلافات ودفع الأمور نحو الصدام، فنوري المالكي يتبع سياسة إيرانية سواء تجاه الداخل العراقي أو تجاه مجمل قضايا المنطقة ولاسيما الأزمة السورية، فيما البارزاني يجد نفسه خارج هذا المحور وبات حليفا لتركيا التي تبدي المزيد من الانفتاح على إقليم كردستان، طبعا لمصالحها وتطلعاتها الإقليمية، كما هو حال إيران. السؤال الأساسي الذي يطرح نفسه هنا،هو لماذا وصلت الأمور إلى هذه النقطة المصيرية في العلاقة بين الجانبين ؟.
في الواقع، ثمة أسباب كثيرة وراء ذلك، لعل أهمها :
1- وصول سياسة ترحيل المشكلات التي اتبعها المالكي إلى نقطة مسدودة، فهي من جهة أدت إلى تراكم مشكلات إضافية مع إقليم كردستان ولاسيما فيما يتعلق بالمادة 140 وقانون النفط، ومن جهة ثانية إلى فقدان الثقة بين حلفاء الأمس، أي التحالف الشيعي ndash; الكردستاني إلى درجة ان البعض من المنتمين إلى هذا التحالف وصفوه بالأكذوبة.
2- تناقض الأهداف السياسية، فالمالكي بات يتبع سياسة مركزية قوية، وقد نجح إلى حد كبير في ربط معظم ان لم نقل جميع السلطات بشخصه خاصة بعد ان نجح في حسم صراعه مع كل من علاوي والهاشمي لصالحه، وقد أدى هذا النزوع المركزي لديه إلى وصفه بالديكتاتور الجديد. في المقابل فان إقليم كردستان يتبع سياسة أقرب إلى الاستقلال وتحقيق المزيد من الخصوصية الكردية في الأمن والاقتصاد والسياسة والثقافة.... وهو ما يشكل عقبة حقيقية في وجه تطلعات المالكي الذي يريد تحجيم دور الإقليم الكردي لصالح سلطة المركز، إلى درجة ان الصراع الأساسي في العراق بات يتعلق بمحور بغداد - أربيل. 3- اختلاف الرؤية للقضايا الإقليمية وتحديدا الأزمة السورية وتداعياتها، فالمالكي وبحكم علاقته العضوية بإيران يريد عراق مكمل لإيران وسوريا ، كوحدة سياسية استراتيجية لها نظرة محددة تجاه المشهد السياسي في المنطقة، فيما البارزاني ينطلق في سياسته من أولوية قومية كردية تنبثق من الحفاظ على المكتسبات التي حققها إقليم كردستان وربما يطمح في سره إلى إقامة دولة كردية إذا ما توفرت العوامل المناسبة، وهو هنا ينطلق في ذلك من علاقته المتينة مع الولايات المتحدة و المزيد من الانفتاح على تركيا.
حقيقية ، لا يمكن النظر إلى تصاعد حدة الصراع بين بغداد واربيل بعيدا عن مسار الأزمة السورية وتداعياتها المحتملة، وموقف كل طرف من هذه الأزمة وحساباته المستقبلية. المالكي الذي يقف إلى جانب النظام السوري يرى ان انهيار الأخير يشكل خطرا كبيرا على مصيره ومصير مكونه السياسي في ظل اعتقاده بأن المشهد السياسي المقبل في سوريا سيشجع المكونات المهمشة في العراق ويدفعها إلى التحرك من أجل تغيير المشهد السياسي الحاكم في بغداد وربما وضع نهاية لحكمة، في حين يرى أكراد العراق ان انهيار النظام السوري سيؤدي إلى خلق فرصة أمام أكراد سوريا لنيل حقوقهم من خلال الاعتراف بهم كمكون، وربما في نيلهم شكل من اشكال الحكم الذاتي، بما يقوي كل ذلك من النزعة القومية الكردية في عموم المنطقة حيث التطلع إلى إقامة دولة كردية هو في صميم الحلم الكردي.
المالكي وتطلعا إلى تعزيز أوراقه وموقفه، يسعى إلى تحقيق هدفين. الأول: تعزيز مركزية الحكم خلافا للدستور الذي ينص على فيدرالية الحكم في العراق الاتحادي، وهو هنا يتذرع بالدستور، فيما المتابع سيرى انه لا يريد من تطبيق الدستور سوى البنود التي تعزز من سلطاته في حين يتجاهل البنود الدستورية الأخرى، ولاسيما المادة 140، وهذه الطريقة الانتقائية باتت تثير المزيد من الشكوك عن حديثه بشأن تطبيق الدستور . الثاني : محاولة كسب المكون العربي السني وتجيشه لصالح صراع قومي عربي ndash; كردي، ولعل ما يعطي مصداقية لتوجه المالكي هذا هو الخطاب الاستقلالي للقيادة الكردية بزعامة مسعود البارزاني التي لم تعد تخفي تطلعها إلى إقامة دولة كردية من جهة، ومن جهة ثانية سلوك بعض القيادات الكردية في كركوك وممارساتها على الأرض تجاه العرب، وهو أمر عرف المالكي كيف يستغله ويدفع به لحشد العديد من القيادات السنية التي تضررت من سياسته سابقا إلى الوقوف معه في معركته الحالية مع قيادة إقليم كردستان . قيادة قوات دجلة التي شكلها المالكي بذريعة تطورات الأزمة السورية لم تكن سوى الخطوة العملية الأولى على طريق الصدام مع إقليم كردستان، والقيادة الكردية المسكونة بهواجس الخوف منذ القدم تعرف ان الظروف تغيرت ولذلك تحركت من منطلق القوة فحشدت هي الأخرى قواتها، ورغم ان الطرفين شكلا لجان مشتركة لبحث هذه الخلافات وإمكانية التوصل إلى حل للأزمة الا انه من الواضح أن هذه اللجان عاجزة عن إيجاد حل حقيقي للأزمة في ظل تناقض السياسات والأهداف والارتباطات وتمسك كل طرف بمواقفه وإصرار المالكي على فرض سلطته المركزية. واقع ربما يدفع بالمالكي إلى شن الحرب ضد إقليم كردستان بغية إعادة ترسيم حدود إقليم كردستان ، وربما يدفع بالبارزاني نفسه إلى اعلان الاستقلال في ظل القناعة باستحالة استمرار الشراكة مع المالكي وغياب بديل للأخير في بغداد.