كشف الربيع العربي عن الكثير من الأساطير التي كانت تعشش في عقول البعض حيال بعض الظواهر. فقد كانت بداية الربيع العربي بمثابة النهاية الرمزية لأسطورة القاعدة بتزامن أحداثه مع مقتل قائدها أسامة بن لا دن.إذ خطفت أحداث الربيع العربي الأضواء من القاعدة ومن بعض زعمائها المفتونين بالظهور الإعلامي كأيمن الظواهري الذي أدرك أخيرا أن دعواته وخطاباته المنطلقة من كهوف تورا بورا لا تعني شيئا للجماهير العربية التي أصبحت بمثابة المالك الحقيقي فيما بدت القاعدة مثل اللص المدعى لحقوق الجماهير أثناء غيابها؛ حتى إذا حضرت تلك الجماهير في المشهد الثوري بانفجار الربيع العربي في تونس 2001م انكشف دور اللص أمام الجميع.
كذلك كانت أسطورة لبنان (الديمقراطي) تتهاوى أيضا وتتعرى ليكتشف الجميع معنى أن يكون التحول الديمقراطي أكثر بكثير من تلك الحال اللبنانية المسدودة بتوافقات طائفية نقيضة للديمقراطية.
والحال أنه كلما ابتعد الربيع العربي عن محطات الثورة السلمية ــ كما في كل من تونس ومصر ــ واقترب من المحطات الدموية ــ كما في سوريا وليبيا ــ كلما كشف عن مواقف متناقضة للمثقفين العرب، فضلا عن الدول التي تدعي الممانعة كإيران التي ابتهجت للربيع العربي في مصر وتونس، وابتأست له حينما جاء إلى حليفتها سوريا، فكشفت عن وجهها الكالح وقناعها الدموي في الاصطفاف مع نظام القمع والجريمة الأسدي، وتبعها في ذلك حزب الله اللبناني بصفاقة أهانت سمعته وعبرت عن تناقض كبير مع المبادئ التي طالما تشدق بها في الدفاع عن الحرية والعدالة.
بيد أن التحولات والمنعطفات والعنف والزمن الطويل الذي انفجرت فيه الثورة السورية، وضع الكثير من المثقفين العرب أمام تناقضات بدا من الصعب التستر عليها، سواء من خلال مواقفهم التي ظهر واضحا أنها رهينة لدوائر وقوى إما مرتبطة بالنظام السوري أو ببعض حلفائه المحليين، كحزب الله، أو الإقليميين كإيران، فيما كانت بعض برامج الفضائيات العربية مسرحا لمثل هذه المواقف وكان آخرها تلك الفضيحة التي كشف عنها موقف الكاتب السوري نبيل فياض ودفاعه الرخيص عن النظام الأسدي المجرم في برنامج الاتجاه المعاكس يوم الثلاثاء الماضي.
فهذا الكاتب الذي طالما ظل يدعي العقلانية والحداثة والاستنارة عبر الكثير من كتاباته ومؤلفاته بدا في موقفه المؤيد للنظام السوري المجرم، في حالة (شبيح) ثقافي أكثر منه كاتبا أو مثقفا.
ويبدو أن الأنظمة المجرمة كالنظام الأسدي وحلفاؤها في مثل هذه الحالات الحرجة لن تترك هامشا ولو ضيقا للمثقفين الشبيحة، لكي تضعهم في تناقض أصلي ينسف كل مصداقية لهم. فاللعب في الزمن الضائع مع تلك الأنظمة لا يسمح لها سوى بتعرية أمثال أولئك المثقفين ليجدوا أنفسهم في حالة فضيحة غير محتملة ولا تقبل التأويل في تناقضاتهم.
فحين يحتج نبيل فياض بالعلمانية دفاعا عن النظام الأسدي المجرم، كم سيكون ذلك مضحكا ومثيرا للشفقة والاحتقار، دون أن يدري صاحبنا أن ذلك التناقض الفاضح الذي يقع فيه ؛ إنما هو حالة من التماهي مع الذات ظل يتمثل معها ولاءً سريا للنظام حتى اضطر للكشف عنه بفعل إكراهات لا تقبل تأجيلا من النظام، ولا تأويلا لدى المشاهدين ؛ فصاحبها وحده هو من يعلم أنه بذلك فقط يكشف عن رأس جبل الجليد من ذلك المستنقع القذر الذي تمرغ فيه.
ان انفجار تناقضات الربيع العربي في وجه المثقفين، دل تماما على مأزق أخلاقي كبير لدى أولئك المثقفين. وإذا كانت شاشات التلفزة وطبيعة الخطاب الإعلامي المنتج والمعد سلفا في برامج القنوات العربية قبل الربيع العربي، قد أوحى للمشاهدين العرب بحيادية ونزاهة بعض الإعلاميين المرضى بإدمان وتقمص أدوار قومية وعروبية أكبر منهم بكثير ؛ فإن التناقضات التي كشف عنها الربيع العربي ــ لاسيما الثورة السورية العظيمة ــ وضعتهم أمام حالة من الانكشاف والفضيحة بلغت حدا جعل بعضهم يصطف إعلاميا في ركاب محور(الممانعة) الأسدي الطائفي والإيراني عبر قناة معروفة تزعم في شعارها أنها تنقل (الواقع كما هو) لتصبح بذلك من (الميادين) الإعلامية للنظام الأسدي وحزب الله وإيران في مواجهة الثورة بقيادة إعلامي سابق من قناة الجزيرة ظل يهجو الربيع العربي بأنه ليس له علاقة بالثورات لأن الثورات تحتاج إلى مقدمات نظرية، وهذه ينتجها فلاسفة، ولا فلاسفة لهذا الربيع إلا (عزمي بشارة) كما ذهب إلى ذلك ــ متهكما ــ في مقال مشهور له بموقع (الواشنطوني العربي)، دون أن يدري ذلك الإعلامي التائه أن ثورات الربيع العربي إنما هي استحقاق متأخر للانتفاض في وجه نظام الاستبداد العربي الذي هو أسوأ بكثير من الديكتاتورية، ولهذا كانت أكلافه جسيمة وتصفيته عسيرة.
أما صديقنا الشاعر (غسان) الآخر الذي صرح لنا باعتداد ذات يوم في مقهى بيروتي بأنه (ملحد) فهاهو اليوم يدافع عبر شاشات (العربية) و(الجزيرة) عن النظام الأسدي المجرم، وعن حزب الله وحسن نصر الله ليكشف عن وجه طائفي بغيض طالما حسبناه زمنا ما، شاعرا حداثيا ومتحررا. ؟!
لقد بدا الفرز واضحا، ولا يمكن بعد اليوم التلطي وراء مواقف هشة ومتهافتة لا تنم إلا عن بؤس آيدلوجي وبلاغة لفظية ضارة. فليس من الشجاعة والعقل في شيء أن يتحجج البعض بنتائج أفعال النظام التي أفضت إلى الوضع الحالي ليخفي موقفه الأخلاقي ضد نظام فاق قتله وتدميره ووحشيته في حق الشعب حتى الخيال.
وهكذا بمثل هذه البلاغة الآيدلوجية الضارة وقع تشويش كبير في أذهان الناس وأنصاف المثقفين ممن يتعثر بهم المرء في المقاهي والمحافل العامة ؛ بأن ما يحدث في هذه المنطقة إنما هو مؤامرة لضرب استقرارها وفتنة من أجل الوقيعة بين المجتمعات والطوائف لتدمير النسيج الاجتماعي، فيما تدل كل الدلائل على أن السرطان الحقيقي الذي يفتك بهذه المنطقة إنما هو هذه الأنظمة الاستبدادية المتخلفة التي قمعت شعوبها تحت الجهل والفقر والمرض والعصبيات الطائفية والقبلية ؛ حتى إذا ما أرادات هذه الشعوب حقها الطبيعي في الحرية والعدالة والمساواة قامت بتدميرها وقتلها بوحشية وعنف كما يفعل هذا النظام المجنون في سوريا وطاغيته المعتوه.
[email protected]