مدينة نيويورك تضع زائرها في حيرة من أمره!!.. فالخيارات أمامه كثيرة وواسعة جداً، خاصةً لواحد مثلي يهتم بفن المسرح والسينما والاوبرا والفنون التشكيلية والموسيقى الكلاسيكية ومعارض الكتب، الى غير ذلك.. ولعله من المناسب أن أوافي قُرائي ببعض ما جادت به القريحة من متابعة تلك النشاطات في هذه المدينة.. ومن حُسن المصادفة أن يشاركني بنفس الاهتمامات الصديق عثمان العمير، الذي لا يمضي ليلة في نيويورك إلا ويشاهد عملاً أوبرالياً، أو مسرحية، أو حضور أمسية موسيقية كلاسيكية، وقد حضرت معه في الأسابيع الماضية عدة أعمال منها: أوبرا عايدة لفيردي، وكذلك أوبرا حصان طروادة ـ التي استمر عرضها خمس ساعات ـ.. ثم أمسية لموزارت، حيث كانت دون جوفاني وهي إحدى روائع موزارت.. وما دمنا أمام موزارت لنخرج قليلاً من الكتابة الاعتيادية في شؤون الهم السياسي، لنأتي على سيرة هذا الفنان الانسان، وهي لا تخلو من عجائب ومصاعب، لعلي في هذه السطور أُسلط بصيصاً من الضوء على جزء من حياة موزارت.
* * *
عاد الأب من عمله في المساء، ليجد طفله الذي لم يبلغ السادسة من عمره، ممسكاً بالقلم، ويخط العلامات الموسيقية على ورقة ملطخة بالحبر، فيصيح فيه:quot;ما هذا؟!.. إنك تلطخ يديك والورقة بالحبر، بدلاً من مراجعة دروس البيانو!!quot;، فيجيبه:quot;لقد انتهيت يا أبي من درس البيانو، وكتبت هذه السوناتا!!quot;، فيتمعن الأب بالورقة، ثم يسأل ابنه بعد أن أخذته الدهشة مما رأى:quot;أحقاً أنت الذي وضعت هذه العلامات الموسيقية؟!..، أم أنك نقلتها من إحدى كراسات (باخ)؟!quot;،
فيقول الطفل: quot;كلا يا أبتي، أنا كتبت هذه السوناتا!!quot;، فيطير الأب فرحاً، ويطلب من ابنه أن يقوم بعزف ما كتبه على آلة البيانو، والذي أثار دهشة الأب أكثر فأكثر، أن طفله كان يعزف مرتجلاً، بينما هو يقوم بمتابعة نوتة العلامات الموسيقية!!
***
بزوغ عبقري!!
كان أبوه موسيقياً فقيراً في فرقة كنيسة فيينا في منتصف القرن الثامن عشر، ولكن رغم فقره فقد حرص على العناية بطفله وابنتيه، ليشكل منهم فرقة ثلاثية، لعلها تحظى بإعجاب أحد الأمراء ممن يشغفون بالموسيقى، فقرر الأب التعجيل باستثمار موهبة طفله ليواجه بها صعوبة الحياة التي أورثته فقراً مدقعاً، فذهب بالصغير إلى باخ ملتمساً منه أن يساعده على صقل موهبته، فيجيبه باخ: quot;العبقرية إلهام يحتاج إلى التجربة الخاصة، فلا تتعجل على طفلك، ودعه يكتب ما يريد، وأنا واثق أنه سيخرج علينا يوماً بقواعدَ موسيقيةٍ جديدةٍ.quot;
لكن الفاقة تستحث الأب لأن يستغل صغيره، فأخذ ينتقل به ما بين فيينا، وسالزبورج، ولندن.. أما في باريس، فقد نُشر إعلان على بوابة الأوبرا القديمة، جاء فيه:
(موزارت طفلٌ خارق الموهبة بالعزف على البيانو، وناناريل، وصوفي على الكمان، يقدمون أروع الألحان، الدخول رُبع فرنك).. وكان من بين من دخلوا ذلك الحفل، أحد المقربين من القصور، الذي سرعان ما نقل إعجابه إلى أصحابها بما سمعه من روعة عزف الأطفال، وخاصةً عازف البيانو الصغير موزارت.. فاستقدم الطفل في إحدى حفلات هذه القصور، وبرع في العزف أمام العائلات الارستقراطية..
وفي صباح اليوم التالي، لم يكن هناك من شغل شاغل للأمراء والأميرات والنبلاء، والنبيلات، سوى الحديث عن تلك الأمسية الموسيقية وعن ذلك الطفل العبقري الذي جلس على مقعد مرتفع، حتى يتمكن من الوصول إلى مفاتيح البيانو، ليعزف ألحاناً مرتجلة رائعة، خرجت من بين أصابعه الصغيرة، مفعمة بإحساس طفولي مرهف، إنه الأثير اللانهائي، إنه عالم الأرواح الهائمة في ضوء القمر.. إنها مجموعة من العوالم الساحرة المسحورة، المتألقة بالنور المتشكل في ألفِ لونٍ ولون..
إنه تغريد الطيور في مملكة الأطياف الحالمة، السابحة في الضياء الباهر.. تلك هي موسيقى موزارت!!
bull;هذه الكلمات كتبتها صحفية شهدت تلك الأمسية..
وطارت سنوات الطفولة الأولى، ويصل موزارت إلى سن الشباب، بعد أن كتب اسمه في سجل الخلود، وسجل الفقراء أيضاً، فبعد أن تزوج، وأنجب طفلين، بدأت متاعبه المالية، رغم شهرته المدوية، والحديث عن أعماله بلا حرج، فقد برع موزارت في كافة أنواع التأليف الموسيقي، فله 22 عملاً أوبرالياً، ومن أعماله المميزة: (زواج فيجارو)، و(دون جيوفاني)، (الناي السحري)، أما السيمفونيات فقد ألف أكثر من 40 سيمفونية كُتب لمعظمها الخلود، وله الكثير من موسيقى الكونشرتو للأداء المنفرد لآلات مثل الكمان، والبيانو بمصاحبة الأوركسترا.. وألّف موزارت أيضاً موسيقى الحجرة التي يؤديها عدد محدود من العازفين أمام جمهور قليل..
لكن مع كل هذا العطاء، ظل الفقر يلاحقه إلى آخر أيام حياته وهو في الخامسة والثلاثين من عمره، ولأنه كان يسخر من أحد قسس الكنائس، فقد وجد نفسه يوماً أمام ذلك القسيس بالذات، ليطلب منه ضمه إلى فرقة كنيسة فيينا، بعد أن علم أن في الفرقة ثلاث وظائف شاغرة، فصاح فيه القسيس:quot;ليقل الناس ما يقولون عن براعتك يا موزارت ولتكن شهرتك ما تكون، ولكنني غير مقتنع بصلاحيتك للعمل بفرقة الكنيسة!!quot;
وعضّه الجوع بنابه القاسي، وخلت صحونه من الطعام، ومدفأته من الوقود، وأبى الفقر إلا أن يصاحبه في كل مراحل حياته.. لكنه كان مرجعاً هاماً لكل الموسيقيين المحدثين ممن تأثروا بأسلوبه..
وفي يوم من الأيام، طُرق على موزارت الباب، ولما فتحه، وجد نفسه أمام طفل، اكتست ملامحه بالحزن، يتقدم إليه بورقة، ويقول له: quot;أرجوك يا سيدي أن تبدي رأيك في هذه النوتة الموسيقية التي كتبتها، إنها الحركة الأولى من سيمفونية بدأتها.. ولم أجد أعظم منك لكي يقيّمها لي!!quot;
فيأخذ موزارت الورقة من يده، وبعد أن قرأ رموزها الأولى، نظر إلى الصبي بدهشة وإعجاب وقال: quot;أحقاً أنت الذي كتبت هذا؟!quot;..
فيجيبه: quot;نعم يا سيديquot;..
فيسأله: quot;ما اسمك أيها الصغير؟!quot;..
quot;بيتهوفن يا سيدي.. لودفيك بيتهوفنquot;.
فيقول له: quot;سيكون شأنك عظيماً في عالم الموسيقى أيها الصغير.quot;
bull;وبينما كان موزارت يسير في الطريق، استوقفه رجلٌ غامض، يرتدي ثياباً داكنةً، وعلى رأسه قبعة تُخفي نصف وجهه، فقال له موزارت: quot;ماذا أستطيع أن أقدم لك يا سيدي؟!quot;..
فإذا بالرجل الغامض يناوله 500 فرنك، ويقول له: quot;أريد منك أن تكتب لي
مارشاً جنائزياً في أقل من أسبوع، شريطة أن يكون الأمر سراً، وألا تحاول أن تتعرف على شخصيتي، أو مَن أكون، وبعد سبعة أيام سآتيك لآخذ المارش.quot;
رغم حاجة موزارت الماسة للمال، إلا أنه لسبب من الأسباب لم يكن مرتاحاً للعرض، وتحت هيمنة شعوره برفض العرض، إلا أنه كتب سطور المارش الجنائزي الأولى.. ثم أهمله، وبدأ يحزم حقائبه للسفر إلى باريس.. وبينما كان موزارت يستعد لركوب العربة، وإذا به وجهاً لوجه أمام نفس الشخص، يتحدث إليه مذكراً إياه بمرور السبعة أيام، ويطالبه بالإيفاء بوعده، أو أن يعيد له المبلغ.. لكن موزارت كان قد تصرف بالمال، ويعد الرجل أنه سيعمل على إنجاز المارش الجنائزي بعد عودته من باريس مباشرةً.. فيمهله الرجل، مع التحذير بعدم التأخير ثانية.
***
وحينما كان موزارت في باريس كانت صورة ذلك الرجل تلاحقه في كل مكان يذهب إليه، فهو يراه بعيني خياله.. بردائه الأسود، وقبعته التي تخفي وجهه الهزيل الشاحب، وكأنه يهمس في أذنه (المارش الجنائزي يا موزارت!!.. المارش الجنائزي يا موزارت)، ووقع الموسيقار فريسةً لحالةٍ من الهذيان، صارت تلازمه في كل مكان يذهب إليه، وعندما عاد من رحلته إلى فيينا كان يصرخ في وجه من يلتقيهم.. quot;ابعدوا هذا الرجل عني!!.. ابعدوه.. سأكتب له المارش الجنائزي.. ولكن لا أريد أن أراه..quot;
bull;وفي حمى ذلك الهذيان، أتم موزارت المارش، ولكن لم يعد الرجل الغامض ليأخذه.. بل عزفته فرقة الكنيسة أمام جثمان موزارت وهو مسجّى فيها قبل دفنه!!
وعندما حملوا الجثمان، وكان يوماً شديد البرودة، كثرت فيه الأمطار والعواصف، بدأ المشيعون في جنازة موزارت يتسللون واحداً بعد الآخر هروباً من زمجرة الطبيعة، وما أن وصل الجثمان إلى المقبرة، التي لم يكن فيها سوى حفّاري القبر الذين قاما بإلقائه في إحدى حُفر الفقراء.
bull;وهكذا انتهت حياة رائد الأسلوب الكلاسيكي في التأليف الموسيقي في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي..
مات موزارت قبل أن يبلغ السادسة والثلاثين من عمره، تاركاً ما يربو على (600) عمل فني، رغم قصر سني حياته!!
***