لا يُنكر أنّ رئيس كردستان العراق، ورجلها القوي، إبن البارزاني مصطفى، مسعود بارزاني، هو واحدٌ من أكثر ساسة كردستان العراق شعبيةً وتأثيراً.
كردياً، يشهد له التاريخ، كما الجغرافيا، بأنه حمل كردستان، أيام البندقية الصعبة، على ظهره، من جبلٍ إلى جبل، ومن نكسةٍ(أو كما تسمى بالكردية quot;آشبَتاليquot;) إلى أخرى.

بارزاني الإبن، الذي كان على طول كردستان وعرضها، ذاكرةً لجبلها(الصديق الوحيد لأكراده آنذاك)، لا يحتاج إلى من يذكّره بquot;كردستان الجبل الماضيquot;، وحلمها الماضي، في أن تكون quot;وطناً نهائياًquot; لكلّ ناسها، بمختلف قومياتهم وأديانهم وطوائفهم واتجاهاتهم الفكرية والسياسية.

بإختصارٍ شديدٍ جداً، بارزاني لا يحتاج إلى من يعرّفه بكردستان، أو يعرّف هذه الأخيرة به. فكما أهل مكة هم أدرى بشعابها، كذا هو بارزاني أدرى بشعاب كردستان(ه).
لكنّ كلّ ذلك لا يعني، أنّ البارزاني quot;معصومٌquot;، كما يريد البعض الكردي له، أن يكون.

ذلك لا يعني، أنّ تُختزل كردستان إلى quot;بارزانستانquot;، كما يشكو أهل كردستان الآن، في السرّ وفي العلَن.
ذلك لا يعني أبداً، أن يكون سقف كردستان هو سقف آل بارزان، كما هو حاصل، على أكثر من مستوى، سياسةً وإقتصاداً واجتماعاً.
ذلك لا يعني بأيّ حالٍ من الأحوال، quot;اصطفاءquot; آل بارزان(مع كلّ الإحترام والتقدير لكلّ تاريخهم وتضحياتهم) من كلّ كردستان، لكأنهم quot;قريشquot;(ها) المصطفاة، التي quot;اصطفاهاquot; الله لأمة الكرد.

المتتبع لسيرة حكم بارزاني لكردستان، منذ حوالي عشرين عاماً، سيرى ويكشف أنّ quot;البارزاني الرئيسquot;، رغم الهالة المحاطة به، على طول كردستان وعرضها، ورغم ما يتمتع به من كاريزما، ما عاد هو quot;البارزاني البيشمركهquot;، كما كان أيام زمان، في كردستان الثورة الماضية.

اختزال البارزاني مسعود كردستان(ه)، على أكثر من مستوىً وصعيد، في العشيرة، وهذه الأخيرة في العائلة، كما تقول خارطة المناصب الرفيعة والحساسة في حكومة كردستان، وماوراءها من حزب وأمن ومخابرات؛ هذا الإختزال الجبري للدولة في العشيرة، وكأنّ هذه الأخيرة هي كلّ الدولة، وكلّ الدولة هي منها وإليها، بقصدٍ سياسي مكشوف، وعن سابق إصرارٍ وترصد، من جهة رمزٍ سياسي كبير بحجم بارزاني، بات يحتاج إلى أكثر من تحليل ودراسة.
زجّ الدولة، هكذا على المكشوف، في العشيرة، وهذه الأخيرة في العائلة، كما تريد اختيارات وتعيينات بارزاني(الذي قال يوماً بأنه quot;لن يسمح بتعيين شرطيٍّ واحد بدون علمهquot;) لها أن تكون، بات هو العنوان الأكبر والأعرض والأخطر لكردستان الآن، وقادمها أيضاً.

العارف بتفاصيل الملك في كردستان، يعرف جيداً أنّ خارطة الفوق الكردي، بشقه الخاضع لسيطرة الحزب الديمقراطي الكردستاني، هي خارطة بارزانية بإمتياز. لكنّ ذلك لا يعني أنّ الخارطة ذاتها في الشق التابع لحزب الطالباني، هي أقل عشائريةً، أو خضوعاً للمحسوبيات وتدخلات quot;الكبارquot; من أهل الحزب هنا وهناك.

في خارطة quot;كردستان الفوقquot;، المحكومة بارزنياً، يشغل البارزاني مسعود منصب رئيس الإقليم، بصلاحيات لا نهاية لها، ولأجل غير مسمى. ويشغل ابن أخيه نيجيرفان بارزاني، بعد quot;توصية خاصةquot; وعلنية منه، لمؤتمر الحزب المنعقد خلال الفترة ما بين 11 و17 من كانون الأول 2010، منصب نائب رئيس الحزب، كما سيشغل منصب رئيس الحكومة للمرة الثالثة. أما أبنه مسرور بارزاني فهو حالياً رجل إستخبارات كردستان(الباراستن) الأقوى في كردستان. كما يشغل نجله الآخر منصور منصب quot;القائد العامquot; للفرق الأمنية(بينها فرق الحماية الخاصة). هذا بالإضافة إلى شغل الكثير من البارزانيين المقرّبين جداً من مسعود بارزاني، الكثير من المناصب الحساسة في الحزب(كأعضاء في اللجنة المركزية والمكتب السياسي) والأمن والدولة، مثل سيروان صابر بارزاني، ويوسف بارزاني(شقيق نيجيرفان)، وعبدالمهيمن بارزاني، وأدهم بارزاني وآخرين.

والسؤال الذي يفرض نفسه، ههنا، هو: مالفرق إذن، بين حكم عائلةٍ تحكم كردستان، وأخرى تحكم أيّ دولةٍ أو شبه دولةٍ من هذا العالم، طالما أنّ المنطق في الملك هو ذاته، حيث يسبق فيه حكم الفرد على حكم الجماعة، وquot;سلطة الدّمquot; على سلطة القانون، وquot;شرع العائلةquot; على شرع الدولة، وحبّ الفرد على حبّ الوطن؟

أوليس سبب ما تشهده المنطقة العربية، من ثوراتٍ وتبدّلاتٍ وتغيّرات، وعنفٍ وعنفٍ مضادٍ، منذ أكثر من عامٍ، هو تفرّد بعض العوائل واستئثارها بالسلطة، كعائلة زين العابدين ومن لفّ لفها في تونس، وعائلة حسني مبارك في مصر، وعائلة القذافي في ليبيا، وعائلة علي عبدالله صالح في اليمن، وعائلة الأسد في سوريا..وهلمّجرا؟
أليس سبب من حوّل هؤلاء الرؤساء إلى رؤساء هاربين، أو مخلوعين، أو مقتولين، أو متنازلين، كما رأينا، هو الإستبداد؛ استبداد الواحد بالكثير المتعدد؟
أليس سبب انتشار كلّ هذا الذي يسمى بquot;الربيع العربيquot;، هو الخراب العربي، الذي ألحقته هذه العوائل الحاكمة نفسها، بالمكان العربي، والإجتماع العربي، والمال العربي، والسياسة والثقافة العربيّتين، من تونس إلى اليمن، مروراً بليبيا ومصر، وليس انتهاءً سوريا والبحرين؟

ليدع الأكراد قليلاً ما أصابهم من داء التعصّب للقومية جانباً، كما أصاب جيرانهم المصابين بداء العروبة وبعثها الذي تحوّل من حزبٍ جماهيري يخدم الجماهير(كما كان مفترضاً به أن يكون)، إلى حزب فاشي يقتل الجماهير، وينظروا إلى كردستانهم بلا نظارات قوموية، بعيداً عن سطوة الشعارات الكبيرة ونشوتها، التي لم تعد تشبع الشعوب خبزاً وحريةً، حينها سيكشفون أنّ ما وراء الأكمة الكردية أيضاً ما وراءها، وأنّ quot;البارزاني ليس إلهاًquot;، كما قالها سردشت عثمان، الذي قُتل في كردستان وعلى يديها، أكثر من مرّةٍ.

quot;تأليهquot; السياسة وأهلها، كردياً، لا يقتصر على بارزاني فحسب، وإنما هو حالةٌ كردية عامة، منتشرة بين الأكراد في كلّ جهاتهم، حتى بات لكلّ جهةٍ quot;إلهها السياسيquot; الخاص به.
هكذا تحوّل الحزب، كردياً، إلى دين، ورئيسه إلى إله.
فالبارزاني في الجنوب الكردي إله، والطالباني إله، وأوجلان في الشمال إله..إلخ.

لكلّ هؤلاء وسواهم من quot;الآلهة السياسيةquot; في كردستان، دون أدنى شك رمزيتهم، ووزنهم ودورهم في صناعة بعض كردستان، وبعضٍ من مقاومتها، وجبلها وثورتها وأكرادها. لكنّ كلّ ذلك لا يعني إطلاقاً، تحوّل هؤلاء الرموز إلى quot;أصنام سياسيةquot; تُعبد، بمناسبةٍ وبدونها.
ذلك لا يعني، تقديس أخطائهم، وشرعنتها، والجري وراء شرعتها، لكأنها quot;أحاديث صحيحةquot; لا طعن فيها.
الصحيح صحيح، أما الخطأ فهو خطأً، يجب نقده، ونقد صاحبه أياً كان.

السياسة، إذن، ليس ديناً، والسياسيون ليسوا بآلهة.

بقراءةٍ سريعة لquot;فلسفةquot; الحكم في كردستان، سيتبين أنّ كردستان المحكومة بالحزبين الرئيسيين الديمقراطي الكردستاني، والإتحاد الوطني الكردستاني، هي مشروع عشيرة، أكثر من أن تكون مشروع دولة.

فعلى الرغم من الإتفاق quot;الإستراتيجيquot; الموقّع بين الحزبين في 21 كانون الثاني 2006، والقاضي بحكم كردستان مناصفةً، إلا أنّ انشقاق حركة كوران بقيادة نوشيروان مصطفى، عن الإتحاد الوطني الكردستاني بقيادة جلال الطالباني، أدى إلى تراجع شعبية وقوة هذا الأخير وحزبه في كردستان، لا سيما في معقله السليمانية، الأمر الذي أدى إلى صعود حزب بارزاني وتقوية أوراقه مقابل حزب طالباني، وازدياد نصيبه، بالتالي، في كعكة كردستان المتقاسمة بينهما مناصفة، على حساب quot;نصف كردستانquot; المسجلة بإسم هذا الأخير، بحسب اتفاق الفيفتي فيفتي الشهيرة.

عملياً، فيما لو استثنينا quot;كردستان السليمانيةquot;، الديمقراطي الكردستاني هو الحاكم الفعلي لكردستان الآن. هو القابض الأكثر قوةً على مفاتيح الدولة، الخفية والعلنية، ليس في quot;كردستان الرسميةquot; فحسب، وإنما خارجها أيضاً، أيّ في غالبية المناطق المتنازع عليها، التي لا تزال تخضع بموجب المادة 140 للحكومة المركزية في بغداد.

الدولة أو حتى شبه الدولة، بمفهومها المدني، بإعتبارها مؤسسات دستورية، من الشعب وإليها، هي غائبة تماماً في كردستان.
الحاضر الآن، في كلّ كردستان، هو الحزب، والحاضر في الحزب هو العشيرة، والحاضر في العشيرة هو العائلة، والحاضر في العائلة هو الرّب، الواحد الأحد، الذي لا حكم فوق حكمه.

لا توجد quot;دولةquot; كردستان، ولا شبيهها، في المفهوم الحديث لهذه الكلمة، كما يُروّج لها هنا وهناك، إنما الموجود، والحاضر أبداً هو العشيرة التي تساوي كلّ الدولة، وكلّ ما فوقها وما تحتها.

ما تشهده كردستان، من quot;إنقلابٍquot; للعشيرة على الدولة، في مختلف مفاصلها، هو ناقوس خطرٍ بات يهدد الكثير من كردستان، لصالح الكثير من العشيرة، ما يعني سقوط كردستان في العشيرة، بدلاً من صعودها إلى الدولة.

الكبير نيسلون مانديلا الملقّب بين أفراد عشيرته، بquot;ماديباquot; أي quot;المبجل العظيمquot;، ما كان له أن يكون quot;إفريقياً كبيراًquot;، كما يشهد على ذلك إسمه الحائز على نوبل للسلام(1993)، لولا حبّه للسلام أكثر من الحرب، وتقديمه لمصالح شعبه على مصلحة عشيرته، ورفعه لإسم الوطن على إسمه، وتضحيته بالخاص والفردي، طيلة 28 عاماً من العزلة وراء القضبان، لأجل كلّ ما هو عام.
ماندلا quot;المفرد بصيغة الجمعquot;(والتعبير للشاعر السوري أدونيس)، صار مفرداً كبيراً للجميع الأسود، لأنه أبى إلا أن يكون واحداً من الجميع إلى الجميع.

كان من الأولى بالبارزاني مسعود، وهو سليل تاريخٍ مشهودٍ له بالمقاومة لأجل حرية وديمقراطية وعدالة كردستان، أن يكون البارزاني ذاته، في حاضر كردستان، وحاضر quot;لاحريتهاquot; وquot;لاديمقراطيتهاquot; وquot;لاعدالتهاquot;.
كان من الأولى به، أن يفصّل الحكم في كردستان، بإعتباره رئيساً لكلّ كردستان، لا في كونه quot;رئيساً للعشيرةquot;.
كان من الأولى به، وهو الكردي الكبير، وسليل تاريخٍ كبير، أن يدخل في كردستان وتاريخها، أكثر وأكبر، لا أن يدخل العشيرة وتاريخها، لكأنها كلّ كردستان؛ كلّ مبتدأها وكلّ خبرها، كلّ ما قبلها وكلّ ما بعدها.

يخطئ البارزاني، إن ظنّ بأنه سيلوي عنق التاريخ بالسياسة، أو عنق كردستان بالعشيرة، أو عنق أكراده بأفراده.
يخطئ البارزاني، إن صدّق جوقة المستشارين والمنتفعين من حوله، بأنّ كردستان ليست بعربستان، وأنّ quot;الواحدquot; بالكردي، لا يساوي quot;الواحدquot; بالعربي.

إن أراد البارزاني أن يدخل التاريخ الكردي، كبيراً من أوسع أبوابه، عليه أن يخرج من العشيرة.
إن أراد البارزاني أن يربح كردستان، فعليه أن يخسر العشيرة.
إن أراد البارزاني أن يبقى كبيراً لكردستان، فليس له إلا أن يرحل من العشيرة.
إن أراد البارزاني أن تحفظه كردستان إلى الأبد، فليس له إلا أن ينسى العشيرة.

يقول الزنجي الأميركي الكبير مارثن لوثر كينغ(1929ـ1968): نحن لا نصنع التاريخ، وإنما التاريخ هو الذي يصنعناquot;
لا شكّ أنّ الماضي من تاريخ كردستان، قد صنع البارزاني والبارزانيين، زمان الجبل الصعب، لكن السؤال هو: هل سيصنعه القادم من كردستان وتاريخها أيضاً؟

سؤال أتركه مفتوحاً، على مصراعيه، برسم التاريخ وأكراده.

[email protected]