(نحو فهمٍ أفضلَ للإنسان)


تقدم شاب مفتول العضلات فوجه ضربةً قاضية لعالِم البيئة، إلا أنه شعر أن هناك في داخله مايوحي له بتخفيف عنفوان الضربة، فنزلت القبضة الفولاذية بعيار مخفف على صدر العالِم، هوى بعدها العالم الى الأرض مضرجاً بدمائه وولى الفاعل الأدبار. كانت إشارات الانذار قد انطلقت بعويلٍ لايتوقف وطُوِّق المكان بعناصر الأمن، ولم يبق أمام المجرم ذو القبضة الفولاذية سوى القفز من سطح البناية وحشر نفسه في نفق الأسلاك الكهربية تحت الأرض. وخلال القفز بين الأسلاك الصاعقة كان شرر الكهرباء يتطاير، ولكن الرجل كان يتقدم بشيء من الخفة بدون أن يصاب بأذى، رغم كل تيارات الكهرباء القاتلة التي تطوقه عن اليمين والشمال. وفي النهاية قفز من مخرج بعيد، ليمتطي سيارته وينهب بها الأرض باتجاه أريزونا، الولاية الأمريكية الجنوبية.
عندما تأمل رجال الأمن المكان وقعت أعينهم على فتحة النفق الكهربي فاستبعدوه تماماً من حسابهم كمكان للهرب، وعندما سئل عالم البيئة الذي تحسن في العناية المركزة (I. C. U.) من أثر الضربة القاتلة كان جوابه لا أعرف على وجه الدقة بماذا ضربت ؟ الشيء الأكيد الذي أعرفه أن ضربة مروعة في غاية القساوة صدمت صدري، كادت أن تهشم أضلاعي وتهرس قلبي لولا لطف خفي خفف الضربة !!

يد من حديد (HAND OF STEEL) :
استنفرت قوى الأمن نفسها لمعرفة الأثيم في ضوء معطيات جديدة عن كائن هو انساني، ولكن فيه من المواصفات مايخرجه عن التركيب البيولوجي الانساني. وفي الوقت الذي كان الرجل ذو القبضة الفولاذية يلجأ الى نزل بعيد في ولاية أريزونا القاحلة، كان يُطارد من مجموعتين وليست واحدة. كان يطارد من البوليس الأمريكي ومن مجموعةٍ غامضة من محترفي الإجرام الذين طوروا بُعداً جديداً في تسخير الانسان للجريمة. لقد تناهى الى سمع الاستخبارات الأمريكية أن هذا الرجل الذي اجتاز نفق التوتر الكهربي عالي الفولتاج واستخدم قبضة لايصل الى بأسها عضلات الانس، كان حدس رجال الأمن أن هناك مشاريع في الخفاء نحو انتاج كائنات من نوع السايبرج (CYBERG) وهي تتطابق مع تحمل جسم المجرم الفار للتيار الكهربي المميت.

كائن السايبرج الجديد (CYBERG) :
عرض شاب الى حادث مريع ترتب بعدها _ كما يذهب الى ذلك الخيال العلمي (SCIENCE FICTION) الى استبدال معظم أطرافه بأطراف صناعية، ومنها يده التي أصبحت فولاذية تضرب كمطرقة الحديد المرعبة ؛ فتُهَشِم صدر عالم البيئة، وتَقْطع لاحقاً الثعبان ذو الأجراس عندما دخل مباراة (المكابشة = مكاسرة الأيدي) مع هنود صحاري أريزونا، التي تقوم المباراة فيها على دفع يد المهزوم في المصارعة الى فم الثعبان كي يلدغها (1).
كان أجمل وأخطر مافي فيلم الخيال العلمي هو زرع شريحة كمبيوتر (MICROCHIPS) في غاية الرقة في دماغ هذا الشاب، بحيث أصبح تحت البرمجة الآلية، فإذا وُجه الى قتل انسان مضى بدون تردد. هكذا كانت رغبة الذين سهروا على المشروع وطَوَّروه، ولكن ثبت أن الأرادة الانسانية تتملص من قبضة السيطرة عليها، فينقلب السحر على الساحر، فيُخَفِّف ضربة قبضته على صدر رجل العلم، ويشدد منها على أسياد التكنولوجيا، فيقضي على الذين سهروا على تشويهه وتحويله من انسان يتمتع بالحرية والارادة والوعي الى دمية متحركة بالريموت كونترول.
ولكن ماهو الوعي ؟ ماهي حرية الارادة ؟ وأين مكان هذه الكلمات الكبيرة ؟!!

في محاولة اكتشاف القارة المجهولة :
إننا لسنا في بحث في الجغرافيا ولاحتى في البيولوجيا، فالدماغ الانساني مازال عصياً على الفهم، فكيف يفهم الدماغُ الدماغَ ؟ أم كيف نفهم كيف نفهم ؟ في متحارجة مملوءة بالتحدي. تحت ضغط هذه الفكرة لجأ كثير من الفلاسفة والمفكرين الى عدم الدخول في فهم الدماغ كآلة بل فهمه كوظيفة (FUNCTION) ونحا القرآن هذا المنحى حينما تحدث عن التفكير ؛ فلم يأت ذكر الدماغ أو المخ أو لفظة (العقل) مفردة في القرآن مرة واحدة كجهاز، ولكن وظيفة التأمل والتفكر والتدبر تكرر ذكرها بدون ملل (يعقلون.. يتفكرون.. يتدبرون). ليس المهم أن نعرف ما هو تركيب هذه الآلة ؟ ولكن كيف تعمل هذه الآلة ؟ هذا مايقوله أصحاب هذا الاتجاه، وصبت مدرسة علم النفس السلوكي في نفس الاتجاه، فهي لاتستطيع فهم الانسان الا من خلال تصرفاته (BEHAVIOUR - ANALYSIS) ولذا فالانسان يُفهم من خلال السلوك الميداني، أكثر من الفهم التشريحي أو الفيزيولوجي للدماغ. الا أن نهم العلماء لايعرف التوقف، وعطشهم الى المعرفة وفك أحاجي الوجود لايرويه جواب واحد، بل يتركب السؤال على السؤال، ويتفرع من المعلومة معلومة جديدة، في حلقة تصاعدية نامية متطورة علمية حركية لاتعرف الاستراحة، فهذا هو فضاء المعرفة الانساني.

النظام العقلي والنظام الكوني:
يقول الفيلسوف الدكتور محمد كامل حسين في كتابه (وحدة المعرفة): ((إذا أردنا أن تكون صورة المعرفة كاملة تامة فليس لنا مناص من البحث في طبيعة العقل وكنهه، فهو جهاز التفكير الذي به تتحدد المعرفة)). ولكن الدكتور حسين لايرى البحث في هذه النقطة
لماذا؟ : ((ولكننا لانرى البدء بهذا البحث. لأن ذلك يكون خطأ منهجياً. وقد بينا من قبل أن البدء بالبحث في تحديد العلاقات بين غايات الأمور ومعقداتها لايؤدي الى الحقيقة. والبحث في طبيعة العقل يجب أن يكون آخر البحوث كلها. ويجب أن لانتناوله الا بعد أن يتم علمنا بالكون والانسان. ويكفينا الآن أن ننظر الى العقل على أنه نور يلقى على الأشياء فيضيئَها، ويتيح لنا فهمها. ولنا أن نستخدمه جهازاً للتفكير دون أن نفهم ماهيته، حتى تتم لنا صورة المعرفة كاملة فنضعه منها موضعا حقا لا نستطيعه في أول البحث))(2)
وإذا كان العقل أو جهاز التفكير غامض الماهية فكيف يمكن بناء ابستمولوجيا المعرفة حسب تفكير جراح العظام محمد كامل حسين ؟
للاجابة على هذا السؤال يقدم لنا الدكتور حسين جوابه في صورة على غاية من البهاء الفكري والاشراق الادبي والعمق الفلسفي، فيرى أن يكون المدخل الى المعرفة على الشكل التالي: ((في الكون نظام، وفي العقل نظام، والمعرفة هي مطابقة هذين النظامين. والنظامان من معدن واحد، والمطابقة بينهما ممكنة لما فيهما من تشابه. ولولم يكونا متشابهين لاستحالت المعرفة. ولولم تكن المطابقة بينهما ممكنة ماعلم أحد شيئاً ؛ وتشابه النظامين الكوني والعقلي ليس فرضاً يحتاج الى برهان ؛ بل هو جوهر إمكان المعرفة. ومن أنكره فقد أنكر المعرفة كلها. وهذا الانكار خطأ يدل عليه ماحقق العقل من قدرة على التحكم في كثير من الأمور الطبيعية. ولم نكن لنستطيع تحقيق شيء من ذلك لو أن النظامين كانا مختلفين، ومهما تتغير المعرفة ومذاهب التفكير وفهمنا للكون فإن الحقيقة التي ثبتت ثبوتاً قطعياً هو هذا التوافق بين نظام الكون ونظام العقل))(3)

الغوص في أدغال المخ الرهيبة:
عندما يتعرض جراح الأوعية الأمريكي ذو الأصل الفرنسي حائز جائزة نوبل للعلوم للدماغ وعمله وكمية المعلومات المكدسة حول طبيعته لايجد أفضل من وصفه بأدغال أفريقيا الاستوائية كثيفة الأشجار مع فارق أن هذه الأشجار تتغير على الدوام !!! جاء في كتاب (الانسان ذلك المجهول)(MAN THE UNKNOWN)((هناك تفاوت عجيب بين علوم الجماد وعلوم الحياة فعلوم الفلك والميكانيكا والطبيعة تقوم على آراء يمكن التعبير عنها بسداد وفصاحة باللغة الحسابية.. بيد أن موقف علوم الحياة يختلف عن ذلك كل الاختلاف حتى ليبدو كأن اولئك الذين يدرسون الحياة قد ضلوا طريقهم في غاب متشابك الأشجار، أو أنهم في قلب دغل سحري لاتكف أشجاره التي لاعداد لها عن تغيير أماكنها وأحجامها.. فهم يرزحون تحت عبء أكداس من الحقائق التي يستطيعون أن يصفوها ولكنهم يعجزون عن تعرفها أو تحديدها في معادلات جبرية))(4)
هذا الشعور يتكرر أيضاً عند العالمة (اليزابيث كروسبي) من جامعة متشيجان التي قضت ثلاثين عاماً في أبحاث الخلايا العصبية وممراتها عند الحيوانات والقردة بشكل خاص، ففي كتاب العقل البشري (THE HUMAN BRAIN)_ تأليف جون فايفر (JOHN PFEIFFER) يأتي وصف العقل الحديث وعلاقته بقشرة الدماغ، وتأتي لفظة (الدغل المخي) على وجه التحديد مايلي : ((هذا هو العقل الحديث الذي يمثل المركز الرئيسي لجميع الصفات البشرية الفريدة، فهو من أكثف أجزاء الدغل المخي وأكثرها نمواً، ويحتوي على مناطق غامضة لايمكن ارتيادها مثل مساحات الأرض الشاسعة التي كانت مجهولة منذ عدة قرون مضت. ولايمكن لعالم أو مجموعة من العلماء أن يتفهموا هذه القشرة (5) كلها فقد يتطلب استكشاف منطقة منها لاتزيد عن طابع بريد أعواماً طويلة، ولقد صادف التخصص في البحث في الآونة الأخيرة الكثير من الانتقادات، لأنه يتسبب في وجود مصطلحات فنية غريبة وأناس يجدون صعوبة في الاتصال ببعضهم البعض الى درجة كبيرة، ومع ذلك فلايوجد من وسيلة أخرى لدراسة أشياء معقدة كقشرة المخ))(6)
وحتى يمكن أن نقترب من معنى هذه الكلمات، لأن الامساك بهذا المفتاح _ أعني فهم طبيعة الدماغ وكيفية عمله _ سيفتح الطريق الى دخول خزانة الوجود وكنز المعرفة الأساسية كما سنشرح بعد قليل، لابد من القاء الضوء على الجانب التكويني النسجي. فإذا تصورنا القبة السماوية التي تسحرنا ببهاءها، تتلألأ في نصف الكرة منها قرابة مائة مليار نجم تعود الى مجرتنا طريق الحليب (MILK - WAY) أو ماسماها الأقدمون درب التبانة، فإن سقف الدماغ يمثل حقيقة أعقد وأعظم، ففي سماء قبة الدماغ تشع بالنور والفعالية الكهربية مائة مليار خلية عصبية، مع فارق أن كل خلية تمتد بمحاور واستطالات تتصل بها مع بقية الخلايا العصبية في الدماغ والجسد، بشبكة وصل مرعبة بحق، ينهار التفكير عندما يسترسل في تصورها.
عندما أراد عضو الدايت (البرلمان الياباني) (شينتارو _ ايشيهارا)(SHINTARO - ISHIHARA) تصوير التفوق الياباني التكنولوجي، فإنه لجأ الى دارات الوصل في الكمبيوتر فقال : (إن شريحة الميجابايت الواحدة المستخدمة في موقع التخزين الداخلي في الكمبيوتر تمتلك مليون دائرة على قاعدة في مادة السيليكون يبلغ حجمها ثلث حجم البنصر في يدي)(7)، وكما أن لوحة الفيديو الداخلية أو التلفزيون تصيبنا بالهلع ونحن نتأمل داراتها المتصلة، ولكن ماذا نقول بدارات عصبية تقوم بها مائة مليار من الخلايا العصبية، كل واحدة منها تتصل بألف اتصال. إنها شبكات وصل عملاقة لاتخطر على قلب بشر وهو ماطرحه كاتب تحت رقم الجوجول (GOGOL) أي الرقم عشرة مرفوع الى أس 100 (أي رقم أمامه مائة صفر) مع العلم أن المليار أمامه تسة أصفار فقط والمليون ستة أصفار ؟!!

فوق الجوجول (OVER - GOGOL):
جاء في كتاب الدماغ والفكر : ((تقول الرياضيات بأن بين عِداد البليونات والتريليونات وغيرها من عمالقة أرقام الحساب لاتشكل المليارات فيها الا قزماً، وعلى العكس فإن الجوجول عدد عظيم الكبر، إنه عشرة مرفوعة الى الأس مائة ؛ فحسب تقديرات الفيزيائيين لايتعدى عدد الجزيئات الأولية في الكون أكثر من عشرة مرفوعة الى قوة (أس 88) أي أنها كمية أقل من الجوجول. ومع ذلك فإن هنالك حوادث يمكن أن تتحدى الجوجول، ومن بينها شبكة العصبونات، فعلى مقربة من العصبون يتواجد جيران من عدة عشرات من العصبونات، تتصل بها بواسطة محاور وتشعبات، مما يؤدي الى نسيج عنكبوتي لايمكن فصله، وتتبع قدراتنا الذهنية عدد الاتصالات المتبادلة التي يستطيع الدماغ القيام بها، وبالتالي فإن المرء يتصور بصعوبة بالغة كمية الاتصالات الناشئة عن هذه الشبكة المؤلفة من مليارات العصبونات، لتصبح أعظم بكثير من الجوجول فتقدم لنا فرصة عظمى لنكون عباقرة))(8) لذا وقف العالم الانكليزي (فرانسيس كريك) الذي اكتشف مع واطسون تركيب الحامض الأميني في نواة الخلية ليقول بخشوع : ((بعد أن توضع كل هذه الأعداد الهائلة من المجرات على خارطة الكون من قبل علماء الفلك بالدقة التي ينشدونها، فإن علينا استكشاف الدماغ الذي اكتشفها وهو الأشد تعقيداً)(9)
إن العلم حتى فترة قريبة اشتغل فيما حول الانسان أكثر من فهم الانسان بالذات، ولعل مفتاح الخزانة الحقيقية لفهم الانسان هي فهم كيف يفهم ؟ وإدراك كيف يدرك ؟ لأن وضع اليد على هذه الحقيقية سيمكننا من تطوير الوضع الانساني، فالتحدي الأكبر هو في فهم السلوك الانساني، وهكذا فكل شيء يمضي وكأننا أضعنا مفتاح الخزانة الحقيقية التي فيها أهم كنوزنا.

فراق العلوم الانسانية والميكانيكية :
يقرر عالم النفس السلوكي (ب. ف. سكينر)(B. F. SKINNER) حقيقةً هامةً في تطور علوم المادة بشكل نوعي، لايقارنه تطور العلوم الانسانية وفهم الانسان لنفسه، وإننا نجد حقيقة ملفتة للنظر في القرآن حينما يؤكد مفهوم السننية (فهل ينظرون الا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا)(10) والقرآن حينما أصرَّ على هذه الفكرة الجوهرية، عنى بالدرجة الأولى بالسنة الاجتماعية النفسية أكثر منها القانون الفيزيائي أو البيولوجي، ومن الغريب أن العالم الاسلامي اعتمد فكرة الخوارقية وترك فكرة السنن وكأنه لم يقرأ القرآن فصرعته عجلة التاريخ، فهو اليوم يغوص في مشاكل لايستطيع الفكاك منها، ومرضه ثقافي قبل أن يكون سياسيا، فالسياسي هو حفيد المثقف، وكما أن الجرثوم أو الباكتريا تمثل الوحدة الإمراضية العضوية، فإن الفكرة تمثل الوحدة الإمراضية الاجتماعية النفسية، والانهيار القائم في العالم الاسلامي هو مشكلة داخلية قبل أن يكون هجوما خارجيا، ولذا فإن مشكلة العالم العربي هي تفككه وتفتته الداخلي قبل أن يكون وجود اسرائيل، فاسرائيل مشعر ارتفاع حرارة الجسد العربي المريض، وعندما نرى تبادل السلطة السلمي بين القيادات الاسرائيلية هذا الشهر، فيجب أن نفهم أن تفوق اسرائيل ماجاء من فراغ، كما أن مرض الانقلاب الأموي القديم وروح الغدر والتآمر الذي تأصل بين ظهرانينا مازال يفعل فعله عبر ألف سنة من الزمن، ولم نتعافى من هذه الظاهرة حتى الآن فهي ظاهرة مرض حضارة. وفي الوقت الذي يتعافى الجسم العربي بصنع سلامه الداخلي قبل سلامه الخارجي ؛ فإن قيادات العالم سوف تهتز وسوف تسعى اسرائيل صاغرة الى خطب ود العرب، ولن يكون أمام اسرائيل الا مصير تحولها الى فورموزا الشرق الأوسط على الرغم من كل الترسانة النووية. ومن هنا كانت أهمية تطوير العلوم الانسانية في العالم العربي أكثر من العلوم التطبيقية، التي يشتكي منها عالم النفس سكينر.
يقول سكينر : ((كان من الممكن أن يقال قبل ألفين وخمسمائة عام أن الانسان كان يفهم نفسه كما كان يفهم كل جزء آخر من عالمه. لكن فهمه لنفسه اليوم هو أقل من فهمه لأي شيء آخر. لقد تقدمت الفيزياء والبيولوجيا تقدما كبيرا الا أنه لم يحدث أي تطور مشابه في علم السلوك البشري، فليس للفيزياء والبيولوجيا اليونانية الآن سوى قيمة تاريخية، ولكن محاورات أفلاطون لاتزال مقررة على الطلاب ويستشهد بها كما لو أنها تلقي ضوءا على السلوك البشري، وما نحسب أن بمقدور أرسطو أن يفهم صفحة واحدة من الفيزياء والبيولوجيا الحديثة، ولكن سقراط وأصدقاءه لن يجدوا صعوبة في متابعة أحدث المناقشات الجارية في مجال الشؤون الانسانية. وفيما يتعلق بالتكنولوجيا فقد قطعنا خطوات هائلة في السيطرة على عالمي الفيزياء والبيولوجيا، ولكن ممارساتنا في الحكم والتربية لم تتحسن تحسنا ملحوظا)(11)

خارطة وتضاريس الدماغ الانساني :
يزن الدماغ في المتوسط حوالي 1310 غرام (12)(حوالي كيلو ونصف يزيد وينقص) يشبه ثمرة الجوزة، محمي بثلاث أغلفة، تضاريسه الخارجية مكونة من تلافيف تضغط حجمه الكبير في جمجمة صغيرة، على مبدأ الاقتصاد في الطبيعة، فلو فرش الدماغ لكان بمساحة جريدة ذات صفحتين، يسبح دوماً في ماء دافيء سكري (13)، يتركب من ثلاثة أدمغة تعلو بعضها بعضاً، القسم السفلي نشترك فيه مع الزواحف حيث ترقد المراكز الحيوية المسؤولة عن ضربات القلب وحركات التنفس ومنعكس البلع والعطاس والغريزة الجنسية، يعلوه الدماغ المتوسط مركز افراز الهورومونات وتنظيم العواطف والمشاعر، ويُتوِّج الكل الدماغ الجديد الذي يتميز به الانسان ويتشكل من فصين متميزين، الأيمن الشاعري الحساس الفنان، والأيسر صاحب التنظيم العقلي والتفكير المنطقي والتحليل البارد، وفيه مركزا النطق وفهم الكلمات.

عالم العجائب والمتناقضات:
كتلة الدماغ تحمل المتناقضات والعجائب، هي مادة رخوة تشبه المربى (الجيلي) غير المتماسكة، فلايمكن حمل الدماغ على الكف الا بعد تجميده بالفورمالين، ولكنه يشد العضلات ويوتر الأربطة ويسخر العظام بأوامر في غاية الرقة والنعومة والتهذيب. فالدماغ يعمل بمثابة الحكومة العاقلة العالمة المخلصة، ويعمل الجسد بمثابة الشعب المتفاني في الطاعة. قبة الدماغ تتركز فيها الخلايا العصبية بالمليارات في شبكة علاقات محكمة، على ستة طبقات منضدة فوق بعضها بعضاً، محمية بسد خفي يسمح بمرور الدم وسكر العنب ولايسمح بمرور اي مادة غريبة حتى تسبح في الدوران الدموي، فهذا السد هو مثل الفلتر الخفي (BRAIN - BLOOD - BARIER= B. B. B.) الذي يقوم بعملية النقد الذاتي لكل المواد التي تسبح في الدم. ومن هذه الخلايا تمتد استطالات تجتمع بمليارات المليارات مغلفة بمواد دهنية بيضاء تمنع حدوث التماس الكهربي، ومن هنا كان لون قشر الدماغ رمادي واللب أبيض، فالخلايا العصبية تتدفق فيها التيارات الكهربية بدون توقف حتى في حالة النوم والاحلام كما وصفها عالم الاعصاب البريطاني ببراعة (إنه نول كبير به مس من الخفة حيث تومض ملايين المكوكات ناسجة نموذجاً دائم التغيير وهو نموذج له معنى دائم دائما ولو أنه غير ثابت)(14) ويعقب صاحب كتاب عقول المستقبل (جون تايلور) على ذلك بقوله : ((إن فكرة المكوكات المتحركة هذه ترسم صورة مليئة بالحركة للطريقة التي ينتقل بها التيار الكهربي عبر الألياف العصبية فهو يتحرك مثل لهب يسري عبر فتيل حتى يصل الى الوصلة أو مكان الالتقاء بخلية عصبية أخرى. وهذه الوصلة تنقل اللهب الذي يسري عبر الليفة الجديدة. إن هذا المرور المتكرر لهذه الحزم من الومضات الكهربية عبر الألياف العصبية هي التي تكون النشاط الأساسي للمخ، وهذه الطريقة التي يحتوي بها المخ المعلومات التي تكون عملية التفكير والاحساس وما الى ذلك)(15)

المفتاح الذهبي للعوالم الجديدة:
إن الأبحاث الحالية الجارية وهي أهم من التسلح النووي وأسلحة الدمار الشامل، هي أبحاث فهم عمل الدماغ والخلايا العصبية التي تفسر سلوك الانسان، وهناك الآن في أوربا عمل ناهض يشتغل بهمة ويضم 2500 عالم في فيزيولوجيا الأعصاب وجراحتها والفلاسفة وعلماء النفس والباحثون في المادة العصبية والسلوك عند الحيوان والانسان (16). إن فهم عمل الدماغ الانساني سيفتح الطريق على عوالم كاملة قائمة بذاتها مثل فهم اللغة وعلاقتها بالفكر والدماغ ؟ آليات عمل الفكر ؟ ماهو الوعي الانساني ؟ ماهي الارادة والحرية وأين مكانها في الدماغ ؟ ماهي العواطف حقاً ؟ وعلاقة عمل العواطف بالعقل ؟ ماهي الشخصية ؟ أين الذاكرة وكيف تعمل ؟ وهل لها مراكز محددة وكيف تقوى وتضعف وتمرض ؟ ماهي النفس أو الروح وعلاقتها بالبدن ؟ وهل هناك ثنائية في تركيبنا ؟ وإذا وجدت فكيف تتفاعل هذه الثنائية على الشكل الذي طرحه الفيلسوف هيوم سابقاً عندما قال : ((هل هناك في الطبيعة مبدأ أكثر إسرارا من اتحاد الروح بالبدن ؟ فلو كانت لدينا سلطة تسيير الجبال أو السيطرة على أفلاك الكواكب وتمنينا أمرا باسرار فلن تكون هذه السلطة العظيمة أكثر غرابة ولا أصعب منالا على فهمنا)(17) ؟ ماهي الباراسيكولوجيا (PARAPSYCHOLOGY) التي بدأت في التشكل كعلم جديد مستقل عن السيكولوجيا ؟ كيف يمكن فهم سلوك الانسان من خلال عمل الدماغ ؟ كيف نفهم العبقرية والمرض النفسي والجنون في ضوء معلومات من تشريح الدماغ لاتفيد بتغير يذكر في البناء النسيجي بين العبقري والمجنون ؟ ماهو الوعي واللاوعي وأين توجد هذه الطبقات وكيف تتفاعل كما شرحتها مدرسة علم النفس التحليلي ؟ كيف نفهم المنام والأحلام التي تتحقق ؟ وفي النهاية هل يمكن فهم العنف في ضوء التركيب التشريحي والفيزيولوجي في الدماغ ؟ وكيف تتفاعل العضوية مع البيئة ؟ وكيف تتبادل الأدوار الجينات والمناخ البيئي ؟ وكيف يتفاعل عنصري الوراثة والمجتمع ؟ فكلها اسئلة ضخمة مصيرية تتصدى لها بالدراسة الأبحاث العصبية الجديدة، وعندما يفتح الباب لمزيد من فهم الانسان فإنه يعني دخول الانسان عصر التاريخ فعلاً، لأن الانسان هو التجلي الأعظم في الطبيعة وأعظم تحدي يواجهه هو معرفة نفسه والسيطرة عليها.

مراجع وهوامش :
(1) فيلم يد من حديد (HAND OF STEEL) عرض المسلسل الشيق لهذه القصة وكيفية تحررالانسان من البرمجة على الرغم من كل التكنولوجيا المتطورة، فالانسان يصعد فوق كل التقنيات المتطورة بالارادة والحرية (2) وحدة المعرفة _ تأليف الدكتور محمد كامل حسين _ مكتبة النهضة المصرية _ ص 11 ويذهب المفكر والفيلسوف السوري السلامي (جودت سعيد) الى هذا المنحى يراجع في هذا كتابه اقرأ وربك الأكرم _ والدكتور محمد كامل حسين كان اختصاصيا في جراحة العظام (الاورثوبيديا) كما شغل وظيفة رئيس جامعة في مصر قبل وفاته وهو مفكر من طراز رفيع وفيلسوف ويعتبر كتابه (وحدة المعرفة) القاعدة الفلسفية للطرح الذي تقدم به بشكل مبكر (3) نفس المصدر السابق ص 1 (4) كتاب الانسان ذلك المجهول _ تأليف الدكتور الكسيس كاريل _ نشر مكتبة المعارف _ ص 15 (5) يشبه الدماغ البشري والجمجمة : (الجوزة) فالغلاف قاسي والجوز الداخلي مزدوج، مثل نصفي كرة، وله غلاف سنجابي ولب أبيض، وهو في الدماغ الانساني القشرة المكونة من الخلايا العصبية وعددها حوالي مائة مليار خلية عصبية، وأما اللب الداخلي الأبيض فهو كابلات مهولة مكونة من ملايين الامتدادات العصبية مثل أسلاك التلفون أو التوصيلات في الاجهزة الالكترونية (6) كتاب العقل البشري (THE HUMAN BRAIN)_ تأليف جون فايفر (JOHN PFEIFFER)_ ترجمة الدكتور م. عيسى _ مكتبة النهضة المصرية _ بحث ارتياد قشرة المخ _ ص 33 (7) كتاب (اليابان تقول.. لا) _ شينتارو ايشيهارا _ دار الحمراء ص 21 (8) الدماغ والفكر (BRAIN AND THINKING - ORIGINS OF THE MIND) _ تأليف تشارلز فيرست _ ترجمة الدكتور محمود سيد رصاص _ مطبعة الصباح _ ص 6 (9) نفس المصدر السابق ص 8 (10) سورة فاطر الآية رقم 42 ومن الملفت للنظر أنها جاءت لتحرير الانسان من روح الغدر والتآمر التي هي ظاهرة متفشية في العالم العربي اليوم (11) تكنولوجيا السلوك الانساني _ سكينر _ ترجمة عبد القادر يوسف _ سلسلة عالم المعرفة رقم 32 ص 7 (12) مجلة معجزة التطور الانساني الألمانية (DAS WUNDER DER EVOLUTION) ص 56 عدد رقم 44 اصدار شهر ابريل 1996 م (13) يروى عن الاعرابي الذي ضرب بسيفه رأس عدوه أنه قال (تمكنت من سرج فرسي فلما ضربته بالسيف على رأسه قال.. قب فلما ذقته كان حلواً فعلمت أنه لن يفلت منها) فمذاق السيف هو من وصوله الى السائل الداخلي المملوء بالسكر، وهذا يعني تجرثم دموي تالي قاتل في الغالب (14) عقول المستقبل (THE SHAPE OF MINDS TO COME) _ تأليف جون تايلور (JOHN G. TAYLOR) ترجمة الدكتور لطفي فهيم _ سلسلة عالم المعرفة رقم 92 ص 28 (15)نفس المصدر السابق ص 28 (16) أشارت الى هذا المشروع مجلة صورة العلم الألمانية (BILD DER WISSENSCHAFT) وذكرت أن هناك مشاريع مشابهة في اليابان والولايات المتحدة (17) الدماغ والفكر ص 11.