ليس في استطاعة المريض الروسي توفير علاج من اي نوع كان للمريض السوري. لم تشف روسيا بعد من عقدة الاتحاد السوفياتي على الرغم من مرور عشرين سنة بالتمام والكمال على انهيار القوة العظمى الثانية في العالم وخسارتها الحرب الباردة. لم تتعلّم روسيا شيئا من تجربة سقوط الاتحاد السوفياتي واضطرارها الى الاكتفاء بالحدود الروسية بعدما كانت تسيطر على جمهوريات عدة استقلت تباعا عنها.
لم تستوعب روسيا الدرس. لا تزال تعتقد انها قوة عظمى بفضل امتلاكها مصانع اسلحة والسلاح النووي. لو كانت الاسلحة تصنع قوى عظمى، لكان الاتحاد السوفياتي حيّا يرزق. ما يصنع القوة العظمى تضافر لعوامل عدة على راسها الاقتصاد القوي والتعليم والتكنولوجيا المتطورة والمؤسسات الديموقراطية. لو استطاع الاتحاد السوفياتي بناء اقتصاد قوي ومؤسسات ديموقراطية، تمثل النقيض التام لما كان عليه نظامه، لما استنزفته حرب افغانستان وكارثة تشيرنوبيل وتهديدات رونالد ريغان بالدخول في سباق للتسلح من نوع جديد تحت عنوان quot;حرب النجومquot;.
تكمن مشكلة روسيا في انه على الرغم من مضي عقدين من الزمن على عودتها الى داخل حدودها، لا تزال تعتقد انها قوة عظمى وان من حقها التدخل الى جانب انظمة عفا عنها الزمن تقمع شعوبها ودعم هذه الانظمة. هذا في الظاهر. اما في الواقع، فانّ موسكو لم تستخدم الفيتو في مجلس الامن التابع للامم المتحدة الاّ من اجل الدخول في مساومات مع واشنطن تصب في نهاية المطاف في مساعدة فلاديمير بوتين على الحصول على شرعية معيّنة بعد انتخابات الرئاسة المتوقعة في الرابع من آذار- مارس المقبل.
ما هذا النظام الروسي، الساعي الى لعب دور القوة العظمى، على الرغم من انه فشل في اقامة مؤسسات ديموقراطية ولا يزال يبحث عن شرعيته في واشنطن؟ يفعل ذلك من منطلق ان واشنطن هي الجهة التي تؤثر على الشارع في موسكو ومدن اخرى وانها قادرة على الطعن في نتائج الانتخابات الروسية المقبلة وانها كانت، من وجهة نظره، وراء التظاهرات التي شهدتها مدن روسية قبل اسابيع قليلة احتجاجا على نتائج الانتخابات التشريعية.
مثل هذا النظام الروسي الباحث عن دور في سوريا من اجل الدخول في مساومات مع الاميركيين والاوروبيين، على راسهم الالمان، لا يستطيع توفير اي علاج ناجع للنظام السوري. كلّ ما يستطيع عمله، بالاتفاق مع الصين طبعا، يتمثل في توريط النظام السوري اكثر فاكثر في القمع وفي المواجهة مع شعبه. انه اختصاص روسي موروث عن العهد الستاليني. قاد هذا الاختصاص الاتحاد السوفياتي في الماضي الى دعم ديكتاتور دموي مثل منغستو هايلي مريم في اثيوبيا او سياد بري في الصومال وتشاوشيسكو في رومانيا وعشرات آخرين والى الاعتقاد ان في الامكان اقامة نظام ماركسي في ما كان يسمّى حتّى العام 1990 quot;جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبيةquot;...
لا مجال لتعداد المآثر السوفياتية وصولا الى التدخل عسكريا في افغانستان لاسقاط نظام ملكي كان يمكن ان يطور البلد وان يحول دون وصول quot;طالبانquot; الى السلطة في مرحلة معينة. quot;طالبانquot; هي في النهاية نتيجة اخطاء ارتكبها السوفيات في افغانستان، مع الاعتراف طبعا انها صنيعة الاجهزة الباكستانية بالتفاهم مع الاميركيين في البداية!
لا مجال خصوصا لتعداد المآثر السوفياتية في المنطقة العربية، بما في ذلك المساعدة في توريط جمال عبد الناصر في حرب العام 1967 بعدما جرّه اليها النظام السوري المغامر جرّا. الاكيد ان لا مجال ايضا لشرح كيف تخلى السوفيات عن اعز اصدقائهم وحلفائهم في لبنان. على راس هؤلاء كمال جنبلاط الذي اغتاله النظام السوري في العام 1977 كي تسهل عليه السيطرة على لبنان وفرض وصايته على الوطن الصغير بضوء اخضر اميركي، فيما موسكو تتفرّج...
لم يتغيّر شيء في موسكو. لا تزال العقلية نفسها هي المهيمنة. لا يزال هناك من يعتقد ان في الامكان انقاذ النظام السوري كي يمعن في قتل السوريين واذلالهم. لم يقتنع بعد الحكام الروس بانّهم يسيرون ضد منطق التاريخ وان ليس في استطاعتهم اعادة عقارب الساعة الى خلف لا في سوريا ولا في اي مكان آخر فيه ثورة شعبية حقيقية.
في النهاية، لا يمكن للسوريين الاّ ان يستعيدوا سوريا بغض النظر عن الموقف الروسي. هناك نظام مريض انتهى منذ فترة طويلة. ليس في امكان مريض آخر، هو المريض الروسي انقاذ المريض السوري. كلّ ما يستطيع المريض الروسي عمله هو تشجيع المريض السوري على التعجيل في الرحيل اليوم قبل غد. هل من نظام قصف شعبه بالطريقة التي تقصف بها حمص يستطيع البقاء على قيد الحياة طويلا؟
اثبت الشعب السوري انه شعب لا يقبل الذلّ الى ما لا نهاية. مرّت ثلاثة عقود على احداث حماة. ان كلّ سوري يتذكّر حماة وما حلّ باهلها. وقتذاك، في العام 1982، لم تتجرّا صحيفة او وسيلة اعلام لبنانية على نشر كلمة عن المجزرة التي تعرّض لها اهل حماة وذلك على الرغم من ان تفاصيل ما حصل بلغت بيروت.
بعد ثلاثين عاما، جاء دور حمص. كلّ الاعلام، في كلّ العالم، يتحدث عما تتعرض له المدينة الشهيدة التي حسمت بفضل صمودها، مع مدن ومناطق اخرى، مصير النظام السوري. الا تريد روسيا تعلّم شيء من هذه المفارقة التي تختصر التحولات التي شهدها العالم في العقود الثلاثة الاخيرة والتي جعلت الاتحاد السوفياتي ينهار فلم يبق منه الا روسيا، روسيا التي لم ترث منه سوى امراضه...