الحلقة الاولى

نظرية التحليل النفسي
لخص فرويد تعريفه لابنته آنا حين سألته عن مفهوم التحليل النفسي ذات يوم قائلا: quot;هل ترين هذه المنازل بواجهاتها المختلفة، انها تشبه الكائنات البشرية، والتحليل النفسي هو الذي يغوص في اعماق هذه الكائنات كما يخترق المرء البنايات لاكتشاف دواخلها.
وفي ضوء هذا الرأي فان مهمة الطبيب النفسي ليست دفع المريض الى التنفيس او التفريغ عن تلك الرغبات المكبوته، بل الكشف عنها لاعادتها مرة اخرى الى دائرة الوعي، لكي يواجه المريض مرضه النفسي الذي فشل في حله سابقا، ويعمل جاهدا على حله من جديد وذلك باصدار حكم عقلي عليه.
وليس من الغريب ان يؤول التحليل النفسي الى نظرية تؤول الاخلاق والدين والاساطير والاخطاء العفوية، بحيث ان تأويل هذه الامور حسب مفهوم الرغبة عند فرويد، يقودنا الى حقيقة اساسية تجري على الانسان مثلما تجري على باقي الكائنات الحية.
ومع ان تفسير فرويد لا يعود في الحقيقة الى الاساس البايولوجي، بقدر ما يعود الى الاوضاع الاجتماعية والثقافية والدينية، التي صنعت النظام الابوي ـ البطريكي، فان نظريته ما تزال موضع اهتمام كبير. وينبع هذا الاهتمام من انه مكتشف طريقة التحليل النفسي، التي تطورت على يد تلامذته المقربين، الذين يطلق عليهم quot;بالفرويديين الجددquot; وان اعماله العديدة وتجاربه السريرية وخبراته في التحليل النفسي ستظل تثير بدون ادنى شك كثيرا من السجال والنقد في المستقبل.
والواقع، ان من اهم مميزات فرويد كعالم نفس ومفكر وفيلسوف، انه مجدد وشجاع بتحديه النظريات التقليدية في دراسة العقل البشري والسلوك الانساني رغم الانتقادات العديدة التي وجهت الى نظريته وبخاصة نظريته في الاحلام وتلازم الكبت مع الجنس بقوة وادعاءه بكون الطفل كائن جنسي تعرض لقمع على يد ابويه، اضافة الى عقدة اوديب وعقد الاخصاء عند النساء. وغالبا ما يصطدم المرء بادعاءات تفتقر الى دليل، حيث يخلط فرويد بين المتعة بشكل عام وبين المتعة الجنسية تحديدا.

العقد النفسية: أوديب والكترا
في كتابه quot; التوتم والتابوquot; حلل فرويد العلاقة بين الابن وامه والبنت وابيها، باعتبارها علاقات حب وغيرة وتناقض بين المحرمات والمباحات وبين الرغبات الجنسية وعدم اشباعها. وقد كونت هذه العلاقات المزدوجة عقدا نفسية تاخذ شكلين اساسيين هما:
Oedipus Komplexاولا quot;عقدة أوديبquot; وهي بحسب فرويد، من اخطر العقد النفسية التي يقابلها الطفل في حياته: فالابن غالبا ما ينجذب نحو امه، او يميل نحوها ميلا جنسيا مع كره للاب والغيرة منه في ذات الوقت. ولما كانت هذه العلاقة quot;محرمةquot; لذا تتولد عنها عند الاب غيرة خفية، وكذلك تناقض تجعل الولد مزدوج الشخصية ينجذب الى ابيه وينفر من امه في ذات الوقت، وان هذا التناقض يعكس التعارض بين الحب والغيرة.
وتعود هذه الاسطورة الى اسطورة يونانية قديمة تقول بانه ولد للملك لايوس، ملك طيبة ولد. وقد تنبأ الإله أبولو بان هذا الطفل سيقتل اباه ويتزوج امه. ولم يكن بوسع ملك طيبة الا ان يتخلص من شر ابنه. وللتخلص منه سلمه الى راعي وامره بتركه على سفح جبل. ولكن الراعي لم يطاوعه قلبه فاعطاه الى راعي آخر اعطاه بدوره الى سيده ملك كورنث الذي تبناه واطلق عليه اسم اوديبوس.
عندما كبر اوديبوس وسمع بنبوءة ابولو هام على وجهه وقادته قدماه الى مدينة طيبة. وصادف ان مرت عربة الملك لايوس باوديب الهائم على وجهه، وداست عجلتها على قدمه، ثارت ثائرته وهوى على من في العربة فقتلهم جميعا من دون ان يعلم ان من في العربة هو ابوه الحقيقي.
وكانت الإلهة هيرا ارسلت الغولة سفنكس لتعاقب اهالي طيبة وملكها، غير ان اوديب حزر الغازها واسقط في يدها فالقت بنفسها من اعالي الجبل وهلكت. وردا للجميل لما قام به اوديب وانقاذ اهالي طيبة من شرور الغولة اعلنوا ان يكون اوديب ملكا عليهم وان يتزوج الملكة ايوكاستا، من دون ان يعلم انها امه. وبسبب هذه الخطيئة حل الطاعون والدمار بمدينة طيبة. وحين اكتشف اوديب انه هو من قتل اباه وتزوج امه، فقأ عينيه بدبوس وهام على وجهه. وعندما علمت الملكة امه بذلك قتلت نفسها ايضا.
ثانيا عقدة الكترا Electra Komplex وتنشأ من العلاقة العاطفية بين البنت وابيها، حيث تبدأ البنت تغار من امها وتحبها في ذات الوقت. وهكذا تنشأ ازدواجية في شخصيتها ايضا.
وتعود اصل هذه العقدة الى اسطورة يونانية قديمة تقول بان الكترا بنت اغا ممنون ملك سينا كانت قد اغرت اخاها أورستي على الانتقام من امها وعشيقها لانهما قتلا اباها اغا ممنون.
فسر فرويد هذه المأساة على انها رمز لميل الرجل الى امه، وان هذا الميل هو نزعة غريزية كامنة في الانسان. وقد استوحاها فرويد من هذه الاسطورة وعممها على الجنس البشري.
وقد دحضت هذه النظرية من قبل عدد كبير من علماء النفس المعاصرين وكذلك من قبل عدد من الانثروبولوجيين وبخاصة ما قام به الانثروبولوجي المعروف مالينوفسكي في دراسته الميدانية حول سكان جزر التروبرياند في المحيط الباسيفيكي في جنوب شرق اسيا.
في كتابه الجنس والكبت في مجتمع متوحش، (1927) قدم نقدا لنظرية التحليل النفسي الفرويدية في تصورها كيفية تاثير مرحلة الطفولة على الشخصية. وتسائل مالينوفسكي: هل ننظر الى عقدة quot;اوديبquot; كما رآها فرويد، علما انها ظاهرة انسانية عالمية توجد في كل المجتمعات والثقافات، ام انها من نتاج شكل معين من اشكال النظم العائلية؟ وهل يمكن ان تظهر في مجتمع يسود فيه نظام القرابة الامومي؟ كما اشار مالينوفسكي الى ان دور الاب في المجتمعات، التي هي مجتمعات ابوية بطريركية، يختلف تماما عن دوره في المجتمعات الامومية.
في دراسته الميدانية لخصائص العائلة في جزر التروبرياند وتتبع نظام القرابة الامومي، وجد مالينوفسكي، ان الولد ينتسب الى امه ويصبح المولود عضوا في عشيرة الام، ولا يرتبط بعلاقة قرابية مع عشيرة الاب، ولذلك يرتبط اسمه باسم عائلتها ولا يرث الابن شيئا من ابيه بل يرث من خاله، صاحب السلطة الرئيسية في العائلة والمسؤول الاول فيها. وتليه في المركز اخته التي لها مركز اجتماعي واقتصادي مرموق من خلال ممتلكاتها الخاصة. ولذلك لا يحدث ان يشاهد الاطفال امهم وهي في حالة خضوع لزوجها.
وقد لاحظ مالينوفسكي، انه بالرغم من ان الاب يعيش في قريته، غير انه لا يهمل اطفاله، بل ويهتم بهم كثيرا ويلعب معهم. كما لاحظ بان الاطفال يتمتعون في المجتمع التقليدي بحرية كبيرة وفي جميع المجالات. فهم يعيشون في سعادة ويسود الوفاق بين الازواج ولا توجد عندهم امراض نفسية ولا عقد جنسية ولا افكار متطرفة. ويصل مالنوفسكي الى نتيجة انه ليس هناك دليل يؤيد وجود عقدة quot;اوديبquot; لانهم يتمتعون بشخصيات سوية، فلا توجد عندهم رغبات مكبوتة ولا ميول عدوانية نحو الاب، بل بالعكس فقد اظهر الابناء في بعض الاحيان مشاعر عدوانية نحو اخوالهم. وهذه الظاهرة اوصلته الى النتيجة النهائية، وهي عدم وجود عقدة quot;اوديبquot; في مجتمع التروبرياند، كما وصفها فرويد، وعلى المرء ان لا يفترض وجود مثل هذه العقدة وألا يعممها على جميع المجتمعات في العالم. ويخلص فرويد الى ان quot;عقدة اوديبquot; تعود الى الدور التسلطي الذي يتمتع به الاب في المجتمعات الغربية، وكذلك في الثقافات التي تعتمد على التسلسل القرابي الابوي. كما يسط ملينوفسكي الضوء على حقيقة هامة اخرى، تكمن في نظرة الناس الى الجنس وتعبيرهم عنه باساليب وطرق متنوعة حسب الثقافات المختلفة، وان الجنس، ليس ظاهرة بيولوجية فحسب، وانما هي متغيرة تخضع لثقافة المجتمع.
ان توكيد فرويد الشديد على الغريزة الجنسية واعتباره مراحل النمو الجنسي والنفسي انعكاسات لقانون بيولوجي عام، انما يعكسان عدم الاهتمام بالطريقة التي تسهم بها الثقافة في العلاقات الاجتماعية.
لقد كان فرويد ابنا بارا لعصر التنوير مستكملا مسيرة النظريات التطورية، مقتبسا من الدارونية بحثها عن اسباب النشوء والارتقاء لاشكال الحياة، ومن ماركس تنقيبه عن الاسباب الحقيقية والمحركة في تشكيل الوعي الاجتماعي، كما اخذ عن نيتشه انحيازه الى تلبية الرغبات من اجل البقاء في الحياة، ساعيا الى الاخذ من كل نظرية منها جزءا ليكون من تلك الاجزاء نظرية مقننة حول السايكولوجية الانسانية التي تمرد فيها على عصر التنوير.
وبحسب فرويد، فان ثمة عالما غامضا ومخيفا يكمن في الطبقات السفلى للعقل الواعي يتشكل فيه الوعي الحقيقي للعقل البشري، المعرض الى الانفجار اذا لم تلبى الرغبات الاساسية لهذه الغرائز الدفينة الى حد الاشباع.
وقد جعل فرويد من اللاوعي عقلا غريزيا داخليا وكامنا يقابل العقل الواعي. وهو ما دفع فرويد الى تعميم هذه الظاهرة على المجتمعات والدول والامم باعتبارها ذاتا جماعية لمجموع افرادها. وقد كونت هذه الظاهرة ايضا الخلفية السياسية لنظرية اللاوعي لدى فرويد التي صاغها في مؤلفه الموسوم quot;قلق الحضارة quot;، الذي ينتج عن النزاع الدائم بين ضغوط الانا العليا التي مردها القوانين والاعراف والقيم والتقاليد التي يتوارثها المجتمع جيلا بعد جيل وبين ضغوط الانا السفلى وهي اللا وعي، الذي يختزن كما هائلا من المكبوتات. وبين الاثنين تقف ضغوط الانا الذاتية التي تحاول اقامة تسوية بين الاثنين للحفاظ على النظام الاجتماعي العام. غير ان كثيرا من الافراد لن يكن بمقدورهم الصمود طويلا وكذلك المجتمعات، على مقاومة الصراع و النزاع بين افرادها من جهة، وبين مجتمعات ومجتمعات اخرى للاسباب ذاتها.
ان نظرية فرويد لم تستطع في الحقيقة وضع حد للصراع والتناقض بين الانسان وذاته من جهة، وبينه وبين المجتمع من جهة اخرى. وهو يحذر من الازمات التي تجابه البشرية، التي لا بد وان تحدث انفجارا مدمرا على مستوى الفرد وكذلك على مستوى المجتمع. ان هذه النظرية التشاؤمية جعلت الفرويديين الجدد يستبدلون نظريته بنظريات اخرى على نمط نظريات ما بعد الحداثة.