لا أتفق مع كثير من الذين يقولون بأن انتشار السلفية في مصر، كان حدثاً مفاجئاً، أو مع الذين يعزون زيادة عدد أتباعها الى مؤامرة أميركية، لضرب الإسلاميين المعتدلين، وعلى ما أعتقد فإن نبتة السلفية، التي زُرعت في البلاد منذ فترة طويلة، وجدت في ظروف ثورة يناير، من يسقيها بوفرة، فتطاولت وأصبح لها فروع شتّى. والسلفيون الذين سبق لهم أن حرّموا الثورة، واعتبروا الديمقراطية والدستور، من مظاهر حكم الطاغوت، أنقلبوا على عقيدتهم وفقههم القديم، فبعد ان كانوا يروجون لأحاديث مشكوك في صحتها، من قبيلquot; أطِع الأمير وإن ضرب ظهركquot;، ليبرروا مؤازرتهم للنظام السابق، وتواطؤهم معه في التصدي لانتفاضة الشعب، دخلوا الانتخابات بقوّة، وسلاحهم الأمضى، رشوة الجماهير الفقيرة، من أموالهم الوفيرة (ذات المصدر الخارجي)، وفضائياتهم العديدة، مستغلين أجواء الفوضى، التي غالباً ما تترافق مع الثورات الشعبية، وكانت الحصيلة زيادة شعبيتهم وسط جمهور تسحقه الحاجة، ولا يهمه من أين يأتي المال.
أن العامل الأهم في صعود نجم السلفيين، مقابل منافسيهم، هو ذلك المال وما جلبه من وسائل إعلام، وهذا ما افتقر اليه اليساريون، والشيوعيون، والليبراليون، الذين شكّل بعضهم أحزاباً وطنية، منذ العقود الأولى من القرن الماضي، وكانوا يعتمدون في تمويلهم على تبرعات منتسبيهم ومؤازرة أصدقائهم، والأهم من ذلك، كان رصيدهم المعرفي، وسعيهم الدائم لترقية ثقافة المجتمع، في مرحلة كان الناس يتطلعون الى تحرير عقولهم من غبار العهود المظلمة، ويتبارون في فضل تعليم بناتهم.
ولكن الصعود شيئ والاستمرار شيئ آخر، ذلك أن الكثير من الثوابت العقيدية لدى السلفيين، تتعارض كلّياً مع تديّن معظم المصريين، وهذا ما عبّر عنه بوضوح مفتي الجمهورية، الدكتور علي جمعة، في إحدى خطبه، فقد دعى على بعض السلفيين، الذين قاموا بهدم أضرحة تاريخية، أعتاد الناس على زيارتها وتبجيل أصحابها، باعتبارهم رجال صالحين، وذوي كرامات، وقال عنهم: إنهم يريدون أن يهدموا ضريح المصطفى عليه الصلاة والسلام، ويعتبرون ضريح سيدنا ومولانا الحسين، صنماً، قطعت ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم. وكان المفتى، في أحاديث عديدة، قد وجّه انتقادات حادّة للسلفيين، معرباً عن دهشته من إهمالهم لمعظم فقهاء المسلمين وعلمائهم، وتركيزهم على أقوال فقيهين فقط، هما إبن تيمية وأبن القيّم، وتساءل قائلاً: لماذا نأخذ الكتاب والسنّة من فقيهين فقط؟ كما عبّر عن استغرابه من هجوم السلفيين على الأشعرية ( نسبة الى أبي الحسن الأشعري، من أئمة أهل السنّة والجماعة - 260-324 للهجرة )، وقال : كلنا أشعرية. بالإضافة الى ذلك، أشار الى نقطة مهمة هي افتقار السلفيين الى المعرفة الدينية الصحيحة.
وكان كبير دعاة السلفية، الشيخ أبو إسحاق الحويني قد تناول بالنقد الحياة الشخصية للمفتي، وسخر من كفاءته العلمية، ما دعا الدكتور جمعة الى رفع قضيّة سب وقذف، ضده، في أواخر العام الماضي (وائل لطفي- روز اليوسف 29 أكتوبر 2011) . ومما يدعو الى التفاؤل أن الكثير من علماء الأزهر وبعض أعضاء الفرق الصوفية، عبّروا عن تضامنهم مع المفتي، في وقفة مؤازرة، وقدّر عددهم ببضعة آلاف.
ومن المفارقات المضحكة المبكية، إن الشيخ الحويني الذي عُرف عنه مناصرته لنظام مبارك، ركّز في هجومه على المفتي، كونه معيناً من قبل السلطة، وهذا بالطبع ليس ذنه، ففي عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، أحكمت الدولة قبضتها على كل مناحي الحياة، فحلّت الأحزاب، وألغت جميع مظاهر المجتمع المدني، وكان منصب المفتي في هذا السياق، تعييناً وليس انتخاباً.
وأغلب الظن، إن شخص المفتي ليس هو المستهدف بقدر استهداف مؤسسة الأزهر العريقة، لكونها تشكّل حاجزاً معنوياً أمام امتداد السلفيين، وهم يسعون الى انتزاع المكانة التاريخية لها، ومن ثم تدميرها ليستخلفها مشايخهم، ويبدو إن سلوكهم ينسجم مع منطقهم العام، فهم على طرف نقيض من حضارة مصر، بكل جوانبها، من علوم وفنون وتديّن، وتصوف، وتراث قديم، فهم يفزعون حتى من التماثيل، فكيف لهم أن يتحملوا أصواتاً تنتقدهم وتشرح أفكارهم دون رياء أو مجاملة.
ولكي لا يكون حديثي، معرض استغراب من قبل من يقرأوا لي، أقول انني لست في باب الدفاع عن المفتي، وإن كنت أتفق مع ما قاله في نقد السلفية، وما يهمني هو التأكيد على إن مؤسسة الأزهر، على الرغم من طابعها المحافظ، إلا إنها جزء من تاريخ مصر وحضارتها، وقد تخرّج منها علماء أفاضل، ساهموا في نهضة بلادهم، وترقية وعي أبنائها، من أمثال الشيخين محمد عبده، وعلي عبد الرازق، والشيخ محمود شلتوت ويمكن للأزهر أن يضطلع بدور كبير في التصدّي للدعوات الظلامية، واستعادة الجماهير التي غرر بها دعاة السلفية، كي تسهم في بناء وطنها بعيداً عن أجواء التعصب والمقت.
وكان الدكتور حسن شافعي، مستشار شيخ الأزهر، قد تحدث قبل أيام ، عن مساعِ لتعديل القانون رقم 103، الذي أصدره عبد الناصر، بما يكفل فصل مؤسسة الأزهر عن سلطة الدولة، وانتخاب رئيسها من قبل هيئة كبار العلماء، وكان القانون المذكور قد ألغى هذه الهيئة.
وما آمله أن تؤدي استقلالية الأزهر، إذا ما تحققت فعلاً، الى اتساع فضائه المعرفي، ومسايرته لروح التطور، وأن لا يكون الإستقلال حافزاً على رسم مزيد من الحدود أمام حرية الثقافة والإبداع، أقول هذا وأنا أتذكر قرارات سابقة صدرت عن مجلس البحوث في الأزهر، التي بموجبها منعت كتب كثيرة.

[email protected]