الحلقة الاولى

-2- ذكريات منسية
رسالة شفوية، لرئيس سابق للدولة السورية، من بطل القادسية،

الذي نسي مع حكام البلاد العربية، مواعظ الآيات القرآنية

وكانت هذه الحرب العراقية- الإيرانية وبالا على العراق في الداخل أيضا، فقد نكّل فيها القائد المحنك بكل من تلكأ في المثول في وحدته العسكرية وخاصة بالافرار من الخدمة العسكرية، فمثل بهم وقطع اكفهم ورسم وصمة عار في جبين البعض في مستشفياته العسكرية، واعدم الكثير منهم بوشاية أو نميمة للانتقام من ذويهم، وأثبت الشيعة العراقيون ولاءهم الذي لا يتزعزع وإخلاصهم للعراق وذلك على عكس ما توقعت إيران بأن شيعة العراق سيكونون رتلا خامسا لها بالرغم مما كان يعرف من إن حكام العراق من السنة كانوا غير منصفين نحوهم بل بتهمون بانهم عاملوهم معاملة مجحفة بحقهم، ونكل صدام بكل من يمت بصلة لإيران وخاصة بالأكراد الفيلية والقاهم على الحدود الإيرانية دون مأكل أو ملبس واختفت آثار العديد منه، وضرب حلبجة وقرى الاكراد في كردستان عام 1988 في عمليات الأنفال البشعة الوحشية، بالغازات السامة المحرمة دوليا، قام بها على حسن المجيد المعروف بالكيماوي، من زعماء حزب البعث الغاشم. وتكبد الجانبان الخسائر الجسيمة في الارواح والممتلكات والمعدات العسكرية. وكنا نسمع أخبار تعليق رجال الدين الايرانيين في أعناق الاطفال والجنود الإيرانيين على الحدود بتمائم يسمونها مفاتيح الجنة تؤكد لهم دخول الجنة كشهداء ثم يرسالونهم يعدون في حقول الالغام تمهيدا لهجوم الجيش الإيراني، فيا للحكمة في المناورات الحربية ويا للاستهانة بحياة افراد الشعب، وquot;كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيتهquot;. ولم يتعلم الإيرانيون العبرة من حرب العراق، ولا زالوا يصرون على تحدي العالم بالحصول على السلاح الذري، وتناسوا المثل العربي quot;إن كنتَ ريحا فقد لاقيت إعصاراquot;.
لاحقـتـني أنباء هذه الحرب الطاحنة المريعة بين العراق وإيران بأهوالها الى لندن، فعندما كنت أسير في شارع quot; توتنهام كورت رودquot;، حيث كان يقع مكتب الاستعلامات العراقية، شاهدت على واجهة المكتب صور التعذيب التي كان الايرانيون يمارسها مع الاسرى العراقيين في هذه الحرب غير المتكافئة الطاحنة، ومنها صورة هالتني ولاحقتني في يقظتي ومنامي خلال عدة أسابيع ولا استطيع نسيانها الى اليوم، وهي صورة لجندي عراقي ربط ساعده ورجله اليمنى بالحبال الى سيارة ايرانية عسكرية واليسرى الى سيارة أخرى يقودها عسكريون ايرانيون باتجاه معاكس. تفرست في صورة الجندي العراق الأسير المعنّى، وفي صرخته المدوية المعذبة، وهالني ما خيل لي أنني أرى، وغامت الدنيا في عينيّ، هل هذا احد ابناء أواحفاد أبو علوان الذي حمانا في الفرهود؟ ففيه شبه كبير بأبي علوان، وهل الصرخة المدوية التي سمعتها من فم الجندي العراقي المعذب، هي النجدة التي كان أهله يعولون بها في المآتم وإذا لحقهم ضيم: quot;وينك يا الاسد، يا حامي الديار يا يابا؟quot;، quot;وينچ، يا حبيبة يا يما؟quot;. أرقتني صورة الجندي العراقي الأسير الذي يشبه بستانينا المرحوم أبو علوان، وسمعت صرخته الهائلة المدوية المعذبة وصداها يتردد في سمعي ووجداني عند انطلاق السيارتين في اتجاه معاكس وذارعه اليسرى المقطوعة ما زالت في الهواء مرتبطة ببقابا قميصه العسكري الممزق. لعنت الحروب وأهوالها وويلاتها وما تجره من سفك للدماء والدمار والعذاب بين الأحياء الذين نجو منها، وكيف تجعل جنودها مخلوقات متوحشة مفترسة قاسية تبغي الانتفام والولوغ من دم الأعداء. ليت صداما لم يتورط في هذه الحروب التي دمرت العراق وظل سائرا على نهج عبد الكريم قاسم في انشاء المدارس والمستشفيات ودور السكن ومحاربة الأمية كما فعل صدام في بداية حكمه. وإني اعترف، والحق يقال، بان الطالبات والطلاب اليهود العراقيين الذين فروا من حكم البعث، في مطلع السبعينات من القرن الماضي ودرسوا اللغة العربية وآدابها في الجامعة العبرية من امثال الصحفية ليندا عبد العزيز والسيدة راحيل طويق- خلاصجي، وأورنا إلسون و أو من اللواتي تعرفت عليهن فيما بعد منال العماري وغيرهن ممن طردوا أو هربوا من العراق بسبب ملاحقات صدام البعث لهم من خريجي مدرسة فرنك عيني والجامعات العراقية، فقد كن اوسع ثقافة واكثر اعتدادا بالنفس من بعض شباب هجرة عامي 1950-1951ـ لانهن لم يسكن في الخيام مثلنا وعاملتهن المؤسسات الحكومية باحترام وأهلتهن بعد ان تعلمت من اخطاء الماضي وحصلت على ميزانية افضل في استيعاب القادمين الجدد بصورة مشرفة،. فقد كان شباب هذه هجرة مطلع الخمسينات يعانون من ذكريات الفرهود والاعتداءات المتواصلة عليهم وتجميد اموالهم وخروجهم خالي الوفاض، كل هذا جعل شباب الموجة الأولى من الهجرة فاقد الثقة بالنفس يشعر بالمهانة لتصرف السلطات العراقية نحوهم، وزادت فترة القائهم في خيام معسكرات اللاجئين الطين بلة لانعدام الاعمال الملائمة لثقافتهم وهبوط مستواهم الاجتماعي والاقتصادي مما اصابهم بصدمة اجتماعية وحضارية عنيفة جعلتهم يشعرون بالمهانة والظلم.
تركت واجهة مكتب الاستعلامات العراقية في شارع quot;توتنهام كورت رودquot; بأسى وسرت الى مكتبة معهد الدراسات الأسيوية والافريقية القريبة من جامعة لندن مطرق الرأس كالمصعوق، وتهالكت على احد المقاعد في قاعة المطالعة. مرة آخرى تسخر بي الأقدار، تفرست في وجه الطالبة التي كانت جالسة أمامي وهي تبتسم لي، يا الله! اين المفر من العراق، لماذا تضع الاقدار العراقيين في طريقي اينما أتوجه؟ كانت الفتاة التي جلست أمامها دون وعي مني الطالبة العراقية ساجدة التي كانت تعد رسالة الدكتوراة عن بني إسرائيل في التوراة والقرآن، وكنت قبل أسبوع قد استمعت الى محاضرتها في إحدى المؤتمرات في الجامعة، وامتدحتُ النتائج التي توصلتْ إليها، لا لأنها عراقية، بل لأنها فنـّدت ما ذكره البروفيسور كارل بروكلمان الألماني في تعليقه على quot;نشيد الأنشادquot; في التوراة، متهما هذه القصائد الخالدة في الحب بأنها تتحدث عن الحب الجسدي والشهواني البهيمي، فأنكرت ساجدة ما قاله هذا المستشرق الشهير الذي ألف كتابه الموسوعي الكبير quot;تاريخ الأدب العربيquot; ونشر في 1949-1943، أي بدأ بتأليفه في العصر الذي كان فيه هتلر مسيطرا على زمام الحكم في ألمانيا، وحرص النازيون على تشويه كل ما يمس باليهود والساميين من إنجازات، حتى عزا النازيون قصائد هايني الشاعر الألماني اليهودي العظيم، فخر الشعر الألماني، الى شاعر مجهول لتهميش انجازات اليهود في ألمانيا. ردت التلميذة النجيبة ساجدة على هذه الإفتراءات بأن تصوير الحب بتشبيهات جسدية هو تصوير رمزي، كما أن الحب والخمر في الشعر الصوفي العربي الإسلامي هي رموز للوجد والحلول الإلهي، فهذه رابعة العدوية توظف في قصائد العشق الإلهي مصطلحات من الحب الجسدي مجالس الخمر للتعبير عن محبتها لله بحبين جسدي وروحي:

أحبك حبين: حب الهوى وحـبّا لأنـك أهـل لـذاكـا
فأما الذي هو حبّ الهوى فذكرٌ شُغلت به عن سواكا
وأما الذي أنت أهلُ له فكشفُك الحُجب حتى أراكا
فما الحمدُ في ذا ولا ذاك لي ولكن لك الحمد في ذا وذاكا

***
كأسي وخمري والنديم ثلاثة وأنا المشوقة في المحبة: رابعه
كأس المسرة والنعيم يديرها ساقي المدام على المدى متتابعه
فإذا نظرتُ فلا أُرى إلا له إذا حضرتُ فلا أُرى إلا معه

فأفحمت أنصار التيار المشوه للانجازات اليهود في أوروبا في الأبحاث التي قام بها النازيون آنذاك. وأنا اضيف هنا أن بعض الباحثين يذهبون إلى القول، إن الحركات الجسدية التي يقوم بها المشتركون في حلقات الذكر الصوفي، واليهود المتطرفون في صلاتهم، تشبه الحركات الجنسية، كأن الذاكر والمصلي يحاولان الاندماج الروحي والجسدي اثناء وَجْده الديني الحلولي.
حدثتُ ساجدة عن الأثر العنيف الذي خلفته الصورة المرعبة الرهيبة في نفسي، وان الجندي العراقي الأسير يشبه أبو علوان البستاني الذي كان يعمل عندنا والذي حامانا في الفرهود، ولعله من احفاده. قالت لي مواسية، لم يبق في العراق عائلة لم تقدم شهيدا في هذه المعمعة الشيطانية الرهيبة، وحدثتني عن التضحيات الهائلة التي ضحى بها الشعب العراقي، وتنكيل حكام البعث بالشعب العراقي مثل بتر كف اليد أو رسم وصمة العار على الجبين في مستشفيات العراق للذين اتهموا بالفرار من الخدمة العسكرية والهروب من ساحات المعارك، وسجن وتعذيب اقرباء الفارين من الجيش، وإهمال العوائل التي لم يستشهد أحد من ابنائها، وكيف كانت تغتصب الفتيات أمام آبائهن لكي يدلوا بالمعلومات التي أراد النظام استخلاصها من الآباء أو الأخوة. وفي جامعة بون سمعت فظائع أخرى من الآنسة ياسمين وهي ابنة لأب شيعي وسيدة المانية، عن عذاب الشعب العراق في الداخل، وكيف كان على كل عائلة ان تقدم ضحية لهذه الحرب الضروس لكي تحظى برضى الزعيم الحكيم المحنك، وعن هول الغارات الجوية الايرانية على بغداد والهلع الذي كان يصيب السكان العزل في هذه الغارات، والجوع والغلاء وتدهور قيمة الدينار العراقي الذي حافظ عليه بإصرار وزير المالية الأول السير ساسون حسقيل، وقلة الادوية واكتظاظ المستشفيات بالجرحى والملاجئ بالهاربين من الغارات. وكيف كانت وهي تلميذة في الجامعة في ألمانيا تدخر من مالها كل شهر لإرسالها الى اهلها في بغداد إعانة لهم لترد عنهم غائلة الجوع.
هكذا أنهك وينهك الحكام الجدد، ممن اطلقوا على انفسهم بـquot;ـالضباط الاحرارquot; وعلى حركاتهم الانقلابية بـquot;الثورات المجيدةquot; من الذين قاموا بانقلابات عسكرية لخلع ملوكهم، شعوبهم بحروب ومنازعات محلية وأقليمية وتبذير الأموال على الأسلحة والتسابق على شرائها من الدول الصناعية المختلفة بدلا من انفاقها على المدارس والجامعات والمستشفيات ومحو الأمية والفقر والجهل ومحاربة الفساد والرشوة والاختلاس وسرقة أموال الشعب والوطن. حتى لم يبق في القوس منزع فثارت الشعوب العربية على quot;الضباط الأحرارquot; الذين اسقطوا ملوك العرب فقتلوا العائلة المالكة العراقية في مذبحة قصر الرحاب ولم يرحموا شباب الملك الشاب الواعد فيصل الثاني، ولا احترموا القرآن الكريم التي أرادت جدته ان تحميه بحرمته، ولم تفلح في التصدي بشفاعته لرعونة وحمق تصرف الضباط والجنود الذين احاطوا بقصر الرحاب. وعندما جاءت ساعة الحساب الرهيبة، كان صدام يحمل القرآن الكريم ليستمد منه رباطة الجأش العجيبة التي ابداها أثناء وضع انشوطة المشنقة حول رقبته، ترى هل تذكر في تلك اللحظة الرهيبة الآية المحذرة: quot;وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍquot;، (سورة إبراهيم، الآية 15)، أو الأية الواعظة: quot;وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًاquot; (سورة الإسراء، الآية 17)، وهي حكم الله الذي لا مفر منه؟ أما الدولة الوحيدة التي عزلت ملكها بصورة مشرفة تليق بشعب يحترم نفسه وحكامه، فهي مصر المعروفة بالتبصر والحكمة ودماثة خلق شعبها، فارسلت فاروق على يخته والضباط الاحرار يؤدون له التحية العسكرية، وبذلك سجلوا للتاريخ مكرمة quot;العفو عند المقدرةquot;، وذهب مشفوعا بالآية الكريمة التي قيلت في فرعون مصر: quot;إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ . يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا؟quot;. آمل ان يبديها الشعب المصري اليوم مكرمته مع الرئيس السابق، حسني مبارك، المشرف على الموتquot; فلا اروع من مكرمة quot;والكاظمين الغيظquot;. أما القذافي الذي طغى وبغى، فقد نسي الآية الكريمة quot;انَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادquot;، وكانت قتلته على يد أفراد شعبه اشنع قتلة واحقرها، كان على الشعب اللبي العربي الأبي الترفع عنها.
واليوم في هذا الربيع العربي أصبحت قصورهم خاوية على عروشها، quot;فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا [النمل: 52 ]. نأمل ان يستطيع شباب الربيع العربي رد الحقوق للشعوب العربية المظلومة بصورة مشرفة، ليعيشوا بكرامة في ظل الديموقراطية والحرية والمساواة والعدالة، فقد خلق البشر ليتعارفوا، وخاصة في هذا العصر التي اصبح مقياس تطور الشعوب بقدر قدرتها على النهوض والمساهمة والتعاون والرقي بشعبها في ميدان العلوم الحديثة لخير الانسانية جمعاء والسير على هدي حكمة أمير الشعراء العرب أحمد شوقي في إحدى قصائده الخالدات التي يقول فيها:
وإِنَّمَا الأُمَمُ الأَخْلاقُ مَا بَقِيَتْ فَإِنْ هُمُ ذَهَبَتْ أَخْلاقُهُمْ ذَهَبُوا