ان الاهتمام بالعنف ودراسته ومعرفة اسبابه ودوافعه ونتائجه على الفرد والمجتمع أخذ بالاتساع وذلك بسبب تفاقم أعمال العنف والارهاب والصراعات والحروب وقمع الانظمة الشمولية واساليبها الاستبدادية التعسفية، وكذلك ارهاب الدول ومخاطر الاسلحة النووية والتلوث البيئي والتصحر والجفاف. كل هذه الامور تثير الرعب والمخاوف وتؤدي الى انهيار التوازن الاجتماعي.
لقد اصبح العنف ثقافة عامة تمارس في جميع ميادين الحياة الاجتماعية وخاصة في البيوت والمؤسسات العامة والخاصة وفي وسائل الاتصال وغيرها، وأخذ يفرز مآس وكوارث لها آثار مادية ومعنوية وخيمة على الفرد والمجتمع دون التوصل الى دوافعه الحقيقية المعلنة والمسكوت عنها وهي التخلف والفقر والاستبداد والاستغلال والاضطهاد التي تستشري في المجتمعات والانظمة الابوية-البطريركية القمعية، التي لا تريد رفع مستوى الوعي الاجتماعي والثقافي والسياسي في بلدانها ولا تسمح بتطبيق أي هامش من الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان، التي تقف ضد التسلط والقمع والاستبداد.
والحال، ان الخطوة الأولى للوقوف امام العنف بشتى اشكاله وانواعه تبدأ بوعينا بخطورة ثقافة العنف والتربة التي ينبت فيها، لأن العنف أنما يمثل عودة الانسان الى حالته البدائية الأولى، اذ ان احدى الخصائص الاساسية التي تميز كل حضارة عن غيرها هي الطريقة التي تستطيع بها تنظيم السلوك العدواني، كطاقة غريزية كامنة، وتهذيبه عن طريق توجيهه بصورة عقلانية رشيدة وكذلك تعليم افرادها كيف ومتى يستطيعون كبح جماح عدوانيتهم. ومع ذلك، فالعنف لا يحدث إلا عندما لا تستجيب المؤسسات الاجتماعية والثقافية والسياسية لمصالح الانسان ، التي يراها حقوقا مشروعة له، وعندما لا يستطيع ان يعبر عن ذاته وارائه وعقائده بالطريقة التي يراها صحيحة.
سوسيولوجيا، يعتبر العنف استجابة مكتسبة من البيئة الاجتماعية والسياسية والثقافية. ففي المجتمعات التي تسود فيها النزعة الأبوية ـ البطريركية وتقوى العصبيات القبلية والاثنية والطائفية وتنعدم فيها الحرية واحترام الرأي والرأي الآخر، يتراجع التواصل والتفاهم والحوار امام العنف، ليدخل المجتمع في دوامة من الحروب والتسلط والارهاب، الذي لا يعاني منه النساء والاطفال والشيوخ والعجزة فحسب، بل وجميع افراد المجتمع.
والعنف ضد المرأة هو احدى اهم القضايا التي تبرز على الصعيدين العالمي والمحلي، فهي لا تخص مجتمعا بعينه او ثقافة او منطقة معينة ، كما انها ظاهرة مرشحة للتفاقم في ظل ظروف محلية وعالمية صعبة ومعقدة اذ تزداد حدة الفقر والتخلف والارهاب والهجرة وارتفاع تكاليف المعيشة والرعاية الصحية والاجتماعية في ظل تنامي المجتمع الاستهلاكي المعولم الذي يدفع الفرد الى الركض وراء بضائع المدنية الغربية المتزايدة. كما ان العنف الموجه نحو الشعوب والجماعات مرشح للتفاقم مع استمرار انتهاكات حقوق الانسان كالحروب والارهاب والاستبداد السياسي وكذلك تزايد تلوث البيئة والتصحر والجفاف، التي تؤثر بالدرجة الاولى على العائلة والمرأة والاطفال.
يعرف العنف ضد المرأة بانه فعل عنف موجه ضد المرأة بالذات مدفوع بعصبية جنسية ، ويؤدي الى المعاناة ، سواء من الناحية الجسدية كالإيذاء الجسدي والاعتداء الجنسي والاغتصاب، او من الناحية المعنوية كالعنف اللفظي والاجتماعي والنفسي والسياسي ، بما في ذلك التهديد به او استعمال اساليب غير مباشرة كالنبذ والتحقير والحرمان من الحقوق المدنية والحرية والمساواة في الحياة العامة او الخاصة .
ويعتبر العنف الاسري اكثر الانواع شيوعا حيث يشمل الضرب والعقاب الجسدي والتعنيف من قبل الاب او الام او الزوج او الاخ الأكبر والحرمان التعسفي من الحرية واستقلالية الفرد في التفكير وعدم السماح للنساء بالخروج من البيت بدافع الحفاظ على الدين او الاخلاق والشرف والزواج القسري من ابن العم/أبنة العم وغيره والتحريض على القتل للمحافظة على الشرف وغسل العار، الى انواع العنف الجمعي الذي يشمل الاختطاف والاغتصاب والتحرش الجنسي والبغاء واستغلال المرأة العاملة في اعمال اجرامية وغيرها.
كما ان الدولة الاستبدادية والقوانين الابوية المتخلفة تساهم في ممارسة العنف ضد النساء عندما تعطي الأولوية للرجال في احتلال الناصب الاساسية في الدولة والسلطة وحرمان المرأة منها.
والحال ان العنف هو تعبير عن عدم التوازن بين الجنسين واختلال في ميزان القوى بين الرجل والمرأة، أي انه تعبير عن التسلط والاضطهاد والقهر الذي يمارسه الرجل ضد المرأة بهدف قهر إرادتها وتطويعها واذلالها . وهذا يعني انتهاكا لحقوق المرأة كإنسان . كالحرمان من التعليم والعمل، والاكراه على الزواج او أي عنف يطالها وبأية وسيلة كانت ، طالما يقع عليها الأذى لكونها امرأة ، وخصوصا اذا كان غير مباشر او مخفي ، وهو في اغلب الاحيان اشد قسوة وإيلاما ، كإفشاء السر او تشوية السمعة وغيرها من اساليب العنف الاجتماعي المسكوت عنه. ان واحدة من بين كل اربع نساء تتعرض للعنف من قبل الرجال في العالم ، وتستوي في ذلك دول الشمال والجنوب، رغم تفاوت الثقافات والتقدم الاجتماعي والثراء. كما تشير الاحصاءات بان البلدان الفقيرة اكثر تعرضا للعنف من البلدان الغنية ، وبخاصة المتخلفة منها ، التي تسكت على العنف وتنكر وجوده، وتدعي عدم وجود تمييز ضد المرأة ، او التي تدعي بان التمييز ضد المرأة هو أمر طبيعي ومشروع لانها quot; انسان ناقص عقل ودينquot; ولابد من مراقبتها ومحاسبتها ومعاقبتها . في مثل هذه المجتمعات وفي هذه الحالات يسمح باستخدام العنف ولكن لا يسمح بالاعلان عنه، ويفرض السكوت عنه جدارا من العزلة وعنفا قهريا صامتا، وهو اقسى انواع العنف المسكوت عنه.
في المجتمعات العربية والاسلامية، التي هي اكثر أبوية وذكورية من غيرها من المجتمعات، تعتبر المرأة ادنى درجة من الرجل ، ولذلك لا يكون الدفاع عن حقوقها بالمستوى المطلوب ، وخاصة في قضية العنف الممارس ضدها حيث يكتفي المرء بالحديث عن العنف وآثاره على المرأة والعائلة ويغلف بطابع اخلاقي بإدعاء ان الاسلام بجانب المرأة وحقوقها اكثر من اي دين آخر ويدعو الاباء والازواج والمربين الاقتداء بالقرآن والسنة حتى تحصل المرأة على حقوقها كاملة .
وبالرغم من ان الخطاب العربي كان قد اتخذ مسارا جديدا منذ النصف الثاني من القرن الماضي، فطالب اعتبار المرأة انسانا لها حقوق مدنية وسياسية، وبمساواتها مع الرجل، مثلما حاول تحديد اشكال العنف الموجه ضدها وشدد على العنف الجسدي ، كجرائم الشرف والضرب والختان وغيرها، كما تأسست منظمات نسائية هدفها الدفاع عن حقوق المرأة والمطالبة بتعليمها وادخالها مجال العمل بالتعاون مع منظمات دولية ومحلية، غير ان ذلك بقي عموما على مستوى الاقوال وليس الافعال. فهناك معوقات اساسية ما زالت تقف حجر عثرة امام تطبيقها. وما زالت هناك حاجة ماسة الى بحث واستقصاء حالات الاضطهاد والعنف الممارس ضدها ومعرفة تأثيره على حياتها وحياة العائلة وقياس نسبته وتحديد مداه، وذلك بسبب قلة البحوث الميدانية والقانونية وانعدام الاحصائيات العلمية وضعف الاهتمام والمراقبة والمسؤولية من جهة، وعزوف النساء عن الشكوى والتظلم او الاعلان عن العنف الممارس ضدهن او طلب المساعدة ، بسبب المحافظة على شرف المرأة والعائلة من جهة ثانية ، الى جانب جهل المرأة بحقوقها الشرعية والقانونية من جهة ثالثة. والاهم من ذلك كله هو العامل الاقتصادي واعتماد المرأة العربية في معيشتها على زوجها وعدم وجود خيارات اخرى ، الى جانب قوة العادات والتقاليد والاعراف العشائرية ، ومن يطلع على سجلات الشرطة و المحاكم والمستشفيات يمكنه ببساطة معرفة انتشار هذه الظاهرة واستفحالها. وفي مقدمة اساليب العنف التي تمارس ضد المرأة ، هي ان بعض الرجال لا يجد وسيلة ضرورية افضل من استخدام العنف لضبط سلوك المرأة ، مبررا ذلك بتحقيق الترابط الاسري وحماية العائلة من التفكك والانحلال.
في ندوة حول الحماية القانونية للنساء العربيات من العنف، عقدت في عمان بالاردن ، اتضح بان التشريعات القانونية العربية لا توفر حماية كافية وفعالة للضحايا، ومع ان هذه القوانين تعاقب على كل عنف وأذى يصيب المرأة ، لكنها تتفاوت في درجة مراعاتها لخصوصية العنف الاسري واساليبه ، وكذلك للجرائم الجنسية التي تضاعف من معاناة المرأة لعدم مقدرتها على حماية نفسها واسقاط حقها القانوني وصعوبة متابعة شكواها بسبب القيم الاجتماعية .كما ان الاحصاءات التي اصدرها مركز التأهيل النفسي في القاهرة بينت بان 46%من النساء يتعرصن للعنف في مصر وبدرجات مختلفة ومن مختلف الطبقات الاجتماعية . فالمصرية ليس لها صوت يعيد لها حقوقها او يحميها من الضرب والاهانات، والتشريعات القانونية قاصرة عن حمايتها . وقد لا يعطيها القضاء الحق دوما، ففي حالات معينة يحكم القاضي بشكل مختلف على حالة واحدة وذلك بسبب قوانين الاحوال الشخصية وكذلك القيم والتقاليد الاجتماعية.
أما في العراق فبالرغم من التحسن النسبي في الوضع الامني فما تزال اجواء الفوضى والانقسام والصراع تنخر في الجسد العراقي. ولعل من أهم تجليات هذه الفوضى ضعف الدولة وغياب القانون واستفحال الارهاب والانفلات الامني واستفحال الفساد وانتشار الجريمة المنظمة التي ذهب ضحيتها اعداد كبيرة من النساء وخاصة في البصرة خلال السنوات الماضية على أيدي قوى وعصابات ظلامية واجرامية بدوافع وذرائع مختلفة اجتماعية ودينية وسياسية.
وتعود اشكال التمييز والاستغلال واضطهاد المرأة الى النظرة الدونية لها وتفضيل الذكر عليها لاسباب دينية وأبوية وتقليدية. ويبدأ التمييز والاضطهاد من يوم ولادتها وحتى يوم وفاتها، وذلك بسبب النزعة الأبوية/البطريركية الذكورية المتوارثة من المجتمع البدوي التغالبي والتي ما زالت مترسخة في تفكيرنا وسلوكنا منذ عدة قرون والى الان.
ويمارس العنف بحقهن بشكل يومي وبوسائل مبتكرة ويواجهن عمليات قتل جماعي بسبب الارهاب المستشري ضدهن، وتننفذ أبشع جرائم القتل بحقهن في كل مكان وفي وضح النهار دون رادع. وما جرائم قتل النساء غسلا للعار في شمال العراق وجنوبه الاّ دليلاً بشعاً على همجية مرتكبيها وتخلفهم. وعندما يحدث اي عنف على المرأة فهي التي تعاقب وذلك بسبب قوة النزعة الابوية/ البطريركية التي لا تحترم المرأة وتقدم الرجل عليها . وهو ما يكون ردود فعل عنيفة وغير واعية ضدها احيانا ، كما ان قوامة الرجل على المرأة ، بمعنى حق الولاية عليها ، يثير كثيرا من المشاكل والشكوك ، خاصة حين يستغل الرجل هذه القوامة لتبرير اعمال العنف والقهر ضدها ، في حين ان القوامة تعني تحمل المسؤولية ورعاية المرأة واحتوائها.
ومن اشكال العنف الموجهة ضد المرأة هو العنف السياسي ، ففي الدول التي تسودها الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير واحترام الرأي والرأي الآخر يقل العنف والاضطهاد ويسود التفاهم والتعايش والحوار، وهو عكس ما في الدول الاستبدادية والابوية/الذكورية ، التي يسودها العنف من قبل الدولة نفسها ويحمي القانون القائمون بالعنف كلما تزايد استخدامه، لان عنف الدولة هو صورة من عنف المجتمع.
ان العنف بأشكاله واساليبه هو من اخطر الظواهر الاجتماعية السلبية التي تسود العالم شرقا وغربا، والتي تنشأ بفعل غياب الوعي الاجتماعي والعقلانية والحرية والعدالة وحقوق الانسان، التي هي المبادئ الاساسية لدولة القانون والمجتمع المدني، الذي يقوم على التعددية السياسية والتفاهم والحوار والاعتراف بالآخر.