رحيل البابا شنودة الثالث خسارة كبيرة لمصر والشرق الأوسط والعالم بكل المقاييس، وهو يكشف أيضا عن المستور والمنسي واللا مفكر فيه والذي نهرب من مواجهته غالبا، إذ لابد في هذه اللحظة الإنسانية (الحزينة) من مراجعة النفس والوقوف علي المنطقة الرمادية بين إخفاقات الماضي وإلتماعات المستقبل، داخل المؤسسة الدينية والكنيسة الأورثوذكسية المصرية تحديدا.
كان البابا شنودة (بابا العرب) مثقفا وصاحب وعي مستنير وذائقة فنية راقية ووطنية لا غش فيها، لكنه كثيرا ما تنكب عن المشروع الثوري الذي راهن عليه منذ أن كان أسقفا للتعليم، فهو في نهاية المطاف quot; رجل دين quot; لم يستطع الخروج عن حسابات الأمجاد السماوية أو التحرر من (نظام الفكر) السائد في عصره، أو قل quot; الردة الفكرية quot; في المشهد الديني (الأبوي) بوجه عام، المتمثلة في فتاوي المشايخ ووعاظ السلاطين أو تصريحات رجال الأكليروس التي تستلهم روح القرون الوسطي.
تجاوز الأقباط لحالة الحزن واليتم والضياع سريعا، رغم صعوبة ذلك نظرا لكاريزيما البابا الراحل، وازدياد حالة الإقصاء والتهميش المتعمد ضدهم بعد 25 يناير 2011، أصبح ضرورة قصوي في هذه المرحلة الفاصلة والفارقة، لأن المعاناة المتصاعدة التي عاشها الأقباط في الخمسين سنة الماضية ومخاوفهم الأكيدة مما هو قادم، يجعلهم بحاجة إلي بابا مستنير متخصص في علم النفس أو طبيب نفسي من فصيلة الكهنة كما يقول الفيلسوف الفرنسي quot;ميشيل فوكوquot;، يسمع شكواهم ويتلقي اعترافاتهم ويصلي من أجلهم، لا أن يتحدث كسياسي بإسمهم أو يختزلهم كمواطنين في شخصه ويلغي تنوعهم المدني وتباين ميولهم السياسية والفكرية.
في تصوري أن الأقباط يحتاجون إلي بابا من فصيلة الكاردينال الفرنسي quot;جان جيرسينquot; الذي جمع بين الكاهن وعالم النفس في العصر الحديث، وشغل منصب مدير (كلية اللاهوت) في أوروبا نهاية القرون الوسطي، وأصبح هو الرقيب على الأخلاق في عصره ، وكان عقله الحصيف والمدقق الأكاديمي أليق العقول ndash; حسب يوهان هويزنجا ndash; للتمييز بين التقوى الحقة والهوس الديني .
من أقواله المأثورة : quot;ليس ثمة شيء أخطر من التبتل الديني المقترن بالجهل ، فإن المتبتل المسكين يستدعي أمام مخيلته جميع أنواع الخيالات والصور دون أن يؤتى القدرة على التمييز بين الصدق والخداعquot;... quot;إن لحياة التأمل أخطارًا عظيمة، فإنها عادت على كثير من الناس بالسوداوية أو الجنونquot;.
هكذا استطاعت حدة ذهن جيرسين السيكولوجية، أن ترسم داخل إظهارات التقوى، خط التقسيم الفاصل بين ما هو مقدس محمود وما لا يمكن قبوله. فلم يحاول رجال الدين قبله مواجهة ذلك، وكان من اليسير عليه، بوصفه لاهوتيًا محترفًا أن يفرق بين الذيوع والانحرافات وبين العقيدة السليمة. فهو القائل: quot;ما من فضيلة تلقى في أيام الانقسام التعسة هذه إهمالاً أكثر مما يلقاه التعقل والتدبرquot; وكأنه يستبق عصرنا ويتحدث عن اللحظة الراهنة.
الأقباط خرجوا من القمقم ndash; وبلا رجعة - وأصبحوا أقل استعدادا لطاعة قيادتهم الدينية، وهم يرفضون اعتبارهم طائفة دينية مسئول عنها سياسيا أي بابا جديد، أو مجرد رعايا بمفهوم quot;الدولة الدينيةquot;. ولن يتم إدخالهم مرة أخري حظيرة الكنيسة واختزالهم في شخص البابا، فقد سقطت ورقة التوت عن المبدأ السياسي المتبع منذ يوليو 1952 وحتي رحيل البابا شنودة 2012، وهو أن السيطرة علي البابا تعني السيطرة علي كل الأقباط في مصر والعالم.
هم يخضعون للبابا روحيا ودينيا فقط أما العمل السياسي فيجب أن يخرج عن دائرة الإكليروس (رجال الدين)، لأن هذا الخلط أضر بالأقباط ضررا بالغا، وسحب البساط من تحت أرجلهم كمواطنين منذ السبعينيات من القرن العشرين، وجعل الدولة تنسحب من ممارسة دورها كمظلة للمواطنة القائمة علي المساواة بين المواطنين جميعا، وهو ما أدي إلي quot; التقوقع quot; والاحتماء بالكنيسة من ظلم الاضطهاد وبمرور الوقت تحولوا الي طائفة أو ملة داخل الوطن لها كبير (البابا) تتعامل معه الدولة.
النضال المدني للأقباط بعد 25 يناير 2011 ينطلق من أرضية quot;حقوقيةquot; قانونية، لا دينية أو طائفية، خاصة وأن المعيار السائد في العالم اليوم هو quot;الكرامة الإنسانيةquot;، كما جاء في مقدمة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948، وquot; الكرامة quot; هي المبدأ الأساسي الذي يشمل المساواة بين الأفراد جميعا، ويمنع في الوقت نفسه ndash; جميع أشكال التمييز بينهم، التي تمس كرامتهم وإنسانيتهم.

[email protected]