لست خبيرا في الشأن السوري، و لكن بعد سنة كاملة من متابعة مجريات الاخبار الواردة من هناك، يمكن لأي شخص أن يتساءل عن هذه الثورة الشعبية ومصائرها، وعن هذا التدفق الجارف للدم من الجرح السوري الفاغر.

انطلقت هذه الثورة في سوريا أسوة بشقيقاتها تونس ومصر وليبيا واليمن، و هي ثورات لم تقم إلا لأن كأس الظلم و الفساد قد امتلأ حتى فاض وغمر كل الناس بنتانته، فكانت هذه الثورات التي أراد فيها الناس الاغتسال من الحدث الاكبر للعسف أمرا يكاد أن يكون ضرورة أرغموا عليها إرغاما.
غير أن الثورة السورية أخذت مسارا وزمنا مختلفين، فهي من حيث الزمن تعدت السنة ومن حيث المسار تفرعت إلى محاذير ومساربلم تكن في الحسبان، و كان ذلك بسبب خاصية الوضع السوري موقعا وتركيبة سكانية وتقاطعا للمصالح الاقليمية والدولية. كما أن ارتكاب أخطاء فادحة لللاعبين السياسيين السوريين و مؤيديهم في المنطقة زاد من تعقيدات الموقف المعقد أصلا.
إن النظام السوري كان يحافظ على استمراريته من خلال الموازنات والتوازنات، و استعمال كافة الخدع وكلّ أنواع التحايل والابتزاز من أجل البقاء.
فهو نظام يرفع شعار محاربة الامبريالية لإشباع الرغائب الشعبوية في المنطقة، ولكنه في نفس الوقت يبعث بجيشه تحت القيادة الامريكية لدحر الجيش العراقي في الكويت بواقعية سياسية واستراتيجية قلّ نظيرها.
و هو يرفع شعار الممانعة و التصدي للدولة الاسرائيلية، وفي نفس الوقت لم يطلق رصاصة واحدة في سبيل تحرير أرضه المحتلّة، بل على العكس يجعل من حدوده مع اسرائيل الحدود الاكثر أمنا للعدو، وهو كذلك يعلن عن سوريا باعتبارها الدولة العربية الوحيدة التي تدافع عن استقلالية القرار العربي ضد الهيمنة الإقليمية، وفي الوقت نفسه نجده يتحالف مع الغرب لتكون له اليد الاولى في الشرق الاوسط من خلال تحالفه مع حماس و حزب الله، منفذي البرامج النووية وصبيانها المشاغبين في المنطقة.
و من ناحية أخرى أعلن عن الاشتراكية طريقا للتنمية، و الاشتراكية تعني فيما تعنيه توزيع الثروة توزيعا عادلا، بينما نظامه لم يوزع غير الفقر والعوز على الكادحين لمصلحة المقربين والمتنقدين الذين استهتروا بمقدرات الشعب السوري في نظام للفساد قبل نظيره.
و هو من يرفع شعار الوحدة العربية من المحيط إلى الخليج لكنّه يكرس على الواقع تفتيت مكونات الشعب السوري في حساء الطائفية المقيتة.
لقد احتل لبنان بدعوى المحافظة على العيش المشترك، بينما اتضح أنه تصرف في لبنان كعصابة للنهب، و كان بعض ضباط الجيش السوري يربحون بشراكة المافيات المحلية من تدمير اقتصاد لبنان و سرقته.
وقد بدا واضحا للعيان بعد قيام الثورة السورية أن نظام الأسد قد دمر المجتمع المدني تدميرا كاملا، كما دمر الجيش العربي السوري، فأصبح ينقسم إلى قسمين : جيش طائفي شبيه بكتائب القذافي الامنية همّه المحافظة على عائلة الاسد، وجيش وطني شعبي قوامه الاساسي من المتدربين على الخدمة الالزامية وبعض الضباط الشرفاء، أي أنه لم يعد الجيش الذي كنا نتخيله كوحدة واحدة في مؤسسة وطنية تحافظ أولا وأخيرا على الدولة السورية وتحمي تراب الوطن.
إذا نحن أمام نظام استطاع أن يمتلك كل أدوات تقنية البقاء في الحكم، وكان الثمن باهظا على كل المستويات، فهو قد خرّب المجتمع المدني السوري الذي كان من أفضل المجتمعات العربية المدنية، فأطلت الطائفية مدفوعة ومدعومة بحرص النظام على السلطة حتى على حساب الوطن. وأفقر هذا النّظام الشعب من خلال نهب الثروات بفعل الاسرة الاسدية ولمصلحتها، مقتسمة هذه الغنيمة المدنسة مع عناصر بعض الطوائف الاخرى من أجل اشراكها في الغنم حتى تشاركهم في العزم. هذا كله جعل الحقد الطبقي والطائفي يتضخم حتى غدا غولا سوف يساهم في تشظي هذا المجتمع الممزق. ص5
إن وضع سوريا اليوم في غاية الخطورة، والغرب وكذلك دول المنطقة تخشى من الفوضى العارمة إذا سقط هذا النظام. لماذا؟
لأن الاحداث الاخيرة في حمص على سبيل المثال دلت على وجود قوي متجذر للطائفية، وهذا ما يعني أن الاقتتال الداخلي في غياب سلطة مركزية أمر ممكن الحدوث. ثم إذا حدث ذلك الأمر فإنّه سيؤدي إلى مشاكل بالمنطقة وعلى الاخص بلبنان الذي قد تبتلعه دوامة العنف الطائفي وتقضي على الصيغة التوافقية الهشة لمجتمعه الطائفي. وما يجعل هذا الامر يرتقي من درجة ممكنة إلى درجة الاحتمال مظهر المعارضة السورية الممزقة التي يخوّن بعضها البعض الآخر في اتهامات متبادلة مستمرّة، وعدم نضجها السياسي، ممّا يجعل العالم المتعاطف مع الشعب السوري حائرا في اتخاذ موقف صارم تجاه النظام نتييجة الخوف ممّا بعد سقوط النظام. إن المعارضة السورية تبدوا وكأنها تتفاءل من أجل الحصول على جلد الدب قبل اصطياده.
إن الدكتاتورية هي عبارة عن مجمّد لكل التناقضات السياسية والاقتصادية و الاجتماعية بثلج الإكراه، وما أن تسقط حتى يذوب الثلج و تبرز من جديد وتدب فيها حياة الرغبة في الفناء والافناء تحت واجهات ايديولوجية مختلفة تخفي بها النهم لاقتسام الكعكة المميتة، هذه الكعكة يعتقدونها السلطة وتقاسمها وهي في حقيقتها لا تعدو أن تكون أشلاء وطن.
إن الوضع في سوريا ليس هو عينه ما حصل في تونس أو مصر، حيث الدولة لم تكف عن الوجود، وعندما وصل الأمر في هاتين الدولتين إلى مفترق الطرق أي الخيار بين الدكتاتورية و الشعب، بين الاستمرارية بشكل جديد أو انهيار الدولة والمجتمع، تحركت مؤسسة الجيش الوطني و قررت الانحياز للشعوب المنتفضة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
كما أن الوضع في سوريا ليس هذا الوضع في ليبيا التي ليس لها حدود مع اسرائيل وليست دولة كبيرة تؤثر على دول الجوار، و ليست فيها هذه الفسيفساء الطائفية، والمعارضة فيها تتمثل في مجلس انتقالي موحد الصوت انضوت تحت لوائه كل العناصر المنتفضة، لذلك استطاع العالم مساعدتها والتدخل من أجل انهاء النظام القمعي فيها.
سوريا في خصوصيتها تختلف عن بقية البلدان الاخرى التي اجتاحها ما يسمى بالربيع العربي،لذلك نرى الحذر الشديد الذي تتسم به مواقف دوائر صنع القرار في الغرب، وزاد من ذلك ارتكاب الدول العربية ومن معها الخطأ الكبير بالذهاب إلى المجلس الاممي دون التنسيق مع الدولة الروسية التي تمتلك أوراقا أساسية في الازمة السورية. فكان القفز على حاجز الادارة الروسية خطأ فادحا للديبلوماسية العربية كلف و سوف يكلف السوريين ثمنا باهظا.
إذا ماهو الحل؟
إن الحل يكمنفي بقاء الدولة المركزية في سوريا بدون عائلة الاسد وأعوانهم، و هذا يتحقق بثورة شعبية تعرف كيف تتخلص من النظام، ولكن لا تعرف كيف يمكن أن تبني نظاما مختلفا لا يقود إلى الفوضى والاقتتال الطائفي. و يبدو أن الطريق الوحيد الممكن هو انقلاب عسكري يقوم به الضباط الوطنيون في الجيش السوري من الطائفة والسنية والعلوية في الاساس و ينضم اليهم ضباط من كافة الطوائف الاخرى.
هذا الانقلاب يجتث عائلة الاسد ويدعو المعارضة الوطنية إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية تشرف على إعادة إنشاء الدولة الوطنية من خلال مجلس وطني تأسيسي يقوم بصياغة دستور عصري ويؤسس لديموقراطية توافقية يكون مبتغاها التداول السّلميّ على السلطة والعيش المشترك. أي أن هذا الانقلاب سيكون طوق نجاة للوطن السوري، على شرط أن يكون أحد مفردات الثورة و ليس بديل عنها.
إن هذا الانقلاب المخلص لا يمكن حدوثه بدون التعاون الروسي، لأن روسيا وحدها من يمتلك تفاصيل ومفاصل الجيش السوري، كما أنها وحدها القادرة على التحرك بحرية داخله ومن خلال العلاقات المتينة التي بنتها خلال العقود الاخيرة من تسليح و تدريب لهذا الجيش ومعلومات دقيقة في من يمكنه أن يقوم بهذه المهمة بين ضباطه.
بقى ماهو الثّمن الذي يمكن أن يدفع إلى هذا الدب العجوز؟ و ماهي المصالح التي يمكن الحفاظ عليها في المنطقة، و كيف تمكن طمأنته بأن ما يحدث في سوريا لن تصل موجاته إلى الجمهوريات المحيطة به والتي قد تهدد أمنه القومي؟
هذا هو الدور الذي يمكن أن تقوم به الدبلوماسية العربية من خلال الجامعة العربية ومساعدة بعض الدول الاخرى التي لها علاقات متميزة مع روسيا.