يمكنني أن أقول بكل ثقة أن مسجد quot;أسد بن الفراتquot; بوسط القاهرة شهد ميلاد تيار جديد يضاف إلى تيارات الإسلام السياسي المتعددة وهو تيار quot;السلفيون الثوريونquot; وهو مصطلح يمكن أن نكون أول من استخدمه، لكنه على الأرجح هو توصيف حقيقي للآلاف من السلفيين الجدد الذين كانوا على موعد مع الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل، المرشح السلفي للرئاسة المصرية، والذي قدم للمسجد ليس للصلاة أو الموعظة ولكن لعقد مؤتمر صحافي للرد على موضوع جنسية والدته، حيث اتهمته اللجنة الانتخابية بأنه أخفى حقيقتها بأنها ذات جنسية مزدوجة، وهذا ما يخالف الشروط الانتخابية للرئاسة التي تشترط أن يكون المرشح من أبويين مصريين، وألا يكون أحدهما حصل على جنسية أخرى.

بغض النظر عن جنسية والدة أبو إسماعيل وحقيقتها فإنه يوجد بالطبع سيناريو للإقصاء بدأ منذ فترة سواء خارجياً منذ إعلان إسرائيل عن إطلاق صواريخ من سيناء إلى quot;إيلاتquot; والتهديد برد عسكري، أو داخليًا بحالة الانفلات الأمني التي تمر بها مصر، والأزمات الاقتصادية التي تتم بطريقة ممنهجة، حولت حياة المصريين إلى جحيم لا يطاق، فيما الشعب المصري يبحث عن شخصية حديدية تستطيع إنقاذ البلاد من الوضع الراهن.

المشكلة الحقيقية ليست كامنة في ما سبق ولكنها تكمن في تفاصيل المشهد الذي يشبه إلى حد كبير جدًا ما حدث بالجزائر في التسعينات من القرن المنصرم، من جماهير غير واعية منساقة إلى صدام حقيقي مع الجيش، وخطاب تعبوي ينطلق من عدالة القصد وهو الشريعة، ومن حق مطلق لا يقبل مراجعة باعتبار أن الشريعة معنية بحكم الناس، وفي النهاية يحتدم الصراع ويؤدي إلى عبقرية في الإخفاق تتعلق بسفك الدماء ونهب الأموال، والعنف المتواصل، مثلما أدخلت الجزائر في دوامة لا نهائية لم تخرج منها إلى اليوم، ومثلما حدث في مصر فترة التسعينات، حتى انتهى ذلك لما يسمى بمراجعات وقف العنف وتصحيح المفاهيم.

استدعاء الماضي بدأ، ونفس المشهد تقريباً يتكرر، حيث عشرات الآلاف من أتباع أبو إسماعيل يسيرون صفوفاً وهم يهتفون من مسجد الفتح في قلب العاصمة، ويقطعون الطريق والمواصلات حتى مقر اللجنة الانتخابية، ويتكرر المشهد بشكل أضخم في ميدان التحرير حيث الاحتجاجات والمظاهرات التي تواصلت إلى نهاية النهار، وكان الختام هو مسجد quot;أسد بن الفراتquot; الذي شهد عشرات الآلاف في المؤتمر الصحافي، وأمام عدسات المصورين، لنشهد تصدير خطاب العنف السيئ بالهتافات المعادية للمجلس العسكري، والمطالبة بإعدام المشير، والصيحات التحذيرية لكل من يعارض التيار الإسلامي، بينما أبو إسماعيل يلف ويدور لإثبات أن أمه مصرية، ويقول للشباب الثوريين، quot;أنتم الذين ستفكون أسر مصر... أما هؤلاء الذين رضوا واستكانوا - يقصد باقي الحركات الإسلامية التي نكصت وتراجعت عن نصرته - فلا تتباكوا عليهم... إننا في رباط، والرباط بدأ من الآن... !!.

يجعلها أبو إسماعيل مثل الموقعة بين الكفار والمسلمين في خطاب اعتمد فيه على التركيز على تخطيء بعض الحركات الإسلامية، وكذلك تخطيء رموز النظام السابق في هتافات مثل quot;حضر كفنك يا شير لو فكرت في التزويرquot; وquot;ايوه بنهتف ضد العسكرquot;، وبتهديد واضح وصريح quot;إذا أصرا على اللعب بالنار فلن يمر الأمر بسلامquot;.

لو نظرنا إلى هذا المشهد بصورة تحليلية سنجد أولاً: أن السلفيين قد تشكل وعيهم السياسي منذ فترة ما بعد سقوط مبارك، وهم يحاولون بقدر المستطاع أن يصلوا إلى مرحلة النضج السياسي، ولكنهم إلى الآن يقعون في أخطاء فادحة، وأن ما يحدث الآن كان بسبب السماح للتيار السلفي بالتمدد في المجتمع على حساب التيارات الأخرى على اعتبار أنه أقل حدة في المواجهة للأنظمة، فيما استغل السلفيون هذا الأمر للانتشار الأرضي والفضائي والرقمي على الإنترنت، واستغلت الجموع السلفية الباقية العمل الشعبي، والعمل الاجتماعي العام القائم على التلاحم مع أطياف الشعب، واستغلال هوامش الفقر العام الذي يمر بالمجتمع، وحل المشكلات المستعصية للناس، في وقت كان يشهد وما يزال غياب الدولة وأطياف العمل الحزبي الأخرى عن هذا الأمر قبل 25 يناير.

ثانياً: ساهم الفراغ السياسي بشكل كبير، وبالأخص بعد الثورة في استمرار هذا المد وهذه الفاعلية، وانتشار الخطاب الذي اعتمد على بنية سلفية خاصة، قائمة على تنوع الأشكال دون اختلاف في الخصائص العامة، كعدم وجود إطار مرجعي واحد للسلفيين، وممارسة سياسية مختلفة عن الإطار العام، والخلط بين الجماعي والحزبي، وفقهية تراثية واحدة تقريباً، قائمة على أساليب وطرق العمل الدعوي بناءً علي قرار فردي يتبع بشكل كبير شخوص من مشايخ السلفيين، الذين ساهموا فيما بعد بعقليتهم الأيدلوجية في تشكيل الواقع الحقيقي للأيام السلفية بعد الثورة المصرية.

ثالثاً: إن تسارع الأحداث جعل السلفيين بغالبية تشكيلاتهم أن ينسوا أيدلوجية الموعظة، دون أن يضعوا حلاً لتشددهم تجاه العمل السياسي وتحريم دخول المجالس البرلمانية بل اعتبروه لونًا من ألوان الشرك بالله على اعتبار أن البرلمان جهة تشرع من دون الله، كما اعتبروا أن العمل الحزبي مضيعة للوقت وغير ذي فائدة، وإلى هذا الوقت لم تعالج تلك الوضعية، أو تعترف بخطأ ما كانت تعتقد، بل أخذت تقدم التبريرات على عدم ممارستها للعمل السياسي بأنها كانت لأسباب سياسية، وحينما زالت هذه الأسباب خاضت غمار العمل السياسي والحزبي، رغم أن بنيتها الفكرية ما زالت تحمل أفكار الرفض والتحريم؟!

رابعًا: ينقسم السلفيون إلى عدة سلفيات وزاد انقسامهم هذه الأيام، حتى اختلفوا حول ترشح أبو إسماعيل، وبعد حكاية ازدواجية الجنسية، انفضوا من حوله، ولم يبق سوى السلفيين الثوريين، وهم مجموعة من السلفيين الجهاديين الشباب الذين كان أغلبهم متهمين في قضايا جهادية وعنف مسلح، مثل تنظيم quot;الوعدquot;، وتنظيم quot;الأزهرquot; وتنظيم quot;الغردقةquot;، وشباب السلفيين التكفيريين بالعريش، وتنظيم quot;المنتظرونquot; وغيرها من التنظيمات التي ملأت مصر الآن.

مستقبليًا فإنه من المتوقع أن تتعرض مصر في الأيام المقبلة لمجموعة من المشكلات والتحديات بسبب تيار quot;السلفيون الثوريونquot;، فيما تتعرض باقي التنظيمات السلفية إلي هزات داخلية عميقة، حيث ستساعد بنيتهم غير المهيكلة تنظيميًا بشكل حزبي على وجود أكثر من تصور مختلف، وعلى مجموعة من التحديات أهمها الفصل بين الدعوي والسياسي، وهو التحدي الذي لا يمكن مواجهته بسهولة بسبب منطق الخلاف بين الجماعة الدينية ومنطق الحزب السياسي، فالحركات الإسلامية بصفة عامة والسلفية بصفة خاصة تتميز بالتزامها والأيديولوجي، بما يعني الصدام بين السياسي والأيديولوجي، وبما يعني الصدام بين شباب متحمسين، يريد أحد المرشحين استثمارهم إلى أبلغ حد، وبين دولة أقل ما يقال فيها الآن أنها تمر بمرحلة مخاض صعبة.
[email protected]