ننطلق في هذه المعالجة من فرضية تعطي الأولوية المنطقية للبعد الثقافي في كل موقف سياسي محوري يتخذه رجل السياسة، حتى في الوقت الذي يخيل إليه فيه أنه يصدر في ذلك الموقف انطلاقا من محددات اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية خالصة، ولا تمت بأي علاقة مع الثقافة. بل وأيضا في الوقت الذي لا يمكن فيه تصنيف رجل السياسة هذا، أو ذاك، ضمن فئة المثقفين. وهذا يصدق، أيضا، وبدرجة أولى، على المنظمات والأحزاب والتيارات السياسية التي تمارس عملها في ساحة سياسية بعينها وتمتلك نظرية أو محددات نظرية توجه خطاها في مختلف مبادين الممارسة.

والبعد الثقافي الذي نعنيه، في هذا الصدد، يشمل مجمل العادات وكل أشكال السلوك الموروث عن الماضي ومختلف الأعراف والطرائق المعتمدة في بلورة المواقف العملية من القضايا المطروحة على جدول أعمال المجتمع والمتحكمة، إلى حد بعيد، في تحديد ردود الفعل تجاه مستجدات الحياة التي تميز شعبا عن آخر باعتبارها نوعا من ثقافته السياسية العميقة، وشكلا من أشكال لا وعيه الجمعي، الحاضر في سلوكه بصورة تلقائية أو الذي يتم استدعاؤه بطريقة واعية من قبل نخبه الفكرية والسياسية عندما تلم بالمجتمع بعض الملمات التي تفترض لتحمل تبعاتها المادية والمعنوية العودة إلى ما تختزنه ذاكرة الشعب العميقة من خبرة ودروس وعبر للاستعانة بها في مواجهة المستجدات ورفع التحديات التي تفرضها تلك الملمات.

حضور الثقافة بهذا المعنى حضور حتمي، واعيا كان أم غير واع، مدركا كان في جميع تجلياته وأبعاده أو مستوعبا في جزء منها فحسب، ذلك أنه غالبا ما يكون حاضرا ومتجليا في فعل وفي رد فعل القوى الفاعلة في مختلف الميادين التي تتحرك فيها قوى المجتمع بهدف تحقيق أهدافها أو حماية مصالحها ودرء المخاطر ورفع التحديات التي تواجهها عبر مقتضيات العمل السياسي.

وبما أن المسألة الثقافية لا تخلو، هي كذلك، من بعد سياسي أو تبعات اجتماعية أو اقتصادية، فإن الربط الحي والجدلي بينهما هو الذي يمكن من إدراك محددات العملية السياسية في مختلف أبعادها بما هي مسألة ثقافية ومسألة سياسية وعملية في آن واحد. وهنا يمكن القول، ولو بقدر ما من التجاوز غير الضار بعملية التحليل: إن المسألة الثقافية تشكل القاعدة الخلفية، والأساس العميق للعملية السياسية أو المواقف الأساسية التي تؤطرها. وفي المقابل، فإن مجمل المواقف السياسية التي تشكل ما يطلق عليه العملية السياسية تنبئ، في مستويات منها، بهذا البعد الثقافي التلقائي على شاكلة ما ذهب إليه الفيلسوف الفرنسي لوي ألثوسير عندما تحدث عن الفلسفة التلقائية للعلماء في معرض تحليله لطرق اشتغال الإيديولوجيا حتى في المجالات التي يبدو أنها أبعد ما تكون عن الارتباط بها مثلما هو عليه الأمر في المجال العلمي المحض.

وبطبيعة الحال، فإن مفهوم الثقافة المعتمد هنا، بعيد كل البعد عن المفهوم النخبوي الذي يقيسها بطبيعة وعدد الشهادات العلمية العليا المحصل عليها، بل هو مفهوم واسع يشمل، كما قدمنا، مجمل السلوك والطرائق المستخلصة من التجارب التاريخية للجماعة الإنسانية المعنية وتراكماتها في مختلف المجالات، وهي عادة ما تبدو على شكل غريزة تلقائية، ولا تحتاج إلى كثير من التفكير والتأمل قبل اتخاذ القرار تجاه قضية من القضايا المطروحة على جدول أعمال المجتمع. فمحصلة تلك التجارب هي التي تكيف سلوك تلك الجماعة وتحدد لها نمطا من الاستجابة للتحديات والتجاوب مع المستجدات يميزها عن غيرها من الجماعات التي يتحكم في سلوكها هي أيضا نمط متميز ومخالف، بالضرورة، باعتباره وليد تجارب مختلفة وتراكمات غير متماهية مع التي تتولد عن التجارب المباينة لها، وتفاعل القوى مع محيطها المادي والمعنوي وطرق اشتغالها في مجابهة منافسيها وخصومها وأعدائها على حد سواء.

غير أن المحذور، هنا، يكمن في الانزلاق إلى تبني أي نوع من أنواع الحتمية الاقتصادية أو الاجتماعية أو الفرادة الثقافية أو التاريخية المزعومة والجامدة في آن واحد. فعلاوة على كونها منافية لطبيعة العلاقة الجدلية بين الواقع والمفهوم في بعدها التفاعلي الحي والمتوازن في كل الظروف العادية، فإنها تغذي نزعة عدمية وسكونية تتعارض مع طبيعة الحياة وتنفي كل تدخل واع للإرادات في تحديد مسارات الأشياء وإلغاء كل تصور للمسؤولية الفردية والجماعية. إن مثل هذا التصور يقدم الحياة الاجتماعية والسياسية كما لو كانت عبارة عن حتميات لا يد فيها للإنسان. والحال، أن كل حياة اجتماعية تعتبر محصلة عوامل كثيرة متداخلة يمكن أن يتم نعتها بأي نعت ما عدا الحتمية الجامدة، وهذا ما يجعل الحديث عن المسؤولية عن التوجهات والممارسات ممكنا ويفتح الباب أمام القول بالإخفاق والنجاح والتقييم والمحاسبة في نهاية المطاف.

وهذا يعني أن الثقافة السياسية لمجتمع من المجتمعات تلعب دورا حيويا في تحديد مسارات الممارسات السياسية للنخب المختلفة الفاعلة في مختلف مجالات وميادين الحياة السياسية العامة غير أنها غير قادرة على إلغاء دور الإرادات السياسية التي تعبر عن نفسها في برامج وشعارات القوى والمنظمات السياسية والاجتماعية التي تضع نصب عينها التأثير في مسار الأحداث وصناعة المستقبل الذي يلبي طموحات أوسع فئات المجتمع التي تمثلها تلك القوى والمنظمات ولو كان ذلك في سياق الصراع الضمني أو المفتوح مع بعض قيم ومحددات الثقافة السياسية السائدة أو المحافظة.

وبهذا المعنى يكتسب القول بوجود خلفية ثقافية تؤثر في طبيعة كل موقف سياسي أهميته في تحريك مقومات الإرادة السياسية في اتجاهين في آن واحد. اتجاه استحضار القيم العامة الممثلة لما يمكن تسميته روح الشعب والأمة من جهة، واتجاه ممارسة الإرادة الحرة للتأثير في معطيات الواقع بما يتماشى مع التصور البرنامجي للقوى المنخرطة في الحياة السياسية في علاقاتها التنافسية أو الصراعية أو المتآلفة مع غيرها من قوى المشهد السياسي المحدد في الزمان والمكان. وإن المحصلة والنتائج التي ينتهي إليها هذا التفاعل الخلاق هو الذي يحدد طبيعة المشهد العام للممارسة السياسية لمجتمع من المجتمعات حيث تتجلى ثقافته العميقة في هذا المظهر أو ذاك من مظاهر ممارساته الاجتماعية والسياسية التي يبدو أنها أبعد ما تكون في الواقع عن كل تصور فكري أو ثقافي.

إن نظرة متأنية إلى مجريات الصراعات الإيديولوجية وتنافس المرجعيات الثقافية والدينية في مجمل أحداث ما سمي بالربيع العربي خلال السنة الماضية وخاصة في بعض البلدان العربية ذات التاريخ المتميز بتعدد وتنوع ثقافاتها مثل مصر وسوريا كافية لتبيان كيف أن العناوين السياسية المباشرة المرتبطة بالموقف من الأنظمة القائمة تنطلق، في العمق، من أرضيات ثقافية متباينة هي التي تضفي على الخلافات السياسية بين القوى المتصارعة حدتها وتنبئ بعمقها الثقافي وربما المذهبي في بعض الأحيان أيضا.

ويمكن، في هذا السياق، فهم الصراعات الكامنة بين التيارات السلفية وحركة الإخوان المسلمين والتيارات القومية والليبرالية واليسارية في مصر، كما يمكن تأطير الصراع السياسي المحتدم في سوريا والذي اتخذ أشكالا مسلحة بين التصورات المختلفة للدور الإستراتيجي لسورية في المنطقة حيث برز للعيان تيار سلفي تكفيري و إخواني مدعوم من طرف عدد من دول مجلس التعاون الخليجي، يريد تدمير الدولة السورية وما تمثله على مختلف المستويات وليس النظام السياسي فيها فحسب، كما يهدف إلى تعميم نمط من التفكير الإيديولوجي يسوغ مختلف ممارسات دول بعينها وفي مقدمتها العمل على تصفية التوجه القومي لمجمل الشعب السوري خدمة لمحور استراتيجي سياسي يريد إدماج إسرائيل رسميا داخله بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والغرب الاستعماري الجديد عموما في مواجهة الدولة السورية التي انخرطت على مدى العقود الأربعة الماضية في محاور مقاومة تيار الهيمنة الأمريكية الإسرائيلية وكل القوى التي تحاول لعب دور العراب لتلك الهيمنة في المنطقة. وهذا صحيح حتى في الوقت الذي يمكن فيه القول: إن بعض التراخي قد ران على الموقف أو الممارسة السورية تجاه تحديات الصراع مع إسرائيل كما هو عليه الأمر عندما تكون في مواجهة بعض التحديات السياسية أو الأمنية الداخلية التي يبدو أن الهدف من تحريكها هو صرف اهتمام سورية عن هذا الموضوع وإلهائها بقضايا كان من الممكن الاستغناء عنها لو أن لدى خصومها وأعدائها قدرا ولو يسيرا من الإرادة السياسية لترك سوريا تضطلع بالمهام التي يمليها عليها موقعها الإستراتيجي والسياسي بوصفها دولة مواجهة لم تقبل بالسلام الذي تعرضه إسرائيل بين الفينة والأخرى باعتباره مرادفا للاستسلام والإذعان لإرادتها في المنطقة، على الرغم من أن موازين القوى العسكرية ليست في صالحها نظرا للدعم العسكري الإستراتيجي الذي تحظى به إسرائيل لدى الولايات المتحدة الأمريكية الحريصة على وضع التفوق العسكري الإسرائيلي على ما عداها على مستوى المقدس كما أعلن ذلك الرئيس باراك أوباما مؤخرا، بل ويمكن القول: إن حرص الدولة السورية في سلوكها السياسي على اعتماد تصورات الحد الأدنى العربية في إطار جامعة الدول العربية أو في علاقاتها الثنائية مع دول الخليج الأساسية هو الذي يفسر، إلى حد بعيد، ذلك التراخي في مواجهة المشاريع الإسرائيلية والأمريكية في المنطقة، وهو توجه كرسه دخول تركيا اردوغان على الخط لتسويق إمكانية استئناف المفاوضات مع إسرائيل على أساس الزعم بأن تركيا تعمل من أجل مساعدة سورية على استعادة هضبة الجولان المحتلة، وهو ما تبين أنه ليس في الواقع إلا خدعة كاد الشعب السوري أن يدفع كلفتها الإستراتيجية الباهظة وغير القابلة للاحتمال.

ولعل أخطر ما في العلاقة بين الموقف الثقافي والموقف السياسي كما تجلى في الصراع مع سورية هو تجنيد المرجعية الثقافية والإيديولوجية والمذهبية وتدجيجها بالسلاح لتدمير مقدرات الشعب العربي السوري وإحداث الشرخ بين مكوناته الوطنية والقومية والدينية والمذهبية.

وبطبيعة الحال، فإن تناسل الفتاوى التكفيرية التي تستبيح الدم السوري على أسس طائفية صريحة وواضحة حينا، وبدعوى تقديم المساعدة المالية والمسلحة للقوى والمنظمات المعارضة للنظام السوري تارة أخرى، يندرج في سياق إبعاد الشعب السوري عن مواجهة تحديات التنمية ومضاعفات الموقع الذي تحتله سورية ضمن المنظومة العربية التي يبدو أنها لم تعد تمحور جهودها حول القضايا المصيرية للمجموعة العربية بل أصبحت تقدم نفسها دليلا للأجنبي ومشرعة لتدخله في الشؤون الداخلية للبلدان العربية حيث يتم التضحية بمقومات استقلالها وسيادتها الوطنية في مختلف المجالات السياسية والأمنية والإستراتيجية.

ويبدو أن كتابا سعوديين قد أدركوا مؤخرا كيف أن دول الخليج ليست بمنأى من سهام حركة الإخوان المسلمين التي شنت هجوما عنيفا على دولة الإمارات العربية المتحدة بخصوص موقفها من الأحداث في سورية ورفضها تحويل أراضي الإمارات إلى ساحة إضافية للمواجهات بين السوريين، فانبروا للتصدي في الإعلام السعودي للحملة الإخوانية وهو ما يؤشر على أن الصراع الثقافي قد بدأ يأخذ أبعادا جديدة حيث لعب الخلاف السياسي الآني دور الذريعة ليس إلا.

فهل تدرك الطبقة السياسية الحاكمة في المنطقة العربية، وفي بعض دول الخليج العربي، أساسا، أن الانجرار إلى الحروب العربية ndash; العربية، وتغذية التوجهات المذهبية والطائفية ستؤدي إلى انهيار حتمي لمجمل المنظومة العربية التي ستصبح لقمة سائغة بالنسبة لكل القوى الإقليمية والدولية التي تستهدف المنطقة في استقرارها وأمنها وسيادتها الوطنية والقومية؟. إنه السؤال الذي يتحتم على الجميع تقديم إجابة عليه في سلوكه تجاه الأزمات التي تعترض الدول والشعوب إذ في ضوء طبيعة الجواب المقدم يمكن الحكم إيجابا أو سلبا على القوى السياسية والأنظمة والدول على حد سواء.

والواقع أن الإصرار الذي أبدته بعض دول الخليج على تمويل وتسليح بعض القوى في سورية وإغداق الأموال على أطراف بعينها في مصر وفي ليبيا لمواجهة قوى التحرر والتقدم يعطي الدليل الدامغ على أنهما قد أعطتا الأولوية لقاعدتهما الثقافية والإيديولوجية في تحديد تحالفاتهما السياسية خاصة بعد التحول الكبير الذي طرأ على تصور تلك القوى للعلاقات مع الغرب وإسرائيل والتي وضعها في سياق غير السياق العدائي المعلن قبل الذي جرى من تطورات في البلدان العربية والتي أتت بقوى الإسلام السياسي إلى سدة الحكم في عدد منها.