لندن منشغلة بأولمبيادها وبها مبتهجة. حقُها، هذا يومها. القوم هنا، كلهم أجمعون، أو لنقل معظمهم، من quot;إنفرنسquot; بأقصى شمال اسكوتلندا، إلى quot;لاندزإندquot; بأدنى جنوب إنكلترا، مرورا بأرياف ويلز وخضر روابيها، فرحون باستضافة الألعاب الأولمبية، مرحبون بالمشاركون فيها، وبالوافدين معها ومعهم للفرجة على مبارياتها مستبشرون، علّهم ينفقون من المال ما ينعش اقتصاداً كاد أي يدخل غرفة إنعاش، فيسْهمون في إيجاد فرص أعمال، لو حتى طارئة، فربما تخفف من كساد سوق التوظيف وتصاعد أرقام البطالة.
هذا نهار بريطانيا أطلّ، وعما قليل يشرق ليلها بأنوار ألعاب نارية تضيء السماء وتملأ الفضاء، في مباراة تنافس افتتاحي لألعاب أولمبية جرت قبل أربع سنين. يومذاك أذهلت بكين الناس أجمعين، فأطلعت بلايين البشر في القارات الخمس، على بعض ما لعبته حضارة الصين من دور خلاّق في مسيرة الإنسان، بدءاً بالورق والمطبعة، مروراً بنسج الحرير من دودة القطن، وصولاً إلى النفاذ بالعلم عبر أقطار السماوات.
لست املك سوى الدعاء أن تمر كل ساعات أولمبياد 2012 بهدوء وأمان، فلا ينغصّها شرّ من أي شكل كان، خصوصاً أنني بحكم مشوار مِهني تعددت محطاته، أتذكّر كيف عشتُ كصحافي أعمل لصحيفة quot;البلاغquot; بطرابلس وقائع أولمبياد ميونيخ (1072) كما لو ان الحدث وقع بالأمس، إنما تلك تفاصيل موقعها ذكريات تستحضر التجربة بما يفيد من يريد أن يطلّع.
أما التمني لأولمبياد لندن بنجاح يتفوق على بكين في درجة التألق، فهو بعض وفاء لبلدٍ آواني في غربتي، فصرت أحمل جنسيته، يكفل لي حقوق المواطن وليس يطالبني بغير أداء الواجبات، ومع ذلك أظل على اقتناع به أعمل، وعلى أساس منه اجتهدتُ بتربية أولادي، وحرصت على ترديده امامهم كما الشعار (motto) في البيت، خلاصته انني ضَيف يُقرّ بجميل المُضيف، فيأخذ بالمثل القائل quot;يا غريب خَلكْ أديبquot;.
ولو أن كل غريب حلّ ببلد فأقام بين أهله مؤدباً، سواء طُلاّبَ عِلمٍ كان الآتون، أو ساعين من أجل لقمة العيش جاء المهاجرون، لما شهدت أوطان لجوء كثيرة، أكثرَ ما مرّت به من جرائم عنف وإرهاب، بئسَ الفعل والفاعل، خصوصا كلما جرت بالمزاعم ألسنة تبرر الجريمةَ بديانة منزّهة، أو الإرهاب بقضية عادلة.

***

اغتيال ناجي .. وكاريكاتير رشيدة

كما الذِكرى ربما تُذكّر بأُخرى، الجملة تستحضر واقعة. في مثل هذه الأيام من يوليو/ تموز، قبل خمسة وعشرين سنة، كان الجسم الصحافي العربي في لندن ينقسم في الموقف من جريمة إطلاق الرصاص على الجسم النحيل للفنان ناجي العلي. انقسام فيه شيء من التشابه مع اختلاف الرأي الحاصل الآن، بشأن استخراج جثمان ياسر عرفات لمعرفة ما إذا جرى السم في جسم أبي عمار، أمْ لم يجرِ.
نهار الاثنين 22-07-1987 شهد إطلاق النار على ناجي العلي من مجهول عاجله برصاصات أصابت وجهه. ظلّ ناجي العلي يصارع الموت سبعة وثلاثين يوما، حتى السبت 29 من أغسطس/آب. منذ الساعات الأولى لوقوع الجريمة تباينت المواقف وتعددت الآراء في quot;فليت ستريتquot; العربي. أهو إرهاب إسرائيلي لإخماد هدير ريشة لاجئ مخيم عين الحلوة، أم هو فلسطيني لخنق صوت quot;حنظلةquot; بن ناجي العلي، وإسكات نَقٍ بات يطال حتى quot;الختيارquot; نفسه؟
كنتُ بين من يحبذون النظر في الاحتمالين، بمعنى عدم التعجل باستبعاد طرف، وإدانة آخر، خصوصا لجهة الأخذ بالتريث قبل اتخاذ موقف يجزم بإدانة طرف فلسطيني تحديداً، فيما جسم ناجي العلي ما يزال يصارع من اجل البقاء في مستشفى quot;تشيرنغ كْرُسّْquot; بحي quot;همّرسميثquot;. وكان بين الزملاء من استنطق آخر رسوم ناجي المنشورة بجريدة quot;القبسquot; الكويتية (كانت تصدر نسخة دولية من لندن) فاستصدر الحكم، وطالب بضرورة إصدار بيان صريح يدين القيادة الفلسطينية ويحملها مسؤولية محاولة الاغتيال، وهي كانت كذلك حتى لحظات ذلك الجدل.
لم يكن لي آنذاك، وليس لي الآن أيضا، حق الاعتراض على حق من رأى في آخر رسوم ناجي العلي، الشديدة الهِجاء للقيادة الفلسطينية، سببا يجعلها تطلق بضع رصاصات تخترق الجسم النحيل، فكل لوحة منها كانت بحجم تأثير مظاهرة تعبر عن مشاعرغضب عند كثيرين في مخيمات اللاجئين، بل ومعسكرات المقاتلين، وهذه ndash; بالطبع ndash; أخطر.
بيد أن الأخذ بالتريّث قبل الجزم بتحميل طرف فلسطيني المسؤولية كانت له دواعيه أيضا، وفي المقدمة منها أن مارغريت ثاتشر، رغم شدة حماستها في مناصرة تل أبيب، كانت بدأت تراعي أيضا شيئاً من التوازن، حرصاً على مصالح بلدها في العالم العربي. ربيع السنة نفسها، كانت الخارجية البريطانية رفعت درجة التعامل مع مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في لندن، على نحو أثار رد فعل سلبي، طبعاً، من جانب اسرائيل. إذن، لماذا لا يجوز افتراض أن طلاء مسدس اسرائيلي بعلم فلسطيني يطلق الرصاص على جسم ناجي العلي، فور نشر رسم له يهزأ من شخصية نسائية ارتبط اسمها بياسر عرفات، سيعيد المنظمة الى مربع الإرهاب، فيحرج سيدة quot;داوننغ ستريتquot;، ويحبط خطط وزارة خارجيتها؟
الشخصية هي السيدة رشيدة مهران. كنت انتظر ضحى نهار بغرفة مديرة مكتب الرئيس عرفات للسلام عليه، والاتفاق على موعد إجراء حوار (ضمن سلسلة حوارات اجريتها معه لمجلة quot;التضامنquot; في تونس وصنعاء) عندما وصلت سيدة جلست بدورها تنتظر. تبادلنا التحية، قدمت نفسها: رشيدة مهران. لاحظتْ أنني لم أبدِ ما يشير الى معرفتي بإسمها، فأوضحت: مؤلفة كتاب quot;الرقم الصعبquot;. ثم استطردت فعرّفتني بموضوع الكتاب: القائد أبو عمار. جاء دوري بالدخول الى غرفة الرئيس عرفات، استأذنت، وحين غادرت لم تكن السيدة رشيدة مهران هناك. تلك أول وآخر مرة رأيت فيها السيدة التي عرفت فيما بعد أنها من مصر، نقيض ما هو شائع الآن في عدد من المواقع بأنها صحفية تونسية، وأنها تكن لياسر عرفات أحاسيس خاصة. قلت آنذاك، وأقول الآن، ليس في ذلك ما يجب أن يعني أحداً، هو أمر خاص تماما.
لذا، صباح نشر quot;القبسquot; ذلك الرسم، الذي صار يُعرف صحافياً بوصف quot;كاريكاتير رشيدة مهرانquot;، كنتُ مع الاستاذ فؤاد مطر بمكتبه بمقر quot;التضامنquot;، وإذ طالعنا اللوحة، ابتسمنا لما في الرسم من روح نكتة، لكننا أيضا التقينا على انه لو أن ناجي العلي يرسم لمجلتنا لكنا أشرنا عليه، بأدب يحفظ له حقه في رأيه، بأن الكاريكاتير يجرح حتى لو لم تربط السيدة رشيدة مهران أية علاقة شخصية بالرئيس عرفات، ثم إنها ndash; مجددا الاهتمام بها كسيدة ndash; ليست بخشونة تجربة quot;الأبواتquot; الثوار حتى تتحمل قسوة quot;حنظلةquot; وغضبته.
بعدها، وقعت محاولة الاغتيال. قبلها بأسبوع كنت مع عشرات من زميلات وزملاء صحافة العرب اللندنية ضيوفاً ببيت الزميل الصديق أديب أبو علوان، وهو يومذاك مدير تحرير مجلة quot;سيدتيquot;، وكان هناك أيضا الشاعر سميح القاسم. كان ناجي العلي بيننا، لاحظت أنه دائم الجلوس على الأرض، ما أن ينهض ليقف قليلاً، حتى يعود ليجلس أرضاً. عندما بدأ الضيوف يغادرون، فوجئنا بالمضيف أبو علي ينادي: يا شباب في سيارة محبوسة (كانت لزميل هو الآن ناشر معروف) يريد صاحبها المغادرة، لكن المرسيدس البيضاء قافلة الطريق؟
وفوجئنا أيضا بالرد من ناجي: يعني إذا كنت ابن مخيمات ما بطلع لي يكون عندي مرسيدس؟
المفاجأة هنا ليست ان ناجي العلي يملك مرسيدس، ذلك حقه، وتلك سيارة كانت، كما تبين لاحقا متواضعة جداً، المفاجأة كانت في تنكيت ناجي على نفسه.
علمت من أديب أبو علوان أن سميح القاسم كان في لندن يحاول المصالحة بين ناجي العلي والشاعر محمود درويش، بعدما نشر ناجي رسماً صرخ فيه حنظلة: quot;رئيس خيمتنا... رئيس خيبتناquot;، ساخراً من محمود درويش كرئيس لاتحاد الكتاب والصحافيين الفلسطينيين.

***

غضبة محمود درويش

أجواء الاختلاف بشأن الموقف من تحديد الجهة المتورطة بجريمة محاولة الاغتيال، ظلت سائدة، حتى سادت فوقها غيوم حزن وحدّنا جميعنا إذ بلغنا أن ناجي العلي فارقنا. مات ناجي... عاش حنظلة، راح واحدنا يردد بأسى ممزوج بغضب.
صباح الأحد التالي للوفاة، فوجئت بالصفحة الأولى من quot;الأوبزيرفرquot; تأتي بناجي وحنظلة الى بيتي. ابتسمت، لكنني تحفظت لمجرد أن قرأت العنوان: quot;النكتة القاتلة التي كلّفت كارتونست حياتهquot; وما أن انتهيت من قراءة نص ما كتبه فارزاد بازوفت*، حتى تساءلت كيف لصحيفة من مستوى quot;الأوبزيرفرquot; ان تتعجل إطلاق الأحكام؟
غلاف عدد quot;التضامنquot; الصادر بعد أيام (12 سبتمبر/ أيلول 1987) حمل العنوان التالي: quot;سؤال الى محمود درويش: لماذا لا تواجه الاتهام باغتيال ناجي العلي؟quot;، ومع نص المادة في الداخل نشرت quot;كاريكاتير رشيدة مهرانquot; بتعليق ما يزال يرافق الرسم على الانترنت: اغتيال ناجي العلي كما تعاملت معه quot;الأوبزيرفرquot;، وكانت خلاصة النص دعوة الشاعر درويش بصفته في موقع المسؤولية الفلسطينية السياسية، كعضو لجنة تنفيذية (بمثابة وزير ثقافة) ثم كرئيس اتحاد الكتاب والصحافيين الفلسطينيين، للمجيء الى لندن ومحاججة quot;الاوبزيرفرquot; قضائياً اذا استدعي الأمر، لإثبات صحة الإدعاء بأن ذاك الكاريكاتير تحديداً تسبب باغتيال ناجي العلي.
غضب محمود درويش يومها غضباً يصعب وصفه. اتصل هاتفياً من باريس، صرخ: لقد وضعت المسدس في يدي وأطلقت رصاصه على ناجي العلي!!
أدهشني ذلك الغضب. لم أفهمه، ولن. إلا إنني اعتذرت للشاعر الكبير (ولي معه، كصحافي وكفلسطيني أيضا، حكاية ليست تخلو من خلاف، وتعود الى أول لقاء معه بطرابلس/ ليبيا) ونشرت نصاً في العدد التالي من quot;التضامنquot; بعنوان: quot;توضيح استوجبه سوء التأويل.. الشاعر لا يغتال نملةquot;.

***
كانت quot;إيلافquot; نشرت، مشكورة، في رابع أيام هذا الشهر ما كتبت عن مسؤولية التأريخ لنشوء الصحافة العربية في لندن، وضرورته. قصدت من النص أعلاه، على رغم طبيعة السرد الذاتي في مجمله، أن يندرج في سياق ذلك التأريخ. إلى أي مدى أصبت فأفدت، لا أدري. إنما بإمكاني القول إن واقعة جريمة اغتيال مبدع مهموم بقضيته وأهلها، بحجم ناجي العلي وأهميته (ينتظم معرض لأعماله في لندن هذه الأيام) يجب التعامل معها، عند تأريخ حكاية quot;فليت ستريتquot; العربي، بما تستحقه، وهي ما تزال لغزاً حتى يومنا هذا، لكنها لم تكن مجرد حادثة عابرة، ومن اللافت ان بعض ما قرأت عنها لم يكن دقيقاً حتى لجهة تاريخ وقوع الجريمة ذاته.


*بتاريخ 15 مارس/آذار 1990 جرى إعدام فارزاد بازوفت في العراق بعد إدانته بالتجسس لصالح اسرائيل.