quot;اذا بقيت تفكر في الخطوة التالية طويلا، ستقضي حياتك اعرجاquot;
حكمة صينية

ان البيت الكوردستاني ولأول مرة في تاريخه الحديث يجد نفسه أمام منعطف مصيري قد لا يتكرر ويجب ان يحسن الاستفادة من هذا الظرف التاريخي المتاح لهذا الشعب الذي عانى ما عاناه بيد الجلاوزة والجلادين والطغاة وبات حلمهم ملطخ بدماء أبنائها البررة ويتجدد ذلك الحزن مع شروق شفق كل صباح يوم جديد في شغاف قلوب أطفالهم، أمل المستقبل.

اتذكر في احدى امسيات عام 1971 حين اتصل بي احد رفاقي في البيت وصحبني الى مقر اتحاد طلبة كوردستان في الوزيرية ليس بعيدا من البيت الذي سكنه قائد الامة الخالد مصطفى البارازاني بعد عودته من منفاه اثر ثورة 14 من تموز. كانت القيادة الكوردية من وزراء و مسئولين كبار قد تركوا بغداد متوجهين الى كوردستان بعد اشاعة نبا محاولة اغتيال البارزاني الفاشلة. لم تكن الهواتف المحمولة متوفرة لذا كانت عوائلنا قلقة علينا ونحن شباب لم نتجاوز 18 من عمرنا وقد ذكرت ذلك للصديق عادل مراد في مقابلتي له منذ اعوام مع تفاصيل وثائقية جديرة بالتأمل قارئي الكريم. اليوم نحن نعيش عالم جديدا، عالما يعطي للحوار اولوية قبل سحب السيف من غمده والتحضر للهجوم.

كيف يمكن نقل الصراع الفكري وبتاريخه الطويل والدموي أحيانا بين الأطراف المتنازعة الى أروقة وقاعات البرلمانات والى طاولة ألمباحثات كيف يجلس المتخاصمون والمتقاتلون جنبا الى جنب وينسون الماضي ويطوون صفحاتها المؤلمة بكل ماسيها وأحزانها؟ وكيف يبدا الجميع من جديد بمد أياديهم لبعضهم البعض للتحية والسلام؟ سأحاول في بحثي هذا عرض المفهوم العلمي للحوار وأهميتها في تأسيس المجتمعات التي تؤمن بالعلم والمعرفة وتبني أسس مجتمعاتها بممارسات ديمقراطية مبنية على احترام القانون ومؤسسات الدولة الرسمية والديمقراطية حيث السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية المستقلة ودور تلك السلطات في تثبيت أهم ركائز المجتمعات المعاصرة الا وهو احترام القانون والبعد كل البعد عن أساليب حل المشاكل والنزاعات على أسس فكرية وحزبية شمولية في حلقات حزبية ضيقة ودون إي سند قانوني و بفرض الرأي بالقوة واستخدام العنف بالإلغاء وجود الرأي الآخر المختلف مهما كان مبرراته والتي تتنافى مع مبدا حرية الرأي والعقيدة والمذهب والاتجاه.

إقليم كوردستان تجربة ندية طيبة الأعراق كنتيجة لنضال شعب عانى ما عاناه في منطقة يتلاطم فيها الأعاصير والأمواج ويبدوا ان العنف ظاهرة قد استفحلت في أعراف أممها وساد على أسلوب التعامل بين مكونات المجتمع السكاني والفكري ومؤسساتها السياسية فبات صعبا على المتعلم والعارف الواعي حتى طرح آراء حكيمة تدعوا الى المصارحة والصلح والتفاهم لا بل ان ما يدفع المواطن العادي الى اليأس ودرجات القنوط هو تواجد من يدعون بطبقة المثقفين يطبلون ليل نهار بتطبيق مبادئ تدعوا الى الأخذ بالثأر واستخدام العنف المفرط وقتل الناس دون اللجوء الى القانون وسيادة واستقلالية القضاء والغريب ان تلك الأساليب كانت نفسها التي تستخدمها الأنظمة القمعية البائدة وكان هؤلاء انذاك يمثلون راس الحربة المعارضة لتك الأفكار وذاقوا الأمرين نتيجة تلك الممارسات التعسفية التي يدعون الى تطبيقها اليوم مع خصومهم وأندادهم بعيدا عن مبدأ العدل في الحكم والسلطة الذي يبنى على أساس quot;ان المتهم برئ حتى يتم أدانتهquot; ويخلقون بذلك جوا إرهابيا مخيفا في المجتمع لها نتائج عكسية على المسار الديمقراطي ويبطئ خطوات إرساء مبادئ الممارسة الديمقراطية و إرساء بنيان مجتمعات السلم المدنية التي تطمئن إليها النفس البشرية لتعيش في امن ووئام وسلام في ظلالها.

الحوارquot;ديالوج وعكسها المنولوجquot; بحد ذاته وسيلة تعامل واتصال بحثي تحقيقي بين طرفين او أكثر. مع الحوار يبدأ دوما المباشرة ب quot; عملية quot; تؤدي في النهاية المطاف الى التغير. يعتبر الحوار احد الأسس في التعليم وتكوين نظم المجاميع quot;مجموعة العملquot; والحوار يؤدي بالنهاية الى قلب الصورة المتداولة للواقع واستبدالها بصورة جديدة يتفق عليها طرفان او اكثر. لكن ذلك يتطلب وقتا وجهدا كبيرين لكلى الطرفين ويفشل حين تكون النيات غير صادقة والأهداف متباعدة متناقضة او مبيتة او يكون احد الإطراف مستبدا برأيه ولا يقبل التوافق وحلول يخرج منها الطرفان منتصران. ان أهم نتائج البدا بالحوار هو تقارب الطرفين وبداء التعاون كخطوة أولى في عملية توافقية بعيدة الأجل لرفع جميع الحواجز والمعوقات انظر الى الحوار العربي الإسرائيلي وقارن الصورة بين ما كان عليه عشية حرب 6 ايام عام 1967 واليوم. حيث نرى اليوم ان التشنج قد زال في إجراء الحوار العربي او الفلسطيني الإسرائيلي ويتقبل الطرفان بسهولة إجراء اللقاءات المشتركة والمصافحة وحتى الظهور جنبا الى جنب في صور وأجراء المقابلات الإعلامية وفتح السفارات وتبادل الهيئات الدبلوماسية والتعاون المشترك في حين كانت تلك الصورة في عداد المستحيلات في بداية السبعينيات وكان الطرفان انذاك يتهمون بالخيانة كل تلك المحاولات وقد بدأت العملية في لقاءات أجراها المثقفون والليبراليون من الجانبين في دول الاشتراكية السابقة في رومانيا وبلغاريا على ما أتذكر وكانت تلك اللقاءات فاتحة خير للوصول الى ما عليه العلاقات بين الطرفين اليوم. فالمناقشات إثناء اللقاءات الحوارية تأخذ منعطفا انسيابيا وشفافا بوعي الجميع ورجاحة الحكمة ويزداد ثقة الأطراف ببعضهما البعض ويشعر الجميع بالراحة والطمأنينة. الحوار يؤدي كذلك الى التعلم اي يزيد من معارف الإنسان وبدفعة لاكتشاف الجديد والتعلم في عملية مشاركة جماعية يحول فيه جميع الأطراف إيجاد النواقص والأخطاء وتحويلها الى عوامل توافقية بين الواقع الذي يقوم الأطراف بمعالجتها وبين وأفكارهم التي يحملونها. ويعاني الطرفين تناقضا حادا بين ما سوف يتوصلون اليه من قرارات وبن تصوراتهم الأولية وقد يعانون كذلك من نتائج تلك القرارات كذلك وربما لعدم تطابقها مع توقعاتهم الاولية. الحوار بحد ذاته شيئا جديدا ولا يشابه عملية التواصل العادية التي نجريها يوميا مع الآخرين فهناك العديد من المعوقات التي تجعل من عملية الحوار صعبة جدا كوجود تصورات أولية قوية عن اللقاء الاول كمن يرى في الخصم ندا او عدوا جرى بينهم حروب طويلة ووقع العديد من الضحايا وخرب الديار ولكن يجب على كافة الأطراف منذ البدا معرفة ان مسؤولية كل ذلك يقع على كافة الأطراف وعدم الدخول الى نقاشات حول من الذي بدا بالخصام ولماذا وكيف واين ومن قتل اوعمل هكذا او من كان البادئ؟ ومن كان الجاني والمعتدي؟ وتتعقد الامور حين يكون الامر متعلقا بالاراضي والحدود المتنازع عليها او المستقطعة والمحتلة منها بين الدول. لا نزال نرى ان هناك العديد من دول العالم لم يتم رسم حدودها الوطنية بصورة نهائية ناهيك عن ذلك ان تلك الحدود قد جر بقلم المستعمر او المحتل او قوى الانتداب.

استمرارية الحوار تؤدي إلى حصول ثلاث تغيرات في التركيبة النفسية لأعضاء المتفاوضين ومن كلا الطرفين وتلك هي كالأتي:
1- كل طرف من الأطرف عليه مراجعة تصورات الأولية المبدئية.
2- على كل طرف ان يرى في الطرف المقابل شريكا وليس ندا.
3- يجب ان يكون هناك دوما طرف ثالث لربط نهايات الحوار وتسهيل عملية التواصل وإزاحة الحواجز والمعوقات.

الجدير بالذكر ان هذا الطرف الثالث يسهل عملية الوصول الى قرارات ونجاح الحوار فمن السهل التحدث الى الشخص الثالث الحيادي كمستمع جيد يجيد ادارة الحوار ويعدل وينصف بين المتخاصمين ولا يأخذ طرفا في المخاصمة كما هو متبع في عالم القضاء حيث يقوم المحامي كطرف ثالث بين المحكمة والمتهم. المتحاورون يجدون في دور راعي الحوار طرفا في ضمان استمرارية الحوار ويترك الأمر بحرية كاملة لجميع الأطراف لسماع صوتهم والإدلاء بآرائهم حيث يذكرهم بالتفكير بمسؤولياتهم للتوصل الى اتفاق عن طريق طرح تساؤلات واستفسارات يساعد على نهج طريق سوي وعدم الدخول في سجالا ونقاشا جانبي تحيد عن المسار الطبيعي للحوار بل يجب على راعي الحوار ان يؤمن المناخ المناسب كي يكتشف من خلالها الأطراف المتحاورة مواطن ونقاط التلاقي في أرائهم وأهدافهم كوجود مصلحة وطنية عليا او وجود تهديد وعدو مشترك من ناحية ومن ناحية أخرى عليه ان يضع أمام الجميع الصعوبات والمعوقات ومدى الاختلاف في توجهاتهم وأرائهم واحترام ذلك الاختلاف رغم انه يكون أحيانا عاطفيا ومخالفا وربما سلبيا تماما لجميع التوجهات الخاصة للطرفي الحوار وتشجيع مجرد مبادرتهم للحضور لإجراء الحوار وتقديم المديح لقابليتهم الشخصية التي تساعدهم في فتح قنوات اتصال جديدة وبناء عرى صداقات جديدة ومؤهلاتهم العامة ووعيهم بأهمية وخطورة الموقف متحملين مسؤولية نجاح او فشل الحوار.

هذا بالطبع عن الحوار الديمقراطي حيث تبادل الآراء وبحرية كاملة يستعرض الطرفان فيه وبفعالية ونشاط وبحرية كاملة تطلعاتهم وأهدافهم وتوقعاتهم ويتبادلون الآراء فيما بينهم ويكون الطرفين متساوين ولهم نفس الحقوق ويتحملون نفس التبعات و المسؤوليات على عاتقهم. وبما يجب ان يكون الطرفان إلمام أولي وتجربة بأجراء الحوار يساعدهم لتخطي العوائق ومن الطبيعي ان يكون كافة الأطراف ملمين يفلحوا الحوار وجدول الأعمال المقترح ومستعدين لقبول بعض التنازلات في مواقفهم غير متصلبين وبقبولهم الضمني مسبقا على وجود خلافات وتباين في الآراء قد تكون متباعدة عند البدا بالحوار يحتم عليهم التفكير المستمر والبحث عن الحلول والمخارج التوافقية وخطوط العوادة الى مائدة الحوار من جديد.

ان اختتام ايام الحوار بالتوصل الى اتفاقات مبدئية بين الأطراف المشاركة، كي يتم التوقيع والتصديق عليها لاحقا، مهمة جدا لاستمرارية عملية الحوار مستقبلا ويجب ان تبقى جميع الأبواب مفتوحة. هذا الحوار المستقبلي يكون على شكل سياسة استراتيجية للطرفين وطريقة مفيدة للتعلم المستمر لبناء مستقبل جديد.

انه لمن الطبيعي ان يؤدي الحوار الى اتفاق تحريري يوقعها جميع الأطراف ويلتزم بها بالتضامن متحملين مسؤوليتهم امام الجهات التي يمثلونها والخصم كذلك وهذا طبعا هدف النهائي للحوار يكون المشاركون فيها طرفا أساسيا في نجاح تطبيق الاتفاق ويتحملون التبعات الجماعية ومسؤولية إيصال جميع الأفكار والمتغيرات الذي ينص عليه الاتفاق كي لا يبقى الآخرون في عالمهم ويسرون في الدرب دون ملاحظة المتغيرات التي جاءت بها الاتفاق كتطبيق سياسات حسب العادة مخالفا لما نص عليه الاتفاق وهذ ما حصل طبعا لاتفاقيات 11 من آذار عام 1970 حيث ان نصوص ألاتفاق بقيت حبرا على ورق ولم يتم تطبيق الا الشكليات وهناك العديد من الاتفاقيات الأخرى كان لها نفس المصير وخاصة عندما كان احد الأطراف يمثل الدولة والسلطة المركزية. كما إننا نرى ان هناك العديد من الاتفاقيات التي تنصل منها الأطراف حال عودتهم وخروجهم من أبواب قاعات الاجتماع وذلك لوجود قوى خفية تتلاعب بالأدوار وبالمقدرات وتفرض وجودها من وراء الستار لتمشي سياساتها ويرضخ العديد من القوى السياسية طبعا الى تلك القوى الخارجية خاصة اذا كانت تلك القوى تمثل دول وحكومات مهيمنة وذو مصالح مخالفة لما جاء في الاتفاق. إذن ان التوصل الى اتفاق لا يعني في الأعراف المعمول بها انتهاء الخلافات بل تزداد حدة أحيانا ويؤدي الى القطيعة أحيانا فيبقى الاتفاق يتيمتا حائرا رغم توقيع المتفقين. ان الخلافات قد تستمر بين الاطراف المتنازعة حتى بعد توقيع الاتفاقيات وخاصة فيما يخص تفسير بنودها والفترات التاريخية التي يجب مراعاتها في التطبيق وامور اخرى قد يكون المفاوض سهوا او عمدا قد دسه في روح الاتفاقية. لذا اني اعتبر وجود رجال القانون ضمن الوفود المفاوضة امرا حتميا لتلافي تلك المطبات.

أن مستقبل الحوار مرهون على وجود استمرارية وإصرار لتعلم الجديد واعتبار تعددية الفكرية نعمة يؤهل الأمم إلى الصعود والرقي والحوار أداة للمعرفة ومنهل للتعلم والتغير والتطور ويفتح الأبواب على مصراعي إلى بناء مجتمعات العلم والمعرفة ويتماشى طرديا مع التقدم والتنمية الوطنية فكلما ازداد علوم ومعارف الناس كلما كانوا أكثر انفتاحا على الآخرين وقبول التغير والإصلاح وعكس ذلك فالمجتمعات التي تسودها الجهل والانحطاط الفكري والعودة إلى الوراء لا تجد نفسها إلا ومنغلقة على نفسها تجبر أبنائها استخدام الدواب في السفر محرمين الصعود والسفر حتى على متن الطائرة واقتناء التلفزيون والتلفون والكومبيوتر ولا ننسى أن يوما مر علينا كان يحرم على المرء أن يحصل على آلة طابعة والاستفادة من الاختراعات العلمية والاجتهاد وصولا إلى الرقي الفكري والعلمي مساهمين بذلك في دورة تطور الإنسانية جمعاء. لا يسعنا الا ان نبارك خطوة تأسيس مجلس التفاوض متمنين لأعضائها كل النجاح كي تعبر السفينة والربان بر الامان والله من وراء القصد.