كتب عالم الإجتماع العراقى على الوردى (1913-1995) كتابه المتميز (وعاظ السلاطين) ناقدا الوعاظ فى فكرهم وسلوكهم ووعظهم وتواطئهم مع السلاطين ضد الفقراء والمحرومين ليكونوا طبقة مترفة غنية تستغل الدين لمصالحها. كانت ردود الفعل كبيرة جدا حيث صدرت فى نفس تلك السنة خمسة كتب وعشرات المقالات ردا عليه، وصار حديث المجالس والنوادى والمنتديات. مما حدى بالوردى أن يكتب (مهزلة العقل البشرى) رادا على نقودهم وآرائهم.

إنّ رجال الدين والوعاظ هم أبعد الناس عن موعظتهم وأحرص الناس على الدنيا والمال والجاه وعلاقته بالسلطان والمترفين فكانت لهم سلطة وسطوة من السلطان الطاغية، فقال الوردى (والغريب أن الواعظين أنفسهم لايتبعون النصائح التى ينادون بها فهم يقولون للناس (نظفوا قلوبكم من أدران الحسد والشهوة والأنانية) بينما نجدهم أحرص الناس وأكثرهم حسدا وشهوة وأنانية وحبا للدنيا). يقول الوردى: (ويبدو لى أنّ هذا هو دأب الواعظين عندنا، فهم يتركون الطغاة والمترفين يفعلون ما يشاؤون ويصبّون جلّ اهتماماتهم على الفقراء من الناس فيبحثون عن زلاتهم، وينغصون عليهم عيشهم وينذرون بالويل والثبور فى الدنيا والآخرة. وسبب هذا الوعظ فى التحيز في ما اعتقده راجع إلى أن الواعظين كانوا ولا يزالون يعيشون على فضلات موائد الأغنياء والطغاة. فكانت معايشهم متوقفة على رضى أولياء أمره وتراهم لذلك يغضّون الطرف عما يقوم به هؤلاء من التعسف والنهب والترف ثم يدعون لهم فوق ذلك بطول العمر). وهكذا يكون الوعاظ مع الطغاة والمترفين ضد الفقراء ومعيشتهم عليهم فتجد الوعاظ مترفين كالمترفين.

نبيل الحيدري

ينبغى للواعظ الذى يعظ الناس صباح مساء أن يكون متعظا بل قدوة بسلوكه قبل قوله وواعظا متعظا حيث أن الله تعالى يقول (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم). وقال الشاعر
لاتنه عن خلق وتأمر مثله عار عليك إذا فعلت عظيم.

لم ينقد الوردى الدين بل اعتبر الأنبياء ثواراً ضد التقاليد من أجل التقدم والفقراء والعدالة الاجتماعية؛ قال: (كان النبى ثائراً مجدداً يدعو إلى التقدم الاجتماعى فى أقصى معانيه، وهو لا يريد الركود لأمته لأن الدين لا يستقيم مع الجمود). لكنه نقد الوعاظ والخطباء، وكان يجول فى المساجد والحسينيات ويسمع خطاباتهم النارية الحماسية فيسجلها وينقدها.

يعتبر الوردي دور الوعاظ هو تخدير الناس واستغلالهم، وهكذا كان استغلال الحكام للوعاظ ونسيان الناس للظلم الكبير فيتحول إلى ظلم بعضهم بعضاً. فيقول: (ويخيل إلى أن الطغاة وجدوا فى الواعظين خير عون لهم على إلهاء رعاياهم وتخديرهم؛ فقد انشغل الناس بوعظ بعضهم بعضا فنسوا بذلك ما حلّ بهم على أيدى الطغاة من ظلم). وعندها حدّد الوردى دور الوعاظ بالتخدير والإلهاء

وفى لقاء الوردى مع أحد الفقهاء قال له الفقيه (قرأتُ جميعَ كتاب وعاظ السلاطين باهتمام وانشداد ولا أخفى لك إعجابى الكبير به وانبهارى به فلا يوجد كتاب يوازيه لكن ليس كل ما يعلَم، يكتب ثم ينشر) وذكر له قصة الشذوذ الجنسى فى المدارس الدينية رغم صحتها وسأله مستغربا كيف عرف ذلك. وأجابه الوردى فيما أجابه (هل تريد منى أن أكذب على الناس، إنها دراسة لظاهرة إجتماعية..) ولذلك أسباب كثيرة منها الإنعزال عن النساء فى حوزات دينية تجمع الرجال فى غرف واحدة ولسنين طويلة حتى اشتهرت الأماكن الدينية وسراديبها فى قم وأمثالها بذلك ونظمت الأشعار وكتبت القصائد.

من أهم الكتب التى كتبها الوعاظ ضده هو ما كتبه رجل الدين (مرتضى العسكرى) كتابا بعنوان (مع الدكتور على الوردي) وهو يناقشه فى قضية الجنس حيث يمثل عقدة لفقهاء الفرس، يقول العسكرى (أن الإنحراف الجنسى قد انتشر فى الإسلام من جراء سببين لاثالث لهما أولا الأمراء والخلفاء حيث جرهم الترف فى الشهوة الجنسية إلى البحث وراء متعة جديدة صعبة المنال، فوجدها باللواط فى الغلمان.

ثانيا الأديرة المسيحية حيث انقلبت فى العهد العباسى إلى حانات ومواخير للغلمان وذلك فى سبيل إفساد المجتمع الإسلامى وإضعاف أمره إزاء الدول المسيحية التى تربصت به الدوائر آنذاك). إنتهى كلام واعظ السلطان العسكرى، وأجابه الوردى فى كتابه (مهزلة العقل البشرى) من جوانب كثيرة فهى ظاهرة اجتماعية ينبغى دراستها وعدم الخلط بين السبب وبين النتيجة فقال الوردى (وليس من قصدنا هنا الدفاع عن أمراء المسلمين أو أديرة المسيحيين إنما نود القول أن الإنحراف الجنسى لا ينتشر بين الناس بتأثير أمير أو دير فهو ظاهرة اجتماعية عامة وربما كان لواط الأمير وانحراف الدير من نتائج هذه الظاهرة لا من أسبابها. ومن العيوب المنطقية التى تعتور تفكير إخواننا أنهم كثيرا ما يجعلون العربة أمام الحصان وليس العكس أى يعدون السبب نتيجة والنتيجة سببا)..وفى الغرب توجد إحصاءات صريحة ودقيقة بينما فى مجتمعنا لاتوجد إحصاءات ولا صراحة خصوصا فى مثل هذه الأمور الحساسة لارتباطها بالدين والعادات والتقاليد. ويعتقد الوردى أن اللواط ينتشر بين رجال الدين كثيرا وفى مراكزهم الدينية بسبب عوامل مختلفة فيقول الوردى (يبدو أن وعاظنا يستسيغون الإنحراف الجنسى بين الناس ولا يستسيغون انتشار السفور ولعلنا لانغالى إذا قلنا أن الإنحراف الجنسى منتشر بين الوعاظ أنفسهم أكثر من انتشاره بين غيرهم، وهذه هى عاقبة من يغفل أمر الطبيعة البشرية ويعظ بما يخالفها). مما يظهر خوف الفقهاء ووعاظ السلاطين من انتشار الحقائق خصوصا الشذوذ الجنسى بين رجال الدين الذين مع الأسف يحترمهم الناس ولو علموا ازدواجياتهم وشذوذهم الجنسى وفضائحهم اليومية لرفضوهم ورجعوا إلى عقولهم بدلا من تسليم عقولهم لوعاظ السلاطين.


لقد أصدر الوعاظ فتاواهم ضد الوردى وشنعوا عليه فى الحسينيات والمآتم والجوامع وذهبت وفودهم الدينية إلى وزارة العدلية لإقامة الدعاوى ضد (الكافر الزنديق على الوردى) وحرّضوا الوعاظ حتى قال أحدهم المبرزين (هنالك ثلاثة أمور تؤدى إلى فساد البلاد هى القمار والبغاء وعلى الوردى)، كما نقله الوردى نفسه فى كتابه (مهزلة العقل البشرى) الصفحة 355.