تجاوزت منتصف الثمانين، ومررت بتجارب وتجارب، ورأيت عهدا بعد عهد، وقرأت عما كان يجري في العالم الإسلامي، واستمعت بانتظام للأخبار، ولكنني لم أشهد ما يماثل ما يجري بين المسلمين منذ العقود الأخيرة. كنا نستمع لتلاوة القرآن الكريم ndash; من الإذاعة ثم التلفزيون- في أوقات محددة، وكانت لرمضان حرمته، والمتدينون يمارسون عبادتهم، وخطباء المساجد يدعون للخير والرحمة. بجوار هذا، كانت الإذاعة والتلفزيون يبثان الأغاني والموسيقى وأفلام الحب والرقص والتسلية بلا قيود ولا فتاوى تحريم. وكانت المساجد والحسينيات مليئة بمرتاديها، فيما الحانات والملاهي والسينمات مفتوحة لمن أرادوا.

أما ما جرى منذ السبعينات خاصة، وابتداء من مصر، فالتحول التدريجي نحو تديين الإذاعة والتلفزيون، وكثرة فتاوى التحليل والتحريم، وتكرار ظهور المشايخ الذين لم يكن معظمهم متعمقا في الفقه. وكان لابد لذلك من أن يؤثر سلبا على عقول المواطنين والبسطاء والأميين وحتى على غيرهم، وبالتالي يخلق جوا ملائما للتطرف الإسلامي.
عندما يشكو من يشكون اليوم من المسلمين مما يعتبرونه إسلامفوبيا في الغرب، وهي شكوى جديدة تعود للسنوات القليلة المنصرمة، فلا بد وأنهم يعلمون أنه، بجانب فئات عنصرية غربية يكافحها المجتمع والنظام الديمقراطي العلماني الغربي، فقد بدأت تبرز منذ سنوات هواجس القلق من الجاليات المسلمة، وحتى الخوف من الإسلام نفسه- لا عن عقدة ضد الإسلام والمسلمين بل بسبب ما يقترفه مسلمون من جرائم رهيبة باسم الدين الحنيف والرسول والقرآن الكريم.
عندما تقطع الرؤوس باسم الإسلام، وعندما يطلق الإرهابيون المسلمون على أنفسهم اسم quot; أنصار الدينquot;، ويصفون أنفسهم بquot;جهاديينquot;، أي من أجل الإسلام؛ وعندما يفجرون الكنائس وحتى المساجد على من فيها؛ وعندما يصدر هذا الفقيه أو ذاك فتاوى تكفر غير المسلمين وتحرم التهنئة بأعياد الميلاد؛ وعندما يطلق الطالبان في باكستان النار على طفلة [ ملالا] وهي في حافلة التلميذات لمجرد دعوتها لتعليم الفتيات؛ وعندما تقتل أم باكستانية في بريطانيا ولدها وهو في السابعة لأنه تعثر في حفظ بعض سور القرآن؛ وعندما تبشر المدارس الإسلامية حتى في الغرب بقطع اليدين والرجم بالحجارة وكراهية النصارى واليهود وبقية غير المسلمين؛ وعندما نسمع رجلا بحجم السيد مرسي يصف اليهود بأحفاد الخنازير والقردة، ويدعو لتربية الأطفال بكراهيتهم؛ وحين يفتي أحدهم من اليوتيوب بشرعية قتل تارك الصلاة وشويه على النار وأكله- أقول حين يجري هذا وأضعاف هذا، وهذا كل يوم، ومنذ تزايد نفوذ الإخوان المصريين وصعود الخمينية، وازدياد نشاط السلفيين، [مع ميل هذا الحاكم أو ذلك للمزايدة باسم الدين وترك المجال لنشاط المتطرفين الإسلاميين]؛ فهل من عجب لبروز المشاعر والهواجس السلبية لتي أشرنا لها في دول الغرب التي تمنح المسلمين كامل حرياتهم وتعينهم وتساعدهم؟؟
هذا موضوع سبق وأن تناولناه مع العديد من الكتاب الموضوعيين، ولكنه موضوع يبقى جديدا بسبب ما نشهد من عمليات إرهاب باسم الإسلام في مختلف أنحاء العالم، وأخرها في مالي والجزائر، وجراء ما نسمع ونقرأ من فتاوى تافهة وظلامية لمن يعتبرون أنفسهم فقهاء.
إن الأديان هي أولا شأن بين الله والفرد؛ وهي ثانيا لنشر المحبة بين الناس ومحاربة الكراهية وتقريب القلوب. ولكن الساحة غدت مفتوحة بلا حدود لدعاة الكراهية واحتقار المرأة وغير المسلمين، والتحريض على التطرف والعنف باسم الجهاد من أجل الله. وكل هذا يتناقض تماما مع العقود التي سبقت السبعينات حيث كانت ظاهرة كهذه محاصرة ومضيقا عليها. فهل كان مسلمو أمس غير مسلمين؟!! وهل كان إسلامهم موضع شك؟!!
إن المواطن المسلم البسيط، الذي يتلقى يوميا هذه الكمية من الفتاوى المقرفة والمضللة والتحريضية، ويسمع أخبارquot; الجهاديينquot;، ومنهم مهندسون وأطباء وجامعيون؛ وحين تزدحم الإذاعات والتلفزيونات واليوتيوب وغيرها بكل هذه البضاعة الرديئة، وتحارب الموسيقى وأفلام الحب، فهل من عجب أن ينحرف كثيرون من مسلمي اليوم نحو التطرف الذي يقود للإرهاب وتحليل دماء الغير، ولو كان مسلما لا يجاريهم في الفكر والتخلف والممارسة؟
المطلوب أولا هو تجفيف منابع التطرف الأصولي، على حد تعبير الأستاذ العفيف الأخضر[نرجو له الصحة والعمر المديد] ابتداء من المدرسة ووسائل الإعلام والأسرة. فثقافة قائمة على هذه الأسس الركيكة والمظلمة لا تقود لغير الكهوف.