لفتني عنوان صحيفة laquo;الشرق الأوسطraquo; الرئيسي في عددها الصادر صباح السبت 19 الجاري: (laquo;11 سبتمبر الجزائريةraquo; تعيد حرب الإرهاب إلى الواجهة). شرحت مقدمة الخبر المانشيت، بالفقرة التالية: laquo;أعادت عملية الرهائن الغربيين في الصحراء الجزائرية، والتي شبهها مراقبون بـ laquo;11 سبتمبر جزائريةraquo;، الحرب العالمية على الإرهاب إلى الواجهة، وجعلت الحرب في مالي تدخل بؤرة الاهتمام الدوليraquo;.
بعد بضعة أيام (الجمعة 25 الجاري) تحل الذكرى الثانية للثورة المصرية. إثر 17 يوما من اعتصامات ميدان التحرير، سمع العالم بانتصار الثورة. يوم 11 فبراير 2011 أعلن اللواء عمر سليمان، رجل الاستخبارات القوي، تنحي حسني مبارك. بعد مخاض تواصل أكثر من عام، مَرَ المصريون خلاله بخضات عدة، بين حلو ومُر، أوصل ما يتجاوز نصفهم بقليل الدكتور محمد مرسي الى الرئاسة. قصر الاتحادية، حيث يعمل الرئيس مرسي، هو في الأصل فندق، وكان في قديم الزمان (1910) من ممتلكات شركة فرنسية، يحمل إسم quot;غراند هوتيلquot;. استُبدِل بإسم quot;قصر العروبةquot; زمن أنور السادات، المُنفذ فيه حكم إعدام علني نهار 6 اكتوبر 1981 أمام الملأ أجمعين، وعلى مسمع ومرأى من العالم كله، فيما هو واقف على منصة الاحتفال بذكرى انتصار 6 أكتوبر. منفذ الحكم، خالد أحمد شوقي الإسلامبولي، أعلن ان الغرض لم يكن قلب النظام، بدليل انه خاطب حسني مبارك، نائب السادات، بالقول ما معناه quot;انت مش مطلوب، أنا عاوز فرعونquot;. السبب توقيع معاهدة كامب ديفيد مع إسرائيل. معروف أن التنظيم الذي فرّخ الإسلامبولي يوصف، في ما يقترب من إجماع الباحثين في الشأن السياسي المصري المعاصر، بأنه تفريخ طالع من عباءة جماعة الإخوان المسلمين. كذلك يُقيّم أيضا معلم التيار السلفي الجهادي، ومفكره، سيد قطب. بالطبع، هي الجماعة ذاتها التي ينتمي اليها حزب يُعلن مرشدها العام بعد عشرة أيام فقط من إزاحة مبارك (21 فبراير) عن نية تأسيسه، وبالفعل يُشهر حزب الحرية والعدالة، يوم 6 يونيو (صدفة، أم قدر) من السنة ذاتها، ومن صفوفه يطل إسم ما كان معروفاً من قبل، ليصبح حاكم مصر المدني الأول، الآتي للحكم عبر صناديق الاقتراع، وليس على ظهر دبابة.
في الجارة ليبيا، كانت شرارة 17 فبراير المشتعلة أمام محكمة في بنغازي، تمتد بسرعة تلفت النظر. أعطى معمر القذافي نفسه، بلسانه، مبرر تدخل الناتو، حين حرّض علنا على تدمير بنغازي على رؤوس أهلها، زنقة، زنقة. كان ذلك مساء تداول مجلس الأمن بشأن حماية المدنيين الليبيين. بقية القصة معروفة.
ما العلاقة بين جزائر رهائن الغاز، مصر ثورة يناير، انتماء مواطن ليبيا بين الوطن والدولة، ثم 11 سبتمبر 2001؟
يَنْظُم شر الاستبداد علاقة تلك الحالات، ويجمع بينها، وإن بدت متباعدة. أتذكر إن بدايات تجربتي مع الوعي السياسي، في غزة أوائل الستينيات، شَهِدتْ بواكير التصادم بين التيارين القومي العروبي، والإسلاموي. الأول كان ممثلا بحركة القوميين العرب، وحزب البعث العربي الاشتراكي. الثاني، بحركة الإخوان المسلمين. كان القوميون من تلاميذ مدرسة فلسطين الثانوية، كحالتي، المتعلقون عاطفيا، أو المنتمون عضوياً، يدخلون في مجادلات تكاد لا تنتهي مع أترابهم من التيار الإخواني. مضمون الجدل كان يكاد ينحصر في شخص جمال عبد الناصر. هم يهاجمونه، ونحن نصدهم، وإذا ما احتدم الخلاف كان يعلو صوتهم بالصراخ في وجوهنا: يجب تحرير غزة من الاستعمار المصري، استعمار ناصركم هذا.
كلا الطرفين استبد برأيه، وكلاهما كان يريد إقصاء الآخر، إنما مع ذلك، كان للخلاف شكله الحضاري، ولم تكن حالة الاستئصال قائمة، كما هي الآن. وتحضرني هنا مفارقة طريفة، وهي أن الشيوعيين الغزاويين، ومعهم العلمانيون المستقلون، كانوا يجلسون بمقاعد المتفرجين في ملعب ذلك التناحر القومي ndash; الإسلاموي.
غزة هذه، هي ذاتها المحكومة الآن من إحدى فصائل الجماعة ذاتها، وإن اختلفت ألوان مظلاتها، أو تباينت أسماؤها وعناوينها، وهو الفصيل ذاته المُتهَم من تيارات ليبرالية، قومية، وعلمانية بمصر بأنه يشكل مصدر دعم لما يصفونه بميليشيات الإخوان، الجاهزة لنحر كل مخالف للجماعة، وكل معارض لحكم الرئيس مرسي.
مرة أخرى، الاستبداد هو الذي ساد فحكم. استبداد الزعامة أدى إلى فساد البطانة من حولها، وهذه راحت تحكم بالنيابة عن الجالس في القصر، همه الأول مدى اتساع هيمنة حضوره في الجوار وفي العالم كله. حدث هذا حيثما كان للدبابة القول الفصل في من يحكم البلاد ويتحكم برقاب العباد. لو لم يتسلط حكام مسهم جنون العظمة فاحتقروا عامة الناس، ولو لم يؤذوا بشكل عنفي كل من عارضهم من أحزاب أو أشخاص، ولو لم يتسلط قوميون على إخوان، وعلمانيون على قوميين، ثم ها نحن امام تسلط الإخوان على الجميع، فما العجب ان يصل الحال السياسي في العالم العربي الى ما وصله.
ها هي جزائر منهج الحل الاستقصائي، منذ زمن الشاذلي بن جديد، تعود من جديد للخطوط الأمامية في جبهات الحرب على سرطان الإرهاب. هل كان يجب الحيلولة دون أن تأخذ نتائج انتخابات 1989 مسارها الطبيعي، فلا يكون ثمة مبرر لنشوء حالة الجماعة الإسلامية المسلحة؟ هل كان يجب إلقاء الأفغان العرب الى مجاهل الضياع حتى يلم شعثهم لاحقا أسامة بن لادن ويحملهم إلى أدغال افريقيا ثم أفغانستان، وصولاً الى 11 سبتمبر 2001؟ هل كان يجب أن يصفق أغلبية الليبيين لانقلاب معمر القذافي ثم يسود الصمت أمام ما مارسه من ألوان القهر فيما بعد؟ في زيارة للسيد محمد بن غلبون، رئيس الاتحاد الدستوري الليبي، بمنزله في مانشستر قبل بضعة أيام، جرى نقاش بحضور عدد من الضيوف حول إحساس الانتماء الوطني. صُدِمت إذ سمعت من يقول أن ضعف الإحساس الوطني عند غالبية الليبيين هو الذي مكّن لاستمرار طغيان القذافي كل تلك السنين. وإذ اعترضت على ذلك التوصيف، سرعان ما وضح السيد بن غلبون نفسه أن المقصود هو ضعف الانتماء لدولة قائمة على أسس دستورية، ومن ثم الاستعداد للتضحية بها، والقبول بمن ينقلب عليها، بدل الذود عنها والتصدي لحكم الانقلابيين منذ البداية، وهو أمر غير مبرر رغم كل ما جري، وما يزال يجري، تسويقه من مبررات تتصل ببريق الشعارات التي أتى بها الانقلابيون.
محاججة قوية وصادمة، وهي تعيدنا الى جدلية الوطن والدولة، ليس في ليبيا وحدها، بل حيثما هناك وطن ودولة، هل هما واحد، أم أنهما متباينان؟ المُفتَرض أن الأوطان ثابتة والدوّل متغيرة. بيد أن مفهوم الولاء ومعياره يختلفان من شخص الى آخر ومن عقيدة الى أخرى. وما قد يبدو ولاءً للوطن بالامتثال للدولة، قابل للمناقشة، كذلك الحال مع القول أن الولاء للوطن يوجب الثورة على الدولة، إن فسدت، بدءاَ برأسها. من يقرر ماذا، ما مضمون الفساد ومفهومه؟
بالتأكيد، ثمة أوجه فساد ومظاهر طغيان واضحة للعيان وليست تحتاج من يدل عليها. أبلغ دليل على ذلك أن بدء انفجار بركان الغضب كان من تونس، من الحلقة الأضعف، كما كان يتخيل كثيرون، وبينهم أجهزة في الشرق والغرب.
لكن، ما يحدث عفوياً ليس ضرورياً أن يستمر كذلك، وليس مُستغربا، أو مُستهجناً، أن تقفز الى حلبة الحدث العفوي قوى منظمة ومجهزة، وبالتالي جاهزة، لتغيير المسار، أو المحاولة على الأقل، لصالحها. في هذا السياق، ربما يكون تسريع إزاحة مبارك مصر، بعد بن علي تونس، ثم إعدام معمّر ليبيا ومخربها، والأرجح أن على الطريق عواصم تنتظر دورها، لعل هذا كله، يشكل حلقات تتصل ببعضها لتسهيل إمكانية وصول التيار الإخواني للحكم، على أمل، عند الغرب خصوصا، تحقيق ثلاثين سنة مقبلة من الاستقرار، البالغ الحيوية لمصالح الغرب في هذا الجزء من العالم. ننتظر ونرى، والأرجح لن يطول الانتظار كثيرا.