الكون المرئي من الحتمية والسكون الى الاحتمالية واللايقين والحركة الدائمة


كان مبدأ الحتمية deacute;terminisme هو الطاغي على المشهد العلمي على مدى قرون عديدة، ثم ظهرت نظرية العماء La theacute;orie du Chaos وهي بمثابة علم جامع وشامل globale يحطم الحواجز القائمة بين مختلف الفروع العلمية والاختصاصات disciplines وهو الأمر الذي عرف بالعلم الهوليستيكي science Holistique، بحيث لم يعد ممكناً شرح أو وصف العالم فقط من خلال عناصره التكوينية أو التأسيسية الأولية كالكواركات والكروموزومات والنورونات أو الألياف العصبية quarks، chromosomes، neurone، وبالتالي كان لا بد من الإطاحة بصرح الحتمية والسكونية ومنح الطبيعة حريتها الخلاقة أو الإبداعية وماهيتها التجديدية. هذا هو المناخ الذي ساعد على انبثاق ميكانيكا الكموم أو الكوانتا meacute;canique quantique في بداية القرن العشرين كما لو كانت ريح الحرية قد هبت على عالم الذرات وما دونه من عوالم وحلت الريبة وعدم اليقين محل الحتمية واليقين داخل الغموض أو الضبابية الكوانتية flou quantique. لقد اكتشف العالم الألماني فيرنر هيزنبيرغ Werner Heisenberg أن الطبيعة تتبع مبدأ اللاحتمية واللادقة واللايقين principe drsquo;incertitude المعروف لدى البعض بمبدأ الريبة، في المستوى الذري وما دون الذري atomique et subatomique فالمعلومات التي نستقيها من تعاملنا مع الجسيم الأولي particule eacute;leacute;mentaire غير كاملة دائماً. فإما أن نقيس موضع إلكترون بدقة عالية جداً، عند ذلك علينا أن نتقبل حقيقة أننا في هذه الحالة لن نعرف أبداً وعلى وجه الدقة سرعته أو العكس إذ يستحيل معرفة الإثنين معاً بدقة متناهية. إن هذا اللاتحديد لا يعزى لعدم امتلاكنا لوسائل القياس المتقنة والمتقدمة تكنولوجياً، بل لكون هذه الميزة هي من الخصائص الجوهرية في الطبيعة لا سيما في مستواها اللامتناهي في الصغر. ومن هنا، وبسبب عدم دقة وشمولية المعلومات عن جسيم ما لأنها دائما غير كاملة، فإن مستقبل ومصير هذا الجسيم المضبوط والدقيق، الذي يعتمد على هذه المعلومات، سيكون صعب التحديد ويستحيل التنبؤ به. وبذلك تحطمت رؤية العالم الفرنسي لابلاس عن كون منظم كالساعة حيث يستطيع العقل البشري فهم ومعرفة ماضي وحاضر ومستقبل كل ذرة فيه. بعبارة أخرى هناك في مكان ما جزء من الصدفة hasard والعشوائية والاحتمالية يتحكم بمصير الذرات ومكوناتها. لذلك لا يمكننا تحديد مسار ومدار وتموضع جسيم وحركته وسرعته في نفس الوقت وبنفس الدقة مثلما نفعل بخصوص تحديد مسار ومدار القمر حول الأرض. ففي أعماق الذرة لا يكتفي الالكترون أن يتبع بتعقل مداراً واحداً ثابتاً بل يمكنه أن يتواجد في كل مكان في آن واحد. فكل جسيم، سواء كان إلكترون أو فوتون، يملك شخصية مزدوجة، فهو جسيم وموجة في آن واحد حسب الظروف وأجهزة القياس والمراقب الذي يقوم بعملية القياس. فعندما يكون على هيئة موجة يمكنه أن ينتشر ويحتل فضاء الذرة الفارغ برمته. ويكون خاضع لمبدأ الاحتمالية probabiliteacute; وتلعب الصدفة والعشوائية دوراً بديلا عن اليقين والدقة. والجدير بالذكر أن هذا التشخيص العلمي تم إثباته بالتجارب المختبرية. فكل شيء يعتمد على كل شيء interdeacute;pendance وكل شيء في الكون المرئي متصل ببعض interconnecteacute; بطريقة أو بأخرى لكننا لا ندرك ذلك بحواسنا مما يعني أن الكون المرئي يمتلك نظاماً شاملاً رغم العشوائية الظاهرة في مستواه الذري وما دون الذري. وبهذا الصدد قام آينشتين بتجربة فكرية سنة 1935 بالتعاون مع إثنين من زملائه هما بوريس بودولسكي وناثان روسن عرفت بمفارقة EPR - Einstein Boris Podolsky، Nathan Rosen ndash; بشأن اللاتحديد المكاني non localiteacute; للرد على مبدأ عدم اليقين والاحتمالية التي نادى بها بور وأعمدة النظرية الكمومية أو الكوانتية ودحض نظريتهم وإثبات بطلانها. وملخص التجرية هو أن العلماء الثلاثة اعتبروا أن جسيماً ما انفلق عفوياً الى فوتونين، أي جسيمين من جسيمات الضوء، هما A وB وبموجب قانون التناظر والتماثل symeacute;trie يغادر الجسيمان باتجاهين متعاكسين. فلو غادر الجسيم A باتجاه الشمال فسوف نرصد حتماً الجسيم B في الجنوب، إلى هنا تبدو الأمور طبيعية، لكن لا يجب أن ننسى غرائب الميكانيك الكمومي أو الكوانتي الذي يقول أن للجسيم طبيعة مزدوجة nature duelle خاصة في مستواه ما دون الذري فهو جسيم وموجة في آن واحد، وظاهره يعتمد على ما إذا كانت آلة الرصد مفعلة وتشتغل أم منطفئة أو متوقفة عن العمل، أي هل هناك عملية رصد ومراقبة للجسيم أم لا. وقبل تشغيل جهاز الرصد لا يقدم الجسيم A مظهر الجسيم بل مظهر الموجة، وبما أن هذه الموجة لم يحدد لها موقع معين فهناك حتماً بعض الاحتمالية لأن يتواجد A في أي اتجاه لا على التعيين. فقط عندما تفعل أو تشغل آلة القياس والرصد لترصد A حتى يتحول هذا الأخير إلى جسيم ما دون ذري ويدرك أنه يتجه نحو الشمال. ولكن إذا كان A لم يكن يعرف قبل رصده أي اتجاه سيسلك، فكيف أمكن لتوءمه B أن يحدس ويخمن او يحزر مسبقاً سلوك A ويحدد سلوكه لكي يتم رصده هو الآخر في نفس الوقت بالاتجاه المعاكس؟ لا يوجد معنى منطقي لذلك حسب العلماء الثلاثة، إلا إذا تقبلنا فكرة أن A أعلم آنياً instantaneacute;ment توءمه B بالاتجاه الذي سيسلكه. والحال أن نظرية النسبية لآينشتين تمنع أية إشارة بالانتقال والسفر بسرعة أكبر من سرعة الضوء، فالله لا يرسل إشارات تخاطرية signaux teacute;leacute;pathiques كما كان يقول آينشتين تعليقاً على استحالة حصول فعل آني غامض بين جسيمين منفصلين بمسافة في الفضاء بسرعة تفوق سرعة الضوء. وبناءاً على هذه التجربة الفكرية استنتج آينشتين أن الميكانيك الكمومي أو الكوانتي لا يقدم وصفاً كاملاً للطبيعة. وبما أنه من أنصار الحتمية فقد أعلن معارضته لوصف الواقع حسب الصيغ الاحتمالية لتي توسلها الميكانيك الكوانتي، فحسب تعليقه كان يتعين على A أن يعرف أي اتجاه سيسلك ويعلم توأمه B قبل أن ينفصل عنه، مما يعني أن يكون للخصائص الذاتية لــ A واقع موضوعي مستقل عن فعل الرصد والقياس والمراقبة. فالتفسير الاحتمالي للميكانيك الكمومي أو الكوانتي يفترض أن A يمكن أن يتواجد في أي اتجاه عندئذ سيكون خاطئاً حسب استنتاج آينشتين. بقيت هذا التجربة في حالتها التفكيرية لغاية سنة 1964 عندما قام عالم الفيزياء والرياضيات الإيرلندي جون بيل John Bell الذي يعمل في المنظمة الأوروبية للدراسات والأبحاث النووية سيرن CERN بصياغة نظرية رياضياتية theacute;oregrave;me matheacute;matique عرفت باسم متباينات بيل ineacute;galiteacute;s de Bell الذي أراد أن يدقق تجريبياً ما إذا كانت هناك متقلبات أو متغيرات خفية variables cacheacute;es في المنظومات الرياضياتية. وفي سنة 1982 قام العالم الفرنسي وفريقه في جامعة أورسي آلان آسبيه Alain Aspect بإجراء سلسلة من التجارب المختبرية على عدد من أزواج الفوتونات الناجمة عن شق أو إنفصام فوتون واحد إلى فوتونين متماثلين بغية اختبار صحة مفارقة أو تجربة الثلاثي EPR وجاءت النتائج حاسمة لا تقبل الجدل حيث تم انتهاك أو خرق متباينات بيل بانتظام مما يعني أن آينشتين كان مخطئاً. ففي تجربة آلان آسبيه كانت المسافة التي تفصل بين الجسيمين A و B حوالي 12 متر ومع ذلك كان B يعرف فوراً وبشكل آني ما يفعله A وهي ظاهرة آنية فورية instantaneacute; والحال إن الإشارة الضوئية بينهما التي تحمل المعلومات من أحدهما للآخر لا تمتلك الوقت الكافي لقطع مسافة الــ 12 متر الموجودة بين الفوتونين بالرغم من انتقالها بسرعة الضوء حيث استخدمت ساعة ذرية للقياس. ثم جاءت نتائج متطابقة تماماً من إعادة نفس التجربة ولكن بأجهزة قياس أكثر دقة وتطوراً سنة 1998 على يد العالم الفيزيائي السويسري نيكولا جيسن Nicola Gisin وفريقه في جنيف وكانت المسافة الفاصلة بين الجسيمين أو الفوتونين هذه المرة 10 كلم وكان سلوكهما متطابقاً وآنياً تماماً.
أجريت تجارب مماثلة على سلوك الالكترون باعتباره جسيم كمومي أو كوانتي غريب الأطوار ولا يمكن توقع سلوكه فهو قادر على أن يتفاعل مع نفسه وهذا يذكرنا بالقول الأثير الساخر لريشارد فينمان Richard Feynman الحائز على جائزة نوبل للفيزياء وأحد أهم علماء القرن العشرين:quot; إن الجسيمات ما دون الذرية لا تتصرف كموجات ولا كجسيمات ولا كغمامات ولا ككرات البليارد ولا ككتل متصلة ومربوطة بنوابض ولا كأي شيء آخر تعرفونه أو تألفونه أو سبق لكم أن رأيتموهquot;. فالعمود الفقري لميكانيك الكوانتا هو أن الجسيم ما دون الذري يمكن أن يكون في عدة أماكن في نفس الوقت وما علينا سوى معرفة ما سيترتب على ذلك وينعكس على العالم الواقعي الميكروسكوبي والماكروسكوبي. وبإدخال مفهوم اللايقين ومبدأ الريبة للفيزياء الحديثة توجب علينا إعادة شرح وتوضيح مفهوم الاحتمالية الموجود في كثير من تفاصيل حياتنا وليس فقط في نظرية الكموم أو الكوانتا رغم أهميته الجوهرية.
ومع مرور الوقت تقبل أغلب العلماء الفطاحل وعلى رأسهم آينشتين نفسه فكرة أن الطبيعة تحوي في أعماقها وجوهرها سيرورات عشوائية في ظاهرها، خاصة في عالم اللامتناهي في الصغر. فجسيم كمومي أو كوانتي ما، موجود في مكان ما محدد، وفي وقت محدد، يمكنه في لحظة زمنية أخرى لامتناهية في القصر لا تتجاوز جزء من مليار المليار المليار من الثانية، أن يتواجد في أي مكان آخر في الكون، بل ويمكنه أن يتواجد في آن واحد في عدة أماكن، سواء على بعد متر واحد أو في أطراف الكون على بعد مليار سنة ضوئية وأكثر. وهذه حقائق علمية وليس من الخيال العلمي، تم إثباتها تجريبيا ومختبرياً بفضل أجهزة ومعدات ومختبرات متطورة تكنولوجياً وبدرجة مذهلة في الدقة والاتقان، منها على سبيل المثال مصادم ومسرع الجسيمات LHC في جنيف التابع لوكالة الفضاء الأوروبية والمركز الأبحاث والدراسات النووية سيرن CERN والتلسكوب الفضائي بلانك Planck الخ.. مما يدل على أن العالم الكمومي أو الكوانتي عشوائي المظهر تحكمه الفوضى والاحتمالات وعدم الدقة والريبة أو اللايقين. في حين يعلم الجميع من خلال الدراسة والخبرة أن الطبيعة منظمة بدقة وتقودها قوانين فيزيائية ثابتة لايمكن خرقها فكيف يمكن التوفيق بين هذين التشخيصين العلميين، أي الفوضى البادية في العالم الكوانتي واستقرار عالم الواقع؟ من أهم مكونات المادة هو الفراغ الظاهر بين مكونات الذرة وما هو أدنى منها وبين مكونات الكون المرئي كالكواكب والنجوم والمجرات والكازارات والسدم والغازات والأغبرة الكونية الخ.. ولكن في واقع الأمر ثبت بما لا يقبل الشك علمياً أن الفراغ ليس هو فراغ حقيقي وهو مليء بما لا نعرفه اليوم ولا نعرف ماهيته من مادة سوداء وطاقة معتمة وأشياء أخرى لم نكتشفها بعد، وأن كل شيء وكل ذرة في الكون متصلة ومرتبطة ببعضها حميمياً وإن ارتباط الالكترونات والفوتونات والنيوترونات ببعضها لحظوياً أو آنياً في نفس الوقت لا يعد انتهاكاً للنظرية النسبية كما أعتقد البعض. ولا يخرق مبدأ السبب والنتيجة والعلة والمعلول de cause agrave; effet عكس ما تصوره آينشتين وأثار قلقه سنة 1935 من إمكانية وجود تواصل بين الجسيمات في نقل المعلومات بسرعة تفوق سرعة الضوء مما يعني إنهيار أحد أعمدة نظريته النسبية المتعلق بثبات سرعة الضوء وإنه لا يوجد في الكون ما يمكنه التنقل بأسرع من الضوء الذي تحدثه الطفرات الكمومية أو الكوانتية بين الجسيمات الكوانتية. التفسير الوحيد لذلك هو تقبل فكرة الاتصال والتواصل الدائم بين جميع الجسيمات الموجودة في الكون بما فيها تلك التي تكون أجسامنا التي تقوم باستكشاف الكون برمته وإن مجموع تلك الاستكشافات هو الذي يحدد الظاهر المستقر لعالم الواقع الذي نعيش فيه. بعبارة أخرى، كل شيء يحدث كما لو أن كل إلكترون في الكون المرئي يعرف الحالة الكمومية أو الكوانتية لأشباهه المتواجدين في الطرف الآخر للكون المرئي. بل إن بعض العلماء اقترح فرضية لا تقل غرابة ودهشة بوجود عدة عوالم متداخلة ومتوازية mondes multiples et de reacute;aliteacute;s parallegrave;les، أي إن الكون المرئي والأكوان غير المرئية أو غير المنظورة من قبلنا لحد الآن، تتداخل في تركيبة تحتوي كافة الإمكانيات والاحتمالات، إذ نحن لا ندرك الآن سوى جزء صغير جداً من الواقع الكوني الأشمل اللامتناهي في كبره وسعته وحجمه. إن ما نراه اليوم من عجائب ومنجزات تكنولوجية مبهرة ومذهلة، وهي ليست سوى بدايات بسيطة لما سيأتي من مبتكرات واختراعات، تحققت بفضل النظرية الكمومية أو الكوانتية وتطبيقاتها العملية التي نراها ونستعملها اليوم كأنها أشياء عادية مثل الستلايات والمحطات الفضائية والأقمار الصناعية والتلفزيونات والجي بي أس GPS وأجهزة الهواتف الذكية المحمولة والكومبيوترات أو الحواسيب والمركبات الفضائية والسيارات والطائرات وما يتخللها من أجهزة إلكترونية والروبوتات الخ.. يتبع