منذ نحو خمس سنوات كنت أعمل في إحدى الصحف المحلية في سورية ممن ادعت أنها quot;خاصةquot;، رغم أن العادة اقتضت بتسمية الصحف التي انتشرت في فترة ما يعرف بتنفيس الرأي السوري بـquot;صحف شبه رسميةquot;؛ كان هناك أشبه بحالة الفوضى كتلك التي يعيشها السوريون اليوم، إلا أن تلك الفوضى كانت على الورق فقط، أي أنها مبعثرة بين سطور من يكتب وينقل الحقيقة بثوبها الرسمي طبعا ndash; إن وجدت ndash; في سوريا آنذاك، لم يكن أحد يعلم ماذا يكتب أو ما الذي يريده من فكرة خطها في تحقيق أو مقال أو زاوية أو تقرير صحفي يراد منه توضيح نقاط الايجاب أو السلب في العمل الحكومي أو الخاص في تلك الفترة، وذلك أن من كان مسؤول عن التوقيع على صفحات الصحف لا يفقهون كيف يكتب الخبر الصحفي..؟ ولايعلمون حتى ما هي المبادئ الرئيسة في العمل الصحفي؟... هم فقط يعرفون أسئلة الخبر ولا يدرون حتى إن كانت خمسة أو ستة، في جريدتي التي كنت أعمل فيها لمدة عامين تقريباً تعلم الكثير ليس في العمل الصحفي بل في كيفية محاربة هذه العقول التي أجهضت كل تحركات الأقلام الشابة التي كانت تحاول خط أحرف أعتقد لو سمح لها بالظهور لما وصلت سوريا إلى ما هي عليه اليوم؟.

ولأن ثقافة الرجل المناسب في المكان المناسب كانت شائعة في تلك الفترة، كان لا بذَّ من صحفيي تلك الفترة المخضرمين وليس الكل طبعاً ndash; فلكل قاعدة استثناء ndash; العمل عكس التيار، لا لشيء، ولكن للحفاظ على كراسيهم وإطالة أمد المرتب المغري الذي كانوا يتقاضونه من هوامير القطاع الخاص وكذلك محاسن العلاقات العامة التي قد تنشأ جراء المنصب والهالة المحيطة به، حتى أن سياسة وضع العصي في العجلات كانت هي الأنسب لتكسير الأقلام، فليس هناك أفضل من أن تأتي برجل بعيد عن الاختصاص الذي تعمل به ليصبح quot;مستشار اعلاميquot; مثلاً..؟، أو أن تأتي بشابة جميلة تصلح لعروض الأزياء أو السجادة الحمراء وتسلمها منصر quot;سكرتيرة تحريرquot;..؟، أو مسؤولة ديزاينر quot;تصميمquot; وتضعها في قسم التحرير الصحفي لأنها أحبت الصحافة وأرادت أن تجرب..؟.

السوريون في غالبيتهم يمتلكون موهبة الكلام، وفن الخطابة، وفلسفة النص، هو أمر ليس بغريب لدى أحد، فقط أعطني قلماً وورقة بيضاء، وسأكتب لك أشعاراً تصلح أن تكون تقريراً صحفياً أو زاوية أو مقال ينشر على صفحات الصحف الرسمية أو الخاصة الأولى؛ أن تعمل في الصحافة في دمشق يعني أنك لم تدرس الصحافة أو مبادئها وهو المطلوب فعلياً على أرض الواقع، أما في حال كنت خريجاً وتمتلك سلاح العلم والموهبة فأنت محارب وملاحق ومكبوت من قبل أشخاص منغوليين ادعوا المعرفة في علم الصحافة وفنونها ليتسلموا مفاتيح العمل الصحفي ويعبثوا بها بحكم قوة العلاقات لا بل اللوبيات والتحزبات فيما بينهم على مبدأ ndash; مشيلي لمشيلك ndash; في تلك الفترة.

في سوريا؛ كان لا بدَّ من quot;ثورة... أولاًquot; على هوامير الصحافة المتخلفة، كان لا بدَّ من ثورة على تقديس الذات والاعتقاد بأن ما نكتبه يتعلم منه محمد حسنين هيكل، ثم اكتشفنا بعد ذلك أنه لم يكن سوى ألف باء الصحافة، كان لا بدَّ من لجم منغوليي الصحافة من أكلت الأقلام، فأصبحنا نرى الصاغرين وقد بدأوا بإدارة العمل الصحفي من قريب ومن بعيد حتى في ظل الثورة الأزمة - سمها ما

شئت ndash; ؛ فالمعارضة هي الأخرى ليست بأفضل من النظام في قص أجنحة الصحافيين، وكم سمعنا خلال الفترة الماضية في ظل الثورة عن صحافي أو صحافية وقد تعرض أو تعرضت لتهديد من أحد رموز المعارضة السورية، فمنذ اليوم الأول اشهر النظام السوري عدته الدعائية: هؤلاء ارهابيون، تكفيريون، قرويون سذج، مخربون، قتلة، مسلحون خطرون، لصوص. هكذا كان يصرخ كل يوم، وفي الداخل كان الصدى لما يقوله يتحقق يوما اثر آخر، في ظاهرة عجيبة، فبدل أن تكون الآلة الاعلامية للنظام السوري تصف الواقع، تبين انها quot;تتنبأ بهquot; إلى درجة أصبحت فيها القنوات الاعلامية السورية مدعاة للسخرية والاستهزاء وإطلاق النكات، وكذلك الأمر لدى الطرف الآخر؛ فبدل من أن يكون هناك اعلام مضاد يواجه ما تقوله هذه الآلة الدعائية ليحوله إلى حصاد حر، صب هؤلاء الزيت على النار وأشعلوها بعبارات غذت الطائفية بعد أن كانت تحت الرماد بانتظار الحكمة من أصحاب الأقلام الواعية والمسؤولة التي فضلت السكوت حتى وقت متأخر من عمر هذه الأزمة، ما دفع الكثيرين إلى اعتبار الفردية هي ما يميز فعلا الحراك الاعلامي الثوريhellip;. والكم الهائل من المصادر هو ما يجعل المواطن حرا في الاختيارhellip;. و حرا في تصديق خبرا ما بعينه أو عدم تصديقه ما أدى بدوره إلى ضياع المعلومة الصحيحة رغم أن الأمر كان جيداً في البداية.

المطلوب اليوم هو quot;ثورة اعلامquot; في سوريا... لا quot;إعلام ثورةquot;، لنتخلص كصحفيين حقيقيين من ضغوط الرقيب الداخلي الذي عشعش في نفوس الكثيرين منا، وبات التخلص منه يحتاج إلى ثورات في أنفسنا نحاكي بها تصرفاتنا تجاه الثورة كسوريين وتجاه العالم لايصال صورتنا وصوتنا موحدا غير قابل للطعن أو التشويه أو اقتناص الفرص التي من شانها القول إن: الثورة فشلت في سوريا.