تصحو الشمس في ذاك الصباح فتسأل: أين النيل؟ ولما كان البلد مهجورا والقلوب لم تزل مغلقة، وشعاع الصبح المشرق لم يبدد بنفسج السحر بعد، فقد بدا لها أن ما شاهدته من رؤى الخيال. حدّقت وتحقَقت ثم غالبت دهشتها وقامت إلى غابات الآبنوس المترامية بديرتها فخلعت عليها أشعتها كما تخلع ثوب زفافها الأول وأحاطتها بها وسألتها عن النيل. فيرجع إليها صدى الذكرى الحالمة التي طالما أرقتها وجعلتها من فرط حالها في هذيان صيروريّ. من ثم ينكسر صدى السؤال الذي طرحته مرتطما بجذوع تلك الأشجار السوداء الصلدة السامقة. نعم، ينكسر عليها كما ينكسر مسار أشعتها الذهبية دون أن تأتي إلى مسامعها إجابة إيّا كانت: فالصمت ثم الصمت يملأ المكان. عندئذ ترنو من بعد باحثة متفحصة في بهائها الذهبي فتتهادى ذائبة صوب نخل الشمال فتصافح جيده الممشوق بأشعتها الدافئة ثم تسأله: إين النيل؟ لكنه يتستر عنها تحت جريده المنسدل فلا يجيب! وبعد برهة همّت نخلة بين نخيلات الجروف لترد عليها وهي تلوّح لها بدمعها: كل الحروف اصابها العي، فلم يعد هناك متسع للمعاني ولا للحروف البالية التي هلكت موتا، كل الكلام صار همهمات مبهمة لدلائل أعجمية غير مفهومة، لقد استيقظ اللاشيء في كل شيء فحتى النيل أعرض وأبى ثم رحل إلى حيث لا رجعة! ترى جروفه السندسية المخضرة التي كان يجري بها ويغمر ضفافها إذذاك، قد حلّ بها الضباب والغياب وضربا على أرضها بيتا وخيمة، فها هو الصمت ثم الصمت يملأ المكان! تنكسر ثانية ثم تغدو هائمة في حزنها وتومئ إلى عروس الرمال سائلة تبلدياتها ولالوبها الباسق بشموخه وكبريائه، شموخ تاريخ هذه الربوع العريقة وكبرياء هذه الأرض الطاهرة الوارفة بكرمها ومحبتها للآخرين، وهذه الأخرى لا تنبس، تاركة علامة استفهام على مرّ الزمن، فكان الصمت ثم الصمت ولا شيء غيره.

وبينما الشمس في دأبها المستميت تجوب أرجاء ربوع النهر المفقود، يسرة ويمنا، سائلة عن غياب هذا النهر الخالد، يتأتى إليها من ضهاري الشمال، التي حلّت بها قبيل سويعات، لحن عذب طالما أرهفت له السمع، فأحبته وحفظته في سريرتها عن ظهر قلب. نعم، لحن سرمديّ أبدعه عاشق لأرض النيل المفقود ومحب لنخل شماله المنتظر ليرشف من سلسبيل الخلد والبقاء كما كان. جاءها اللحن وكأنه انحدر من رطب بلحه الدافئ المعسول، أتى ورديّ اللون كما كانت هذا الأرض وردية من قبل أن تعشعش علي جريد نخيلاتها تلك الغرابان وقبل أن تجتاحها أفواج من جراد الحقول المتكاثف بعد كل خريف. دندن لاحنا بنغمات تبلسم ضياع ماضيها لتضمّد جفاف الجروف الذي أحدثه غياب النهر الفردوسيّ، يترنم مغنيا: quot;يا بلدي يا حبوب، يا ابو جلابية وتوب، سروال ومكروب، جبة وسديري وسيف وسكينquot; ndash; فتحسب أشعة شمس حينئذ أن براعم الزهر المتفتق على ضفة النهر الخالد لا تزال على أحسن بهاء، وأن هذا النهر لابد أن يعود بعد طول غياب.

فهذه الشمس السائلة تظلل تلك الزهيرات وبراعمها بدفء أشعتها الحمراء فتتبدي محمرّة بلون كالدم المطبوع المخضوب على صحراء الشمال بتبرها الوضاء. كلنا يعلم أن شمس هذه الربوع لها أياد سابغة عليها، فعرفت بأنها من شموس مجرات الطيبة الخارقة للعادة، ذاك رغم الجفاف الذي بدّل وجهتها ولونها وأجدب بسببه النيل، ورغم ضراوة التصحر وزحفه في صيرورة أرض مروي شمالا باتجاه الجنوب. وفي صمت ترضي براعم الحقل بدفء الشمس الواهنة وبقليل من رحيق الصباح لتسد رمقها لتحيا، وكل ذلك في تقشف وقنوع، ومن ثمة لا تفتأ أن تهب أريجها العبق عن إيمان ونكران ذات، كما تكون سنة الله في كونه البديع، عندما تهبنا الأرض ndash; رغم الجدب - من فومها وعدسها وغثائها، وتخرج - عن ايمان راسخ ورضا فياض - من حليتها من كل زوج ولون بهيج.

صارت أحزان هذه الشمس ndash; كالأفراح ndash; فريثما تموت إحدى خيوط أشعتها يأتيها ملاك مستبشر وكأنه قبض روح صغار أشعتها في التو، يذكرها بقولٍ نافعٍ، وذكر آي القرآن في طه، وعبس وتولى أن جاءه الأعمى، والعصر إن الإنسان لفي خسر، وقل أعوذ برب الناس، ثم يقرأ عليها من سورة الكهف ومن المعوذتين، ومن ثم يختمها بِ quot;إذا جاء نصر الله والفتحquot; فيقول: افرحي يا شمس وابشري، ففلذة كبدك من الأشعة هلكت شهيدة في بلاد النهر الطاهرة، فأي فخر لها ولك! وهي في حزنها ذاك، إذ تحاول أن تكون كلها إذن صاغية لما يلفظ به هذا الرسول quot;المتشائلquot;، فتسترجع أنفاسها لتستبشر خيرا به، ثم تجتاحها موجة فرح عابرة، سيما عندما قال: إذا جاء....، لكنها تستيقن ثم ترجع البصر كرتين، فتسأل: هل هو مبشرٌ ورسولُ خيرٍ بحق أم أنه نذير لأهوال وآهات تالية؟ لكنها في هذيانها هذا لا تنتفض عليه، مبشرا كان أم منذرا، ولا تجرؤ في أن تتصدى لما قال، فترجع سائلة نفسهما مرّة تلو الأخرى: أين النيل؟ أين نهر الجنة الخالد يا هذا؟ وأين براعم الحقل؟ أماتت أم انطمست بها الأرض بوادٍ غير ذي زرعٍ؟ فيرجع إليها صدى التاريخ، ثم ينكسر كما تنكسر عزيمتها الذهبية دون أن تتهادي إلى مسامعها إجابة منه، إيّا كانت، فالصمت ثم الصمت يملأ المكان؛ فالصمت ها هنا ولا شيء غيره.

[email protected]