لاشك أن حوار التقريب هو مبدأ إنسانى وأخلاقى وإجتماعى وعقلى فضلا عن كونه مبدأ إسلاميا قرآنيا فى جملة من الآيات والمحاور ومنها قوله تعالى (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم) وما تعنيه كلمة سواء بالمشتركات وما اتفقت عليه الديانات الإبراهيمية حتى تلتقى وتتعاون بالفكر والمحبة والسلام خصوصا ما تشهده الساحة من ثقافة للكراهية والقتل والبغضاء والعدوان.
الأديان الإبراهيمية الثلاث تشترك فى الكثير من المبادئ والقيم والعقائد والأحكام. إن هذه الأديان تؤمن بالله سبحانه وتعالى الخالق المدبر (وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) وتؤمن بالحياة الآخرة فى الجنة والنار وغيرها من المفاهيم الدينية العامة المشتركة.
تشترك فى قصة الخلق الأولى التى تظهر فى آدم أبو البشر وزوجته حواء وكونهما فى الجنة يتنعّمان (وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ. فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ. وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ. فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ. قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ. قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ في الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ. قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ) كما جاء فى القرآن الكريم.
ثم المعصية الأولى لآدم والغواية من الشيطان له ولزوجته حواء فى الأكل من الشجرة المنهى عنه (وعصى آدم ربه فغوى) لينتقل من الجنة إلى الأرض حيث البلاء والإمتحان كما فى القرآن (قال اهبطوا منها بعضكم لبعض عدو ولكم فى الأرض مستقر ومتاع إلى حين). وكذا قصة ولديهما قابيل وهابيل ونزاعهما لدرجة أحدهما يقتل أخاه (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ. إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ. فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) كما فى القرآن، وهو أول دم يسفك على الأرض من أخوين كما جاء فى سفر التكوين.
يعتبر إبراهيم مهمّاً فى هذه الديانات الثلاث، وأنبياؤها يرجعون إليه نسباً حيث النبى موسى عن طريق إسحق بن إبراهيم وكذا مريم العذراء أم عيسى ترجع فى نسبها إلى إسحق بن إبراهيم، بينما النبى محمد فيرجع نسبه إلى إسماعيل بن إبراهيم وعندها ينتسب الأنبياء الثلاث لإبراهيم فضلا عن القيم المشتركة ولذا من الطبيعى تسميتها بالديانات الإبراهيمية.
لقد ذُكِرَ إبراهيمُ مرارا فى التوراة فى سفر التكوين والخروج وغيرهما واعتبر مباركا ويسمّونه (أبونا إبراهيم)، كما تعتقد المسيحية بكون إبراهيم أسوة يقتَدى بها. وأمّا الإسلام فيعطى أهمية كبيرة لإبراهيم فهو نبى ورسول ومن أولى العزم والمؤسس لمبدأ التوحيد وصاحب القدرة على الحوار مع الآخر وقد ميّزه الله تعالى بآيات منها كونه خليلا للرحمن (واتخذ الله إبراهيم خليلا) واعتبره لوحده يمثّل أمة كاملة (إنّ إبراهيم كان أمة) وغيرها كما هو مذكور فى القرآن.
وفى قصة التوحيد التى قادها إبراهيم فقد أراه الله ملكوت السموات والأرض جاء فى القرآن (وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين. فلما جنّ عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربى فلما أفل قال لا أحب الآفلين فلما رأى قمرا بازغا قال هذا ربى فلما أفل قال لئن لم يهدنى ربى لأكونن من القوم الضالين. فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربى هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إنى برئ مما تشركون. إنى وجهت وجهى للذى فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين). كما جاءت قصة مولد إسماعيل من هاجر وهجرتها وقصة مولد إسحق من سارة وكذلك قصة محاولة الذبح لولده (يا بنى إنى أرى فى المنام أنى أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدنى إن شاء الله من الصابرين) ثم فداؤه وغيرها.
وأمّا قصة الحج فهى تمثل رحلة إبراهيم وحركته ودعوته، ومناسك الحج للمسلمين تمثّل فى مفاصلها حركة إبراهيم سواء الطواف سبعة أشواط أو رمى الشيطان بالجمرات أو جعل مقامه مصلى (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى)، والسعى بين الصفا والمروة حيث كانت هاجر تلهث لولدها إسماعيل بحثا عن الماء (إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما) وغيرها من المناسك المعروفة حتى دعى إبراهيم ربّه (فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليه وارزقهم من الثمرات) وهو الذى تحقق فعلا حيث الملايين تحجّ إليه حجيجاً ورزقهم موفور ومتيسّر لكل حاجّ ومعتمر.
الأنبياء يسيرون على خط واحد وهدف واحد ومبادئ واحدة لأنها من مصدر واحد هو الله تعالى الذى أوحى إليهم فقد قال سبحانه (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان...) فالإيمان بهم جميعا كما قال تعالى أيضا (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتى موسى وعيسى وما أوتى النبيون من ربهم، لانفرّق بين أحد منهم، ونحن له مسلمون) وباعتبار أنّهم انبياء ورسل من عنده سبحانه فهو لايفرّق بين أحد منهم. كما جاء فى القرآن (قل كلّ من عند الله) (لانفرّق بين أحد منهم) فلا يعقل التناقض بينها وقد أطلق القرآن لفظ الإسلام على الديانات الإبراهيمية كما سمّى إبراهيم مسلما.
كذلك قصة نوح والسفينة حيث جاء فى القرآن الكريم (وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون. واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولاتخاطبنى فى الذين ظلموا إنهم مغرقون. ويصنع الفلك وكلما مرّ عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون. فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحلّ عليه عذاب مقيم) وغيرها.
فالقرآن يعتبر التوراة والإنجيل كتبا سماوية أنزلها على انبيائه موسى وعيسى وسمّاها نورا وهداية وفرقانا (وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس) (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور) (وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور) (وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون) (قل من أنزل الكتاب الذى جاء به موسى نورا وهدى للناس) hellip; وكان القرآن مصدّقا لهما كما كان عيسى مصدقا لموسى الذى سبقه (وإذ قال عيسى بن مريم يابنى إسرائيل إنى رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدى من التوراة) (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدّقا لما بين يديه من الكتاب) واعتبر موسى كليما لله تعالى (وكلّم الله موسى تكليما) وجعله يغلب السحرة (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي. اذْهَبَا إِلَي فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَي. فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ
يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَي. قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَي. قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَي. فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَي مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَي. إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَي مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّي. قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَي. قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَي كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَي. قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَي. قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَي. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الاَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّي. كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لاُولِي النُّهَي. مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَي. وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آَيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَي. قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَي. فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًي. قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًي. فَتَوَلَّي فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَي. قَالَ لَهُمْ مُوسَي وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَي اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَي. فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَي. قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَي. فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَي. قَالُوا يَا مُوسَي إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَي. قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَي. فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَي. قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الاعْلَي. وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَي. فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَي. قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَللاقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلاُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَي. قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَي مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَي) وهارون أخو موسى (سلام على موسى وهارون) كما كان هناك أنبياء آخرون من بنى إسرائيل مثل الياس واليسع وذا الكفل (واذكر اسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار) (وإن الياس لمن المرسلين) وغيرها.
وفى مدح بنى إسرائيل جاء قوله تعالى (ولقد آتينا بنى إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضّلناهم على العالمين) وقد جاء تفضيلهم غير مرة فى القرآن من سورة البقرة مرتين وكذلك سورة الجاثية لذلك حار المفسّرون بين مشرّق وبين مغرّب لتفسير ذلك وتأويله.
كما اعتبر عيسى كلمة الله وروحه (إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه) وأعطاه المعاجز حيث يبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى بإذن الله (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ
اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا ۖ وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ۖ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي ۖ وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي ۖ وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي ۖ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) وأمثالها آيات عديدة.
وكانت أمه مريم لها المكانة الرائعة المصطفاة وسمّى سورة كاملة باسمها تمجيدا وتخليدا (يا مريم إنّ الله اصطفاك وطهّرك واصطفاك على نساء العالمين) وتحدث بحملها الإعجازى بعيسى من دون أب بينما لم يذكر القرآن أم النبى محمد ولا زوجته خديجة رغم منزلتهما فى الأحاديث والسيرة.
وكذلك قصص لوط وسليمان ويعقوب وداود ويوسف وغيرهم المذكورات فى الكتب المختلفة وإن اختلفت فى بعض التفاصيل وهذا له موضع آخر من الحوار. والعديد من التشريعات مشتركة بين الأديان الإبراهيمية ربما أشار فى بعضها إلى الكتب التى سبقتها مثلا تحريم قتل النفس البريئة فقد جاء فى القرآن (كتبنا على بنى إسرائيل أنّه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد فى الأرض فكأنّما قتل الناس جميعا) حيث ربطها فى القرآن بتحريمه السابق على بنى إسرائيل فى التوراة ليكون الخط الإلهى واحدا متسقا.
وقد تزوج النبى من النصرانية مارية القبطية كما تزوج من يهوديات مثل صفية بنت حى بن أخطب وجويرية بنت الحارث وريحانة بنت زيد التى تنتسب إلى شمعون من بنى النضير فى انسجام ومحبة وألفة
وعندما عاش المسلمون الحصار أمرهم النبى بالهجرة إلى ملك مسيحى هو النجاشى لأنه لايظلم أحدا وكان المسلمون بأمان عنده رغم إرسال قريش وجهاءها مع هدايا ثمينة ومحاولة إرجاعهم فرفض النجاشى كل الإغراءات وعاش المسلمون بأمان تحت حكمه الرشيد.
وقد جاء فى القرآن الحرية الدينية فى جملة من آياته ومنها عدم الإكراه (لا إكراه فى الدين) وكذلك (لكم دينكم ولى دين) والإختيار فى الدين (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) ليعطى أفق الحرية الدينية فى قاعدة عامة واضحة صريحة لاغبار عليها تكون حاكمة على الإستثناءات التى جاءت وفق ظروف خاصة زمانية أو مكانية وشرائط موضوعية خاصة.
لقد عقد النبى الكريم سلسلة من الإتفاقات تدل على السماحة والإحترام والتعايش البنّاء. وقد سأل بعض الصحابة النبى عن مصير اليهود والنصارى والصابئة وهل يدخلون الجنة فانتظر الوحى لينزل صريحا واضحا لا لبس فيه بقوله تعالى (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم
الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولاهم يحزنون) وقد نزلت بفروق بسيطة غير مرة فى القرآن فى سورتى البقرة والمائدة ليثبت تعالى أن العمل الصالح والمشتركات تجعل إمكانية دخول اليهود والنصارى وحتى الصابئين فى منزلة عالية فى الجنة (لاخوف عليهم ولا هم يحزنون) وهو ما أثبته النبى نفسه عمليا فى قصة المعراج عند زيارته الجنة ورؤيته مجموعة من اليهود والنصارى خالدين فى الجنة فسألهم عن أسباب دخولهم الجنة فأجابوه أن أعمالهم كانت صالحة فاستحقوا بها دخول الجنة خالدين فيها أبدا.
إن حوار التقريب لايسعى للنظر إلى الآخر كخصم أو عدو يريد الإنتصار عليه كما يفعل البعض أو محاولة تحويله وتغييره كما سعى بعض آخر بل يسعى إلى الإستماع إليه لتفهّمه وإيجاد أحسن السبل للحوار البناء (ولا تستوى الحسنة ولا السيئة إدفع بالتى هى أحسن) (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك) وإيجاد المشتركات فى كلمة سواء تجمعهما على الخير والبر والصلاح والمحبة فهو يعيش فى النفوس الكبيرة التى تعلو على الذات وتسمو على الأهواء فى مصالح عليا ومبادئ كبيرة تتواضع بأريحية وشفافية وخلق، وهى هدف للبعثة حيث قال الرسول (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) و (ما الدين إلا الخلق) والمحبة والسلام.
جاء فى القرآن (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا فى السلم كافة) وجاء فى سفر أرميا (سلام البلد الذى أوعزت بنقلكم إليه أسرى وصلّوا إلى الله من أجله ففى سلامه سلام لكم) وجاء فى إنجيل متى (طوبى لكم إذا عيَّروكم وطردوكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة، من أجلي، كاذبين. افرحوا وتهللوا. لأن أجركم عظيم في السماوات) (من لطمك على خدك الأيمن فأدر له خدّك الآخر، ومن أراد محاكمتك ليأخذ ثوبك فاترك له رداءك أيضا، ومن سخّرك أن تسير ميلاً فسر معه ميلين، ومن طلب منك شيئا فأعطه، ومن جاءك يقترض فلا تردّه أبداً). وعلينا نشر ثقافة السلام والتعايش والمحبة والبناء والتواصل والتفاهم والحوار فهى خير من ثقافة الكراهية والبغضاء والعداوة والقتل لأن الدين جاء رحمة للناس كلهم وقد لخّص الله رسالة نبيه قائلا (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) ولم يقل للمسلمين خاصة بل للعالمين جميعا ليكون الدين رحمة ومحبة فى التعايش والتراحم والتآلف والتعاون والتآزر والإنسانية.