الديمقراطية تفشل في الغرب كما نراها تفشل في مشرق الديمقراطيات الجديدة. تفشل لذات الأسباب عندما يقرر أصحاب الآراء المتطرفة أن النقاش والتنازل يعني ضعف موقفهم أو إهانة لشخصهم. هذا ما يحدث في أمريكا عندما تعنت الحزب الجمهوري في الكونغرس رافضا تمرير الميزانية السنوية لـ ٢٠١٤ عندما أضاف الجمهوريون في مجلس النواب بندا إلى قرار الميزانية يلغي التأمين الصحي الجديد المعروف للعامة بـ quot;أوباماكيرquot; بالرغم من أنه قانون قد تم إقراره والتتداول حوله ومن ثم التصويت عليه إيجابا في الكونغرس في عام ٢٠١٠.

في بداية شهر أكتوبر الحالي تم الغلق الجزئي للحكومة الأمريكية والذي أدى إلى تهميش قرابة المليون موظف حكومي إما بوضعهم من ضمن قائمة الموظفين ذوي الإجازة دون مرتب أو هؤلاء المجبرين على العمل دون راتب طوال فترة إغلاق الحكومة. الحكومات لا تغلق أبوابها طواعية حتى في الدول الفاشلة، ولكن ذلك ما يحدث الآن في أمريكا حيث تأثرت جميع الوزارات وأجبرت على تجميد العديد من الخدمات. فعلى سبيل المثال لم تحقق هيئة المواصلات في حادث قتل عامل صيانة كان يعمل على تحديث قضبان الحديد في مترو أنفاق واشنطن في عطلة نهاية الأسبوع المنصر لأنها لم تحصل على ميزانية العمليات اليومية. السياح والزائرين سيتعترضهم حواجز حديدية تمنعهم من الوصول إلى بعض المعالم الوطنية المشهورية والمنتزهات والحدائق الوطنية المعروفية بسبب تجميد الخدمات العامة في فترة الإغلاق الحكومي. حتى بعض الخدمات الإلكترونية لم تعد متوفرة مثل موقع ناسا على الإنترنت. إذا كنت من المهتمين بالفلك والنجوم فعليك الآن أن تنتظر المساء وتنظر إلى السماء كما كان يفعل الآباء والأجداد.

لو أن المشكلة وقفت على هذا الحد لكان الوضع بسيطا - ليس على الأمريكيين بل بالنسبة للمواطن العالمي. ولكن هناك مشكلة أكبر وأخطر فوق مشكلة الإغلاق الجزئي للحكومة وهي أن الخزانة الأمريكية سوف quot;تفلسquot; أي أن رصيدها من الأموال السائلة سيصبح quot;صفراquot; بعد بضعة أيام؛ بحلول ١٥ أكتوبر. هذه المطامة الكبرى ستؤدي إلى فشل النظام المالي الأمريكي وإلى إنهيار النظام الإقتصادي العالمي ولكن الخزانة الأمريكية لديها الحل. كانت الخزانة دائما تستدين أو تستلف الأموال اللازمة لتمويل الحكومة ولكن القانون الأمريكي يسمح للخزانة بالإستدانة إلى سقف محدد وهو إلى ما دون الـ ١٧ ترليون دولار. الدين العام الأمريكي بالفعل الآن وصل إلى هذا الحد ولكن هذا الرقم الفلكي ليس كبيرا كما يمكن أن نتخيله لأن الميزانية السنوية الأمريكية تتجاوز الـ ١٥ ترليون دولار.

بإمكان الكونغرس إصدرا قرار برفع سقف الدين العام وهو ما اقترحه الجمهوريون على الرئيس الديمقراطي باراك أوباما يوم الخميس المنصرم. ولكن الزيادة المقترحة سوف تدفع تكاليف الدولة إلى الـ ٢٢ من نوفمبر المقبل أي لشهر إضافي تقريبا. هذا التنازل المؤقت هو نتيجة للضغط الذي تقوم به الشركات الكبرى التي تهدد بدعم الديمقراطيين إذا لم يمتنع الجمهوريون من عرقله توفير المال العام لتمويل الحكومة ولأن الإحصاءات الأخيرة كشفت عن أن ٢٨٪ من الأمريكيين فقط راضين عن أداء الحزب الجمهوري وهو أقل مستوى إطلاقا منذ عام ١٩٩٢ حين بدأت شركة جالوب في إجراء إحصاءاتها الشهرية حول أداء الحزبين.

من المتوقع أن يستدرك الحزب الجمهوري بقيادة جون بينر في مجلس النواب أن تخاذله في الوقوف في وجه القلة في حزبة في مجلس النواب من أتباع توجه quot;تي بارتيquot; أو ما يترجم إلى quot;حزب الشايquot; سيؤدي إلى الإساءة إلى فرص الحزب الجمهوري في الانتخابات المحلية والوطنية المقبلة وعلى رأسها الإنتخبات الرئاسية لعام ٢٠١٦. إنه لأمر مهين لأقدم ديمقراطيات العصر الحديث بأن تتبع إستراتيجية إقصائية كما يقوم بها دعاة الحرية في الديمقراطيات الحديثة في العراق ومصر وليبيا وغيرها. تلك الحكومات الديمقراطية تعتمد على أساليب ملتوية للإستمرار في الحكم أو لقلب ميزان القوى دون أي إكتراث بمصير الشعب. في نهاية الأمر لن يسمح الأمريكيون لأقلية متصلبة تريد قلب موازين القوى بأساليب متطرفة بالتسبب في هدم نظام يهدف إلى تحسين أوضاع مواطنيه ولذلك فلن يقع النظام المالي العالمي ضحية لثلة غير مستعدة لتقديم التنازلات. ألا يعلمون أن الديمقراطية هي لعبة لا تستوي إلا بالتوافق والتنازلات؟