تموج الساحة السياسية المصرية الآن بالتيارات والصراعات السياسية. فليس الأمر كما قد يبدو في نظر البعض، مجرد صراع بين قطبين أو جبهتين، جبهة الدولة المدنية أو العلمانية، في مقابل جبهة الدولة الدينية الثيؤقراطية. فها هي الناصرية تستيقظ من قبرها، لتبدأ صيحاتها تعلو، نتيجة الفشل الذي امتد منها ليشوب أيضاً كل ما تلاها، وتصحر الفكر السياسي للنخبة المصرية، التي لم تجد مخزوناً لديها غير تلك الشعارات الناصرية البالية. دون أن تكلف نفسها مراجعة ما أدت إليه تلك الشعارات في الماضي، وما إن كانت صالحة الآن على الأقل لرؤية العالم ومقاربة مشاكلنا المستعصية بموجبها. كما أنه إذا كان أشد ما نلوم عليه نظام مبارك، هو تركه الإخوان والسلفيين يستشرون في الشارع المصري ومؤسسات الدولة، فإنه ربما سيكون الوضع اليوم وغداً أسوأ من هذه الناحية. خاصة في ظل نهج الموائمات ودعوات المصالحة والصفقات السرية، فقد يحدث أن نقصي رموز وقيادات التيارات الدينية عن كراسي الحكم. وفي مقابل ذلك ننقاد لرؤاهم، وننصاع لتوجيهاتهم وهيمنتهم، ضماناً لبقائهم ساكنين مؤيدين. . سيكون الحال هكذا أسوأ من عهدي السادات ومبارك. أيضاً كنتيجة للتيارات المتضاربة في جبهة القوى التي دعت لثورة 30 يونيو، على الأقل في نطاق النخبة المتصدرة للمسرح، وإن لم يكن لها قاعدة جماهيرية حقيقية، بل وقد يصل الأمر في نظر البعض إلى حد القول أنه مع مرور الوقت، تثبت الأيام أن نظام مبارك رغم سيئاته وخطاياه، كان أفضل الممكن، الذي ربما لن يتيسر لنا الآن.

تطبيق آليات الديموقراطية الآن في مصر، لن يؤدي إلا إلى ما يسمى quot;تحصيل حاصلquot;، بمعنى افتقاد العناصر الكفيلة بتحريك الحالة المصرية مما ترزح فيه الآن من تشتت واختلاط وتخلف، بما يقضي على أي أمل في تحقيق نتائج ومنجزات، من الطبيعي أن تطمح فيها الشعوب التي تقوم بثورات، وتدفع من دمائها ومقدرات حياتها ثمن باهظاً لثورتها، فمهما كان شكل النظام السياسي وطبيعته، هو دوماً بطريقة أو بأخرى، انعكاس للحالات السائدة في الشارع، ولن نحصل على نظام سياسي رشيد وحداثي، ما لم تحدث في الشارع تغييرات مناظرة تؤدي لذلك. . قديما قال أحدهم أعطني محوراً ثابتاً خارج الأرض وأنا أنقلها، فلا إرهاصات ثورية جديدة تموج بها الساحة المصرية، لكي نأمل بالثورة في إتاحة الفرصة لها، فكل ما يموج ويتصارع بالساحة هو القديم البائد فاقد الصلاحية من الأفكار والأيديولوجيات، ما بين اشتراكية وعروبية وناصرية ورؤى ثيؤقراطية.
نستطيع ولو بقدر من التجاوز توصيف حركة 25 يناير، بأنها ثورة quot;شباب ثائرquot; ساندها الإخوان، ثم قامت لتدارك خطاياها ثورة 30 يونيو، والتي يمكن اعتبارها quot;ثورة شعبquot; ساندها الجيش، بل وإلى حد كبير ولدى كثيرين، أن ثورة 30 يونيو كانت ثورة على ثورة 25 يناير ونتائجها الوبيلة. . الآن يعيد الكَرَّة بعض من quot;شباب ثائرquot; بمساندة من الإخوان، سعياً لإجهاض quot;ثورة الشعبquot;. . لا بأس فهي quot;الفوضى الخلاقةquot;، لكن في غمار الفوضى، من الحماقة أو المغامرة الإقدام على استخدام آليات الديموقراطية، فلن تنتج هذه المرة أيضاً بأفضل مما سبق وأنتجت منذ عام مضى.
وليس من الغريب هكذا أن نرى أن خارطة الطريق التي تم إعلانها كنتيجة لثورة 30 يونيو، قد أضاعت فرصة ذهبية للحصول على دستور حداثي، يدفع مصر باتجاه المعاصرة والتقدم، فلو اكتفينا بلجنة العشرة، واختيرت من عناصر قادرة على وضع دستور لدولة علمانية حديثة، quot;كما يقول كتاب الدساتيرquot;، وعُرض هذا الدستور على الشعب مباشرة ليكتسب شرعيته، لكان قد حقق النجاح، في فورة نقمة الشعب على الإخوان وحكمهم، أما بهذه الطريقة المتبعة الآن، والتي تحمل لافتة quot;دستور توافقيquot; يرضي جميع الأطراف، فلن نحصل إلا على دستور يعكس الوضع الحالي المهلهل سياسياً وثقافياً، دستور متناقض، يعد دستور 1971 بالنسبة له تقدمياً وحداثياً.
تتعالي الآن بمصر الصيحات والنداءات للفريق أول/ عبد الفتاح السيسي للترشح لرئاسة الجمهورية، والحقيقة أن خلف هذا المنحى أكثر من مجرد اختيار شعبي لمرشح في انتخابات رئاسية قادمة، إذ يبدو خلفه بوضوح استدعاء quot;للمخلصquot; أو quot;المهدي المنتظرquot;، أو بلغة السياسية quot;المستبد العادلquot;، وهو ما تجازوته النظم السياسية في العالم، متجهة للديموقراطية، وإن كان بقاء هذا النزوع في الشرق له ما يبرره، من حيث المستوى الحضاري والسياسي المتخلف لشعوب الشرق، ومن حيث ما نتناوله في هذه السطور، من عدم توافر المقومات اللازمة الكفيلة بأن يأتي التطبيق الديموقراطي في مصر بالنتائج الإيجابية المرجوة، وليس بمثل ما تحقق منذ عام واحد، من سيطرة أسوأ مكونات الشعب المصري على السلطة، وكان نتيجتها ما شهدناه من ثورة شعبية، يقال أنها غير مسبوقة في تاريخ البشرية، من حيث حجم الحشود المشاركة فيها.
الموسف أن نظرية المستبد العادل قد سبق وأن فشلت في مصر والمنطقة العربية، فلم تثمر غير التدهور كما في الحالة الناصرية، أو الخراب الشامل كما في الحالة الصدامية، والثورة الفوضوية المدمرة في الحالة القذافية والأسدية، ليبقى أمامنا خيار ربما وحيد، وهو نظام حكم الأوليجاركية Oligarchy، والذي فيه تتولى نخبة متآلفة الإمساك بمقاليد الحكم، هذا إذا ما توفرت للشعوب نخب مستنيرة، تستمد شرعيتها من انبثاقها أو تماهيها مع آمال الجماهير في مستقبل أفضل، وإن لم تستمد منها رؤاها لمعالم الطريق الذي يصل بها لتحقيق هذه الآمال.
تستطيع هذه الأوليجاركية بمساندة القوات المسلحة، وبتعضيد ومساندة من المجتمع الدولي ومنظماته، أن تدفع للأمام قضية التنمية، وتقوم بتطوير نظم التعليم، وتحديث سائر مؤسسات المجتمع، وتقوية المجتمع المدني عبر المنظمات الأهلية، في هذه الحالة يمكن أن يتمكن الحكم الأوليجاركي من تحديث المجتمعات وتهيئتها لتفشي الليبرالية والانفتاح على العالم، بما يسمح في المستقبل باستخدام الآليات الليبرالية، وعلى رأسها الديموقراطية، لتأسيس مجتمعات ونظم حكم حداثية وفقاً للمعايير العالمية.
في مقاربة منذ عدة أعوام، سبق وأن رشحنا قطاعاً مستنيراً، كان موجوداً بالفعل في لجنة السياسات بالحزب الوطني أيام مبارك، ليقوم بدور الأوليجاركية المستنيرة، التي تحرك عملية الإصلاح من داخل النظام، لكن هذا لم يحدث، وظلت العناصر المستنيرة مهمشة، وتستخدم فقط لتجميل صورة النظام بتواجدها في بلاطه، وسيطرت على سنوات عصر مبارك الأخيرة، ما يصح توصيفه بالعصابة الانتهازية، وليس ما نتحدث عنه من أوليجاركية مستنيرة موحدة الرؤى، مدفوعة بقناعاتها وإخلاصها للوطن.
في الحقيقة لا نستطيع أن نتحدث في نظام الحكم والأوليجاركي عن رقابة سياسية شعبية، لكي تعوق الفساد السياسي، لكن الفساد المالي والإداري يكون في هذه الحالة محكوماً بالنظم المؤسسية والقوانين الموضوعة، وتكون النتائج المتحققة على أرض الواقع هي الدليل على صحة المسيرة السياسية، والأمر هنا مرتهن بمدى كفاءة وإخلاص هذه النخبة الحاكمة، وبالقوة الأمنية المساندة لها، كما أن النتائج العملية هي الضمانة الوحيدة لاستمرارية مثل هذا النظام، خاصة في ظل تزايد الوعي الشعب المصري بصورة غير مسبوقة، وبالتالي يكون سيف الثورة الشعبية مشهراً في حالة تردي الأوضاع، كما سبق وحدث في عهد مبارك ثم عهد مرسي.
تتبقى عدة إشكاليات، كيف تتكون هذه النخبة، وكيف تتمكن من الإمساك بمقاليد الأمور، وكيف نضمن تماسكها وتوافقها في الرؤى، وكيف تحمي نفسها من النزعات والطموحات الذاتية لأفرادها؟. . لعل محاولة العثور على إجابة أو حل لهذه الإشكاليات، لابد وأن يعود بنا إلى الاحتياج إلى quot;مستبد عادلquot;، يكون هو رابطة العقد، ليتجدد معه الخوف من الدوران في حلقة مفرغة، تبدأ بالاستبداد، وتنتهي بالفساد والثورة!!